«رائحة حرب» يستنفر المتلقي ويحذره من شلالات الدم

«رائحة حرب»  يستنفر المتلقي ويحذره من شلالات الدم

العدد 578 صدر بتاريخ 24سبتمبر2018

ضمن فعاليات الدورة الخامسة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، تم تقديم العرض العراقي «رائحة حرب» من إنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل والتابعة للمسرح الوطني ببغداد، عن رواية (التبس الأمر على اللقلق) للروائي الفلسطيني أكرم مسلم، قام بإعداد العرض المسرحي كل من الكاتب التونسي يوسف بحري والعراقي مثال غازي، وإخراج عماد محمد. وأتصور أن ما يميز هذا العرض الاعتماد على أسلوب التراكم المتنامي للعرض المسرحي، والانتقال المنتج من دلالة إلى أخرى، ومن جملة مشهدية إلى أخرى، من دون أن يحدث تشتت يعرقل من تنامي الرؤية الأساسية التي تندد بالحرب والتطرف والمتاجرة بالدين، وما يترتب عليها من تدمير وتهجير وقتل وإهدار لكل مفاهيم القيم الإنسانية، إنها (رائحة حرب) التي أراد مخرج العرض منذ الكلمة الأولى - تراب - أن ينتج بنيات دلالية غنية يستنفر بها المتلقي ويحذره من توابع الحرب، فالإضاءة يغلب عليها اللون الرمادي كعلامة على الدمار، والمؤثرات الصوتية – دوي الرصاص والانفجارات – المصاحبة لأداء الممثلين تخلق جوا مفعما بالاستنفار والكراهية لهذه الرائحة، لتبدأ الأحداث عبر حوارات عبثية تجمع بين الأحلام والكوابيس حول الموت والشهداء والمجاهدين والهروب والصمود والوصولية، يتشارك في صناعتها شخصية (الجد/ رجل حرب سابق) وهو يتأمل الماضي كأنه الحاضر والمستقبل، وكل ما يتجلى في ذاكرته هو حفر القبور لضحايا حروبه اللانهائية فيعيش محاصرا برائحتها التي تملأ عالمه وتخنق من يعيشون معه، وشخصية (الجدة/ الأم) التي قضت ما مضى من حياتها في البكاء على أبنائها القتلى، وقد استطاع المؤلفان عن طريق تلك الثنائية المتناقضة للشخصيتين إنتاج فرضية درامية متسقة في بنائها مع مسرحيات اللامعقول، ليهربا من المفهوم التقليدي للبناء الدرامي Dramatic Structure من خلال تشظي أزمة العرض وتناثرها في حوار الشخصيات (الجد، والحفيد، والجدة)، والتقنية الرقمية باستعمال شاشة كبيرة في عمق المسرح (data show)، بالإضافة إلى توظيف الكثير من العلامات المتحولة التي أسماها بيدريش هونتزل J. Honzl ديناميكية العلامة، وتتلخص نظرية هونتزل في أن أية علامة مسرحية تصلح أن تحل محل أي فصيلة من الظواهر لأن العلامة بطبيعتها تتسم بالمرونة، فتتحول (المسبحة) في هذا الخطاب البصري إلى أداة قتل ومشنقة وأرجوحة، لتؤكد على قدرة رجل الحرب وتلاعبه بالدين، وتتحول الستائر المعدنية التي تختبئ وراءها الشخصيات إلى سجن وحوائط غرفة، والكرسي إلى لعبة ومَخْبَأ من الحرب، والمظلات إلى أشياء غير قادرة على أن تؤدي وظيفتها لأنها مفرغة، ومع ذلك يستعملونها كدلالة على فقدان القيمة، والأسرة المدلاة كتوابيت للموتى الأحياء والملابس بين الأبيض والأسود والرمادي كدلالة على اختلاف الآيديولوجيات بين الجد والجدة والحفيد، والإضاءة المهتزة الصفراء والحمراء والرمادية لتعبر عن الحرب؛ كل هذه العلامات البصرية شكلت بمجموعها مسرحية «رائحة حرب». بتركيز مشهدي عالٍ يعبر عن واقعنا الراهن الذي يموج بالاضطرابات والحروب وسقوط لآيديولوجيات وبروز لتيارات دينية متطرفة وطائفية؛ مما أدى إلى نشوء مسلمات جديدة تحيلنا إلى عنوان العرض (رائحة حرب) الذي يشاكس كل هذه المعطيات، وليصبح كل ما ذكرناه رائحة طبيعية يمكننا أن نشمها في ترتيب خطي متصاعد Liner Arrangement، من خلال حوار يدور بين الثلاث شخصيات (الجد، والحفيد، والجدة) الذين نجدهم جميعا في بداية العرض أمام ثلاث مرايا ثم يعلو صوت الرصاص وتتهشم المرايا، وتتعالى صيحاتهم “تراب.. تراب”، ثم يعلو صوت الأذان فيقيمون الصلاة، ويتناقشون حول أوضاعهم المزرية، ويظل الحفيد الذي يرتدي الملابس الرمادية في المنتصف بين الاثنين، (الجد) رجل الحرب السابق يرتدي ملابس بيضاء، وما زال يحتفظ بالأوسمة التي حصل عليها، وما زال يدعو للحرب ويعتبرها الأنموذج للحياة الحقيقية، ويعتقد أنه لم يخلق إلا ليحارب ويجاهد في سبيل الله، فالمجاهدون لهم جنات عرضها السماوات والأرض، وبطلاقة شديدة يستطيع أن يتكلم عن الحرب بشتى أنواعها، ويؤكد على هذا النوع الحريري الذي أصبح سائدا هذه الأيام - يقصد اللابتوب والمحمول ومواقع التواصل الاجتماعي - ويعلم حفيده آليات الوصولية والجبن والهروب في أوقات الأزمات ناصحا حفيده (حاذر أن تسير في المقدمة وحينما يخونك إصبعك بالضغط على الزناد، استخدم قدميك في الهرب «افلت»، ولكي تضمن حياتك أينما تحاصر، البس تحت ملابسك شيئًا من البياض، قدم حياتك على موتك، وبهذا تعيش طويلا، فلقد يضحي بك الآخرون)، وعندما يضيق به الحال يذهب ليتأرجح على مسبحة الموت، وإن كان في حقيقة الأمر جبان يخشى أصوات الرصاص، ويختبئ منها ويستخدم الدين كما يشاء، وقتما يشاء، فيقرأ الفاتحة الكثير من المرات على الشهداء والدماء التي تلطخ كل شيء وكأن قراءته لها تبرئه من الذنوب التي اقترفها. والجدة الأم المكلومة الحزينة المتشحة بالسواد تحاول أن تواجه أفكار رجل الحرب معلنة أنه مجرم وليس محاربا بل محتال، وتتصدى له بعد أن أصبح ميؤوسا منه في كل شيء ليلا ونهارا، مما يجعل حفيدها يسألها (هل جدي رجل؟)، وتحذّر الحفيد من أن يرث أحلام جدّه، وتحاول جاهدة أن تحيا مناهضة لهذا الجد وأفكاره المتطرفة، وفي نهاية العرض تتضرع إلى الله قائلة: (اكتب على قلوب الأمهات أن يتعلمن لغة الأعداد والحساب لأجل من فقدنا من الأحبة والأبناء) وكأن الموت هو قدرهن الوحيد كأمهات في هذا العالم.
أما الحفيد الذي مات أبوه في الحرب، فيجسد شخصية الجيل الجديد الذي يقف في المنتصف بين ما يقوله الجد وما تقوله الجدة، وتفشل كل محاولاته في الخروج من هذا العالم، ويعبر عن حالته قائلا: (ألف لقلق ولقلق في هذا البحر، اللعنة على بحرك يا جدي، إنني أغرق.. أسماك البحر ابتلعت أحلامي) إنه بالطبع واحد من هذه اللقالق التي أصبحت ضحية لكل الصراعات والخيانات المختلفة التي تجعله واقعا بين طرفي الرحى ما بين الإرهاب ودمويته والهروب تجاه المجهول، كحال جيل كامل في مثل عمره كل يوم نسمع عن غرقهم في مراكب الموت، إنه واقع رائحة الحرب الذي يخيم على هذا العالم ويجعله شديد الضبابية.
ينتهي العرض بنزول ثلاث شاشات لصور الدماء والقتلى والضحايا، يقف فيها الجد هذه المرة في المنتصف حيث شلالات الدماء تنهمر بغزارة، وحينها يقرر الحفيد والجدة الهروب، ولكن لا مفر فالأبواب قد صارت ملغمة بنيران الحرب والجد ما زال يعزف سيمفونية الدمار، والنيران تلتهم الأخضر واليابس حتى تنتهي الجملة المشهدية بسقوط الجد، وأسراب الطيور المهاجرة تحلق في السماء، ويتوقف المشهد على صورة طائر اللقلق منتظرا لمصيره المجهول.
استطاع المخرج أن يقدم معادلا بصريا من خلال توظيف التقنية الرقمية باستعمال شاشة كبيرة، في عمق المسرح (data show) التي منحت العرض دلالاته المعبرة عن كل ما تتضمنه الحرب من بشاعة في تدمير الإنسان وروحه، فقد هيمنت على الفضاء لتظهر كراوٍ يعرض لنا ما يعجز عن تقديمه الراوي التقليدي (سلم الوصولية، خرائط ممزقة، خريطة للعراق تبين مدى اتساع بقعة الدم الحمراء بالتوثيق التاريخي، شلالات الدماء، حرائق، أشكال الهجرة، مظاهرات، أسراب طائر اللقلق..) لتنسجم مع بقية عناصر العرض المسرحي ولتصبح بديلا للكتل الديكورية الصماء، كما أن الأداء التمثيلي قد تميز بالتناغم بين الأدوار الثلاثة (الجد، والحفيد، والجدة) مدركين تماما أنهم يجسدون أفكارا وليسوا شخصيات إنسانية كاملة الأبعاد، ولذلك جاء أداء الممثلين أقرب إلى التجريد منه إلى محاولة التقمص.
وأخيرا، أقول إن عنوان العرض «رائحة حرب» جاء متناسقا مع مضمونه من أول كلمة حتى آخر علامة ضوئية.

 


محمد زناتي