الساعة الأخيرة التفعيل الذي يطمس ضبابية العاطفة

الساعة الأخيرة التفعيل الذي يطمس ضبابية العاطفة

العدد 563 صدر بتاريخ 11يونيو2018

أعترف مسبقا أنني وبحكم التجربة أتوجس كثيرا قبيل مشاهدة أو قراءة أي نص ما، وهو يحمل لافتة أنه - أي النص - قد حاز على جائزة ما، فالذاكرة ما زلت مفعمة بالكثير من هذه الفخاخ التي تجعلك تخرج ناقما على الجائزة، أو مسلما أمرك لله باعتبار أن ما تم هو مشيئته.
والحقيقة أن هذا الشعور على الرغم من كل محاولاتي في التخلص منه، كان يلقي بظله وأنا في طريقي لمشاهدة عرض الساعة الأخيرة الذي تقدمه فرقة مسرح الغد من تأليف عيسى جمال الدين ومن إخراج ناصر عبد المنعم.
وأثناء المشاهدة وبعدها لا ينسحب منك الأمر كلية ولكنك تخرج راضيا عما فعله ناصر عبد المنعم في عملية تفعيله للنص، والخروج به من أسر الورقة لرحابة المشاهدة.
صحيح أن نص العرض يحيلك لنص (كيبهارت) قضية الدكتور أوبنهايمر، من حيث الثيمة الأساسية التي تدور حول التساؤل، أيهما أحق بأن يكون الولاء له؟ الإنسانية أم النظام/ الوطن؟ خصوصا أن هناك مناقشة لنفس الأحداث تقريبا.
ولكن نص عيسى لم يجعل الصانع/ كيبهارت هو محور الحدث، بل الفاعل/ بول، وارتكن أساسا على عملية استجلاب الندم البشري والتساؤل عن الجدوى والحتمية من الفعل وصولا لمحاكمة النظام الذي قرر هذا، من خلال محاكمة الفاعل لنفسه. واستدعاء متهمين آخرين قدموا له الفعل، علاوة على عملية محاولة إلقاء اللوم على التربية والنشأة وتجعلها دافعا للفعل، وكيف أن الفاعل ما هو إلا مجرم من البدايات الأولى.
ومع أنني أساسا مع تناول كيبهارت حيث يحاكم الفاعل الأصلي والدافع له، لا الفرد المكلف، فلا يمكن أن تلقي اللوم على جندي ينفذ أوامر قادته، بل عليك محاكمة القادة.
كما يحيلك نص العرض أساسا لما يسمى بـ(مسرح الواقعة) الذي هو شكل مسرحي يرتكز على تقديم حدث تاريخي أو واقعة ما، في إطار درامي. طبيعي أن تكون الوثيقة التاريخية للحادثة أو الواقعة، هي المادة الأولية للعرض.. ومن خلال إعادة تمثيل تلك الواقعة، والتدخل من خلال عملية إعادة الترتيب. وقد جرى العرف بإطلاق ما يسمى بالدراما الوثائقية أو المسرح التسجيلي على تلك المعالجات. مع أن هناك فارقا طفيفا من حيث الاستعمال طبقا للوسيط، فالأفلام الوثائقية تختلف عن المسرح الوثائقي، فالأفلام عادة تحاول إعادة تقديم الحدث كما كان بالضبط. أما المسرح فيعيدها من خلال وجهة نظر، مع التسليم بأنه حتى في الأفلام التي تحاول أن تقدم المادة الوثائقية وما أدى إليها وتبعاتها كما حدثت بالضبط، إلا أنه أيضا يقدم من خلال وجهة نظر.
إذا أتينا لنص العرض، فسنجد أنه يبدأ بمادة فيلمية على شاشة تشكل كل مساحة العرض المسرحي؛ أي أن كل ما سيدور بعد ذلك هو من وراء تلك الشاشة. المادة الفيلمية كانت عبارة عن الدمار الذي لحق بمدينة هيروشيما اليابانية بعد أن أنزل عليها أول قنبلة ذرية، ثم استحضار من ألقى هذه القنبلة وهو بول تيبتس في مرحلة شيخوخته، واستعراض كم بدا وحيدا بعدما هجرته عائلته الممثلة في زوجته وابنه، كما أن الجيران بعد ما مر ردح من الزمن، لم يعودوا يعتبرونه بطلا، بل سفاحا. بول كان دائما يحدث تمثاله الذي صنعته له الدولة ووضعته في ميدان، ولكن بعد مرور الوقت، رفعوا التمثال من مكانه ليوضع في حديقة بجوار المنزل، ولكن الجيران أبدوا استياءهم من منظره، فقام بول بوضع تمثاله في غرفته، وأصبح هو المرافق له، مع وضع جار ما زال يرى أن بول بطلا عظيما من أبطال أمريكا. 
وتمر الأحداث عن طريق الاسترجاع لنعرف مدى صعوبة حياة بول وهو صغير، ونقمته على أبيه الذي يرى أنه هو المتسبب في وفاