مسافر ليل يكتفي بالتفسير ويغلق باب الاجتهاد

مسافر ليل يكتفي بالتفسير ويغلق باب الاجتهاد

العدد 580 صدر بتاريخ 8أكتوبر2018

إن العلامة المسرحية كما تتصورها آن أوبرسفيلد Anne Ubrsfeld، تتشكل من كافة عناصر بناء العرض المسرحي، ما يجعل الخطاب البصري قابلا لقراءات مختلفة؛ فحينما يحاول النص الدرامي أن يخلق شعرية الخطاب المسرحي كنص للقراءة، يحاول المخرج أن يعطي الملفوظ الحواري أبعادا جديدة من خلال العناصر البصرية الأخرى (ديكور وأزياء وإضاءة وإكسسوار..) التي تشكل الخطاب البصري الشعري بما يحمله من قيم تشكيلية، فيصبح المشاهد محكوما بلغة بصرية أكثر من اللغة الملفوظة، ويصبح العرض المسرحي عرضا ثريا كلما كشف عن رؤى جديدة لم نعتد عليها من قبل. لكنني أعتقد أنه لأمر صعب، وخصوصا عندما يكون المؤلف شاعرا مثل صلاح عبد الصبور والنص هو “مسافر ليل”، الذي كتب في أواخر الستينات من القرن الماضي بعد نكسة 1967، ويقدم اليوم ليتفاعل مع واقع راهن، تختلف معطياته بالضرورة عن زمن كتابة النص. فما هي الرؤية الجديدة التي سيلقي المخرج بظلالها علينا حتى نستطيع أن نقرأ قراءة مغايرة عما سبق فتثري النص وتثرينا؟
وتأتي الإجابة في حينها، فالعرض لا تدور أحداثه داخل العلبة الإيطالية التقليدية، وإنما داخل عربتي قطار حيث يتوحد المكان مع الزمان، فيتحولان لشيء واحد، والقطار يمضي بعد منتصف الليل، فيكون القطار في سيره هو الزمان، وهو المكان في الوقت ذاته، والمتفرجون موزعون داخل العربتين على اليمين وعلى اليسار يتابعون الرحلة/ العرض من زاويتين مختلفتين، ليصبحوا شريكا في الحدث الدرامي وتناميه فيما يظهرونه من رودود أفعال وانفعالات تجاه ما يشاهدونه. (عربة قطار تندفع في طريقها على صوت موسيقاها) - وأعتقد أن معظم من أخرجوا هذا النص قدموا معادلا لعربة القطار الليلية بشتى الوسائل الإيحائية، أو على حسب إمكانيات الإنتاج - ويبدأ العرض مع انطلاق صافرة القطار, ويتم إعلام الركّاب/ المشاهدين أن قطار مسافر ليل سوف يتحرك بعد خمس دقائق ولا يمكنهم الخروج منه أثناء الرحلة لأنه لا مفر منها إنها رحلة إجبارية، هكذا تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي، وتعزف الموسيقى المصاحبة للعرض، ثم يدخل الراوي/ المثقف وكأنه أحد الركاب ويبدأ في حكي وضع هذا الراكب/ الإنسان المسحوق المذعور (رجل يدعي ما يدعي)، والمسافر ليلا بالقطار ووصف مشاعره والأفكار التي تدور برأسه، والصور المستدعاة من ذاكرته، والراكب منذ دخوله يبدو عليه التردد والتوتر, حتى إنه لا يستطيع أن يحدد موقع جلسته، وعندما يصيبه الملل يعد عواميد السكة، ثم يخرج من جيبه مسبحة تنفرط حباتها بين مقاعد العربة دلالة على سنوات عمره التي انفرطت هباء في قطار الحياة، بينما في نفس القطار توجد شخصيات استطاعت أن تتحقق باسم السلطة نكتشفها حينما يخرج جلد غزال من معطفه، ويستدعي هذه الشخصبات التاريخية ومنها «هانيبال» قائد عسكري قرطاجي ينتمي إلى عائلة بونيقية عريقة، ويُنسب إليه اختراع الكثير من التكتيكات الحربية في المعارك ما زالت معتمدة حتى اليوم، الحاكم الأوزبكي “تيمور لنك” قائد عسكري أيضا وقد قام بحملات توسعية شرسة أدّت إلى مقتل الكثير من المدنيين وإلى إبادة مجتمعات بأكملها, ثم الألماني “أدولف هتلر” و«ليندون جونسون» رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب على مصر عام 1967 وعلى الرغم من أن الراوي قد حذره من فعل الاستدعاء لكنه لم يأبه لتحذير الراوي/ المثقف (فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ.. لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء) فمناداة الراكب لهذه الشخصيات تعد بمثابة صناعة لهم - الشعوب هي التي تصنع حكامها - وهنا يصعد عامل التذاكر/ الطاغية بمجرد أن ينطق الراكب اسم الإسكندر الأكبر متسلحا بكل أدوات القتل (تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن/ يستخرج سوطا ملفوفا/ تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر/ يستخرج خنجرا.....).
