حي على بلدنا فؤاد حداد يحيي ليالي القومي

حي على بلدنا فؤاد حداد يحيي ليالي القومي

العدد 566 صدر بتاريخ 2يوليو2018

 أمسية شعرية “حدّادية” بنكهة مسرحية على القومي
يظل فؤاد حداد هو القماشة الشعرية الأعرض بين كل من عرفت من الشعراء “مالوش ماسكة”. شاعر بلا ضفاف. محيط “ما تجيبش آخره”. مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب، ولكنها – للأسف- أكبر من طاقتك على التذوق والهضم، لذلك لا يمكنك أبدا أن تشبع منها. ربما تشعر بالتخمة من كثرة ما تناولت من أطعمة، ولكنك أبدا لا تشبع؛ كيف ولم تزل المائدة عامرة بما لا يسعفك الوقت ولا حجم المعدة للاقتراب منه؟ تلك مشكلة الوفرة، وعليك أن تقبل بما قسمه الله لك وتحمد الله . 
ذلك هو الشعور الذي ينتابني دائما كلما حاولت الاقتراب من فؤاد حداد، وقد استعادته إلى أمسية “حي على بلدنا” التي قدمها المخرج أحمد إسماعيل خلال شهر رمضان المبارك، على خشبة  للمسرح القومي، والتي أعدها الشاعر أمين حداد عن أشعار والده الشاعر الكبير فؤاد حداد. 
يمكن القول إن كل من مر أمام تجربة الشاعر الكبير وشاهد العرض سيدرك  مدى الحيرة التي واجهت الابن في إعداد تلك الأمسية الشعرية الغنائية، فماذا يأخذ وماذا يترك من أشعار والده، ليس من أجل تحقيق المتعة الفنية لجمهوره، فذلك أمر مفروغ منه، إنما ليلبي – مع ذلك – بعض متطلبات العرض على خشبة مسرح، وحتى لا تكون الأشعار المختارة مجرد تجميع لعدد من النصوص، تحقق أثرها بوصفها نصوصا شعرية فحسب؟ 
لذلك – حسب تقديري- حملت النصوص التي اختارها أمين حداد- بالاتفاق مع مخرج العرض أحمد إسماعيل - عدة سمات، أولها دورانها تحت سقف مفهوم الوطن، والوطنية وتعبيرها عن هموم وأحلام وعادات وقيم المواطن المصري والعربي، والتذكير بها، وهو ما أشار إليه العنوان بما يحمله من شحذ للهمم وإذكاء للحماس الجمعي” حي على بلدنا” ثم قابلية تلك النصوص للمسرحة بما تحمل من قيم درامية وسردية، تتيح تقديم بعض الفقرات التمثيلية والحوارية على الخشبة وهو ما تحفل به نصوص حداد أصلا، وقد نجح الإعداد في توسيع دائرة اختياراته لتغطي عددا من وجوه الشعرية لدى الشاعر الكبير، فلم يكتف بالنصوص ذات الهموم الاجتماعية والوطنية المباشرة، مثل “الأرض بتتكلم عربي” و “ولا ف قلبي ولا عنيه إلا فلسطين”، و “المسحراتي”، وغيرها، فقدم أيضا نصوصا ذات نزعات لعبية وفانتازية، وتهكمية شعبية مثل “باحلم إنى في اسطنبول بالعب طاولة مع السلطان” و “ سيد أفندي” وغيرهما. 
وهو ما نجح أحمد إسماعيل في استثماره مسرحيا، وعمل توليفة حية منوعة تجمع بين الغناء و الإلقاء الشعري، والأداء المسرحي، فضلا عن  الحوار والمشهد، الأمر الذي دعمه وجود فنانين على درجة عالية من الاحترافية والوعي مثل أشرف عبد الغفور ومفيد عاشور، ومعهما رحاب رسمي، والمطربة نهال خالد، وكذلك المخضرم عهدي صادق الذي فضل المخرج الاحتفاظ به خارج الخشبة، ليدخل ويخرج من وإلى قاعة المشاهدين، مشخصا في كل مرة دورا لمواطن مصري، يقدم شهادته على الأوضاع في صورة تهكمية، وهو ما أسهم أكثر في إبراز عنصر المسرحة وتغيير الإيقاع في أوقات مناسبة، كما أسهم في إضفاء جو كوميدي ومزيد من الحيوية على العرض. وكانت مفاجأة العرض – بالنسبة لي – هي الحضور  المدهش للمطرب والملحن محمد عزت، الذي لم يكن حاضرا بصوته فقط، إنما بانفعاله و حركته وأدائه المسرحي الحي.
كذلك كان لمشاركة الأطفال: أحمد وهنا وإسماعيل وفرح في تقديم إحدى الفقرات الغنائية والتمثيلية وقع لطيف، أسهم هو الآخر في الشعور بألفة العرض، تلك الألفة التي تحققت منذ اللحظة الأولى مع توالي تقديم الأشعار والألحان التي طالما عشقها الحاضرون من المشاهدين، وعاشوا في أجوائها، ورددوها،  وقد تضمن العرض ألحانا شهيرة لسيد مكاوي( أغنية الدب، المسحراتي، ولا ف قلبي)  وإبراهيم رجب( أغنية الحمار) و عبد العظيم عويضة( في كل حي ولد عترة) ومن ألحان وجيه عزيز( حي على بلدنا ) فضلا عن ألحان ( العروسة، الطرطور، بنت السلطان) لمحمد عزت.  
الموسيقى الحية التي قدمتها الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو د. صابر عبد الستار، كانت من بين العناصر التي راهن عليها المخرج أحمد إسماعيل في تحقيق الأثر النفسي للعرض، وقد نجحت في تحقيق ذلك بالفعل على الرغم من عدم اقتناعي بأن اللازمة الموسيقية التي اختارها المخرج، ليكثف فيها خطابه، ويربط بتكرارها فقرات عرضه هي الجملة اللحنية الأنسب أو الأجمل لتكثيف خطاب فؤاد حداد، وهو الأكثر ألفة ونعومة، الأوسع خيالا ولعبا، الأقل خطابية.
قدم المخرج أحمد إسماعيل الكثير من أعمال فؤاد حداد، بدأها بترشيح  الشاعر الكبير له ليخرج رائعته الشاطر حسن (مع متولي عبد اللطيف) عام 1984، وإخراج أمسيتين له أيضا عن مصر وفلسطين عام 1985 واستمر تقديم المخرج لأعمال حداد طول هذا التاريخ، الأمر الذي جعله أكثر قربا من عالم حداد، وأكثر حميمية في تقديمه.
تحية واجبة للمسرح القومي ومديره الفنان يوسف إسماعيل على اختيار تقديم هذا العرض، والتفكير في تقديمه للجمهور المصري بالمجان، والشكر لدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة التي استجابت واتخذت القرار.    
 


محمود الحلواني