يوتيرن ثلوج الكراهية المشتعلة ونيران الحقيقة الخامدة

يوتيرن ثلوج الكراهية المشتعلة ونيران الحقيقة الخامدة

العدد 571 صدر بتاريخ 6أغسطس2018

اعتمد المخرج السعيد منسي التغريب وكسر الإيهام منهجا أساسيا ورئيسيا لتمرير أفكاره وآرائه مستعينا بفضاء خشبة المسرح كموتيف سينوغرافي ملائم بشكل كامل في محاولة لتحييد الزمان والمكان واحتواء المنصة للجماهير واحتواء الجماهير للمنصة في آن واحد، مدركا أن المشاهد هو العنصر الأهم في تكوين العمل المسرحي ويعد أهم غاياته الذي لا بد وأن يثير في عقله فضيلة التفكير والتأمل ويحرضه على اتخاذ موقف ورأي من القضية المطروحة على خشبة المسرح، فاتخذ من كسر الإيهام وسيلة لمنع استغراق المتفرج في الحدث وسعى إلى مشاركة المتفرج في التفاعل والتساؤل وإيقاظ الوعي الدائم وإعلاء التغريب؛ أي أن يجعل المألوف غريبا فهذه الحياة اليومية والعادية جعلها غريبة ومثيرة للدهشة، وباعثة على التأمل والتفكير، ومزج بالتبعية بين الوعظ والتسلية أو بين التحريض السياسي والسخرية الكوميدية، وعمد إلى إلحاح الممثل على الجمهور أنه يمثل وأن ما يقوم به من فعل ليس إلا تشخيصا لحاله، وما أن يتجه الجمهور إلى الانزلاق في التعاطف مع الأحداث حتى يوقظه صناع العرض ويخرجوه من حالة التقمص ليقف أمام الحدث فاليقظة العقلية للمتفرج ضرورية لأنها تحرضه على اتخاذ القرار أو الحكم، وهذا ما سعى مبدعو عرض يوتيرن إلى تحقيقه حرفيا فاعتمد يوتيرن على بداية تراثية/ دينية/ موروثة فهذا صراع دامي بين رجلين على امرأة نعرف بعد لحظات أن المتقاتلين أخين وهما ابنا آدم الذي قتل أحدهما غيلة وقتل الآخر عنوة، وبعد تلك المقدمة الكاشفة تنفرج الأحداث عن ثلاثة رواة يسردون الأحداث وينقلون الأوامر من القيادة العليا محذرين أن الشمس خرجت من مغربها.
بدأ العرض المسرحي بلوحة تعبيرية راقصة تجسد صراعا بين رجلين ثالثهم امرأة لترمز بالتبعية للصراع الموروث عبر التاريخ والمنسوب لابني آدم قابيل وهابيل، والمنتهي بقتل هابيل على يد قابيل من أجل امرأة، وعضدت جماليات اللوحة التعبيرية عرض فيلمي ليؤكد فعل القتل وما لبث أن يقتحم الفراغ المسرحي المعزول بشبكة رقيقة ثلاثة رواة سردوا أحداثا ووقائع أهمها أن العالم في طريقه إلى الهلاك وأن الشمس بالفعل أشرقت من مغربها وأنهم في انتظار نهاية العالم طبقا لتعليمات الإدارة وقدموا أبطال الحكاية تلك العائلة المكونة من أب وأم وفتاة تحمل سفاحا وشاب أرعن يسعى لقتل الآخرين وخادمة لعوب يعشقها الزوج الباحث عن المتعة. تلك الأحداث الرئيسية، وتجري أحداث الحكاية في مكان يعاني من البرد القارس واحتلال الثلوج للمدينة بل وخمدت نيران المدفأة الرئيسية للمنزل ومع تنامي الأحداث وتقاطع الرؤى والسرد مع التشخيص تنقطع خيوط الحكاية فجأة بعد قتل الشاب الابن لأحدهم ليعلن الرواة الثلاثة عن بدء حكاية أخرى جرت بعد آلاف السنين من الحكاية الأولى، ونفاجأ بأن أبطال الحكاية الأخرى هم أنفسهم أبطال الحكاية الأولى مع اختلاف المكان الافتراضي وتطابق المكان السينوغرافي وشبكة العلاقات كأنها واحدة لتتأكد بالتبعية شبكة العلاقات السيمولوجية الأهم التي مفادها أن ما يجري ليس محض خيال صرف إنما أحداث تقترب من أحداث حقيقية إن لم تكن متطابقة، وأن الجدار السلكي العازل ليس إلا وسيلة لاختراق فكر المتفرج وكسر الإيهام وهو منهج اتبعه المخرج السعيد منسي باحترافية لتقترب الحكاية الثانية من الحكاية الأولى ضمنيا وتحتوي بالضرورة على ثالوث الحمق (الزوج/ الزوجة/ العشيقة) فضلا عن الشابة الجامحة التي حملت سفاحا والشاب الأرعن الساعي إلى القتل ليروي ظمأ رغبته مع ملاحظة أن الزوج هنا ليس مخترعا ومكتشفا كما كان في السابق إنما هو رئيس لشعبة الثدييات في الكون بعد انقراض آدمية الإنسان بالتبعية، وتنتهي اللوحة أيضا بنهاية مفاجئة معلنة قرب انتهاء العالم لتمتزج حكاية أخرى لم تُحكَ أو تشخص لذاك الحاكم بعد تنحيه، ولكن هل بالتنحي فقط تنتهي أفعال القتل والشر التي اقترفته تلك العائلة في حق نفسها وحق المجموع؟ وهل تتوقف أعمال القتل والاقتتال إن اقتربت ساعة زوال الحياة فوق الأرض؟ وهل تستحق البشرية سفينة نوح لإنقاذها من ذاك الشر المتوغل في ذاتها فأحرق ذاتها؟
نجح مبدعو “يوتيرن” في تجسيد تجليات الفعل المتأرجح بين القتل الفعلي السافك للدماء والقتل المعنوي السافك للآدمية لتنصهر في آتون النيران الخامدة التي احترقت بفعلها كينونة الإنسان وصفته ليصبح قبيل نهاية العالم مجرد نوع من أنواع الكائنات ليس آدميا وإنما من الثدييات، وتتباهى حواء بالتفاحة وبني آدم بالبارود ليعلنا عن قرب طرد الإنسان من آدميته ليحتل مكانة أدنى، فهل الإنسان قادر على العودة إنسانا؟ سؤال طرحه المخرج السعيد منسي في عرضه اللامع “يوترن” للمؤلف سامح عثمان عن (نجونا بأعجوبة) لـ(ثرنتون وايلدر) والمشارك في فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري الحادي عشر، وقدمت بشكل حميمي حيث اقترب الجمهور من منصة التمثيل رغم الحاجز السينوغرافي بينهما والمشابه لخيوط العنكبوت التي تحجب ولا تمنع ذاك أن سينوغرافيا العرض لمحمود غريب جاءت بسيطة بعمق فجرت الأحداث جميعها في مكان أشبه بسطوح أحد المنازل الراقية أو سطح سفينة في عرض البحر - (وكلاهما سطح) - تظللها سحابات بيض حيث تتقابل الشخصيات وتتجاذب وتتنافر وتتوافق رؤاها وتختلف.
لعب شريف خير الله دور الزوج على مر العصور فبدا حميميا بشكل لافت وبسيطا بشكل احترافي وتناغمت لغة جسده مع متطلبات كل لوحة، ونجح الرواة في تحقيق العمق الفكري اللازم لهذه النوعية من العروض وأمسكوا بإيقاع العرض بشكل ينم عن موهبة حقيقية.
احتلت الرموز السيمولوجية في هذا العرض دورا مؤثرا في تمرير الأفكار المتشابكة ما بين حائط وهمي رقيق يفصل النظارة عن المنصة شكليا ولا يفصله وجدانيا وعروض الفيديو بروجكتور المصاحبة للحكي الحركي التعبيري على موسيقى واعية لصادق ربيع وإن تداخلت المادة الفيليمة مع التمثيل البشري فاربكت التلقي في بعض الأوقات ورموز الكهوف البدائية حينا والفرعونية حينا في أقصى العمق وخطوط الملابس المتداخلة بين العصري والبدائي ورقي لغة الحوار المقتربة من الشعر للكاتب سامح عثمان، فبدا العرض لوحة فكرية متناغمة طارحا السؤال الفلسفي الأهم: من يخمد ثلوج الكراهية المشتعلة ويشعل نيران الحقيقة الخامدة؟


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