 ويتصاعد الفعل الدرامي من خلال التحولات التي يقوم بها عامل التذاكر في انتقاله من شخصية إلى أخرى من الإسكندر إلى زهوان إلى علوان إلى عشري السترة، وفي كل مرة يتحول فيها إلى شخصية جديدة يفقد الراكب شيئا ما، فيأكل تذكرته مرة، وبطاقته مرة، بمعنى أنه يطمس وجوده تماما، فبدون التذكرة لن يتمكن من الاستمرار في رحلته، وبدون البطاقة لن يعترف به حيا أو ميتا، لأن البطاقة هي الوثيقة الرسمية التي تجعل السلطة تعترف به، حتى يصل إلى اتهامه بأنه قتل الله وسرق بطاقته أي أفقده وجوده على الأرض وانتحل هويته، وهو لا يمكن أن يفعل ذلك، فهو عبده سليل أسرة كل أسمائها مشتقة من العبودية. وليس من المعقول بعد كل هذا الإرث أن يكفر، لكن عشري السترة يتهمه بذلك، ويقتله بالفعل، بحجة المحافظة على نظام الوادي وكانت تلك آخر الكلمات التي سمعها «الراكب» قبل قتله «إنك رجل طيب»؛ لذلك استحق القتل.
وبعد موت الراكب يكشف عامل التذاكر أن التهمة التي قتله من أجلها كانت وهمية، فهو سارق بطاقة الرب،  وقد قتله، ليحل محله في هذا القطار فيحركه وقتما يشاء كيفما يشاء. ويطالب الراوي/ المثقف بمساعدته في حمل الجثة معه، فيهرع إلى الجمهور المسرحية، متسائلا ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟/ في يده خنجر/ وأنا مثلكم أعزل لا أملك إلا تعليقاتي ماذا أفعل؟!/ ماذا أفعل؟!
وينتهي العرض، ومن خلال هذه القراءة يبدو لنا أن الخطاب البصري لمسافر ليل (للمخرج محمود صدقى) كان شديد الالتصاق بعالم النص الأصلي لصلاح عبد الصبور, بدرجة تجعله منفذا للنص الشارح لصلاح عبد الصبور وراضيا بأن فكرة تحويل الفضاء المسرحي عربة القطار وتحويل الجمهور إلى ركاب، أمرا يضفي دلالات جديدة على النص الأصلي، على الرغم من أن نص عبد الصبور يحتوي في بنيته التعبيرية على خطابات متعددة، فهو يضم علامات لغوية وغير لغوية Des signes non - verbaux تشكل المشهد المسرحي ولكن المخرج قد آثر الترجمة الحرفية للنص, حتى إنه لم يدقق في تنفيذ بعض الإفيهات الكلامية التي كانت مناسبة لعصر عبد الصبور، لكنها غير مستخدمة الآن، كالتلاعب بالكلمات مثلا (هتلر.. متلر.. جونسون.. مونسون) على طريقة عبد الفتاح القصري, كما أن التهمة التي وجهها له في النهاية لم تعد بنفس سطوتها مثلما كانت في الماضي, يقول إليوت: «إن كاتب الدراما الشعرية، ليس مجرد إنسان ماهر، في فنين اثنين، وحاذق في أن ينسجها معا. وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاتب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيدا، وبالتالي فالمخرج الذي يصبو إلى تقديم دراما شعرية برؤية حداثية خارج العلبة الإيطالية لا بد أن يكون واعيا بأن زخرفة الشكل ليست كافية، وإنما الجرأة في التعامل مع النص وفك شفرته لإدراك دلالاته الكامنة وسبر أغواره؛ هو الذي يحقق الخلود للنص كبقية النصوص العظيمة بينما التفسير الحرفي يحكم عليه بالموت، ويجعله نصا مغلقا، فما زال باب الاجتهاد مفتوحا حتى لو كان النص لصلاح عبد الصبور.
بالنسبة لأداء الممثلين، كان أداء الممثلين ولغتهم المنضبطة الصحيحة توحي بفهمهم العميق لما يطرحه النص، فنرى مصطفى حمزة (الراكب) بجسده النحيل وتعبيراته التي تقدم خليطا من التردد والحزن والخنوع والانكسار طوال الوقت مثالا حيا للراكب. وجهاد أبو العينين (الراوي) الذي جسد (المثقف) كما تصوره صلاح عبد الصبور بحرفية معتمدا على أداء صوتي رصين ووجدان ضعيف سلبي خاصة في المشهد الأخير عندما هرع إلى جمهور المسرحية، متسائلا ماذا أفعل؟ وعلاء قوقة (عامل التذاكر) (رجل مستدير الوجه والجسم عليه سيماء البراءة التي تثير الشبهة) جسد صورا متعددة للحاكم الفرد المتسلط بحرفية شديدة في الانتقال بين كل شخصية وشخصية دون أن يشعرك بأنه نفس الممثل وتبدو إضاءة “أبو بكر الشريف” متناغمة مع الفضاء المسرحي وأحداثه بأكملها، وموسيقى «زاكو» الحية بالكمان والجيتار وصوت حركة القطار وتأثيرها. كل هذا ساهم بالطبع في تشكيل الخطاب البصري كما تصوره المخرج.


محمد زناتي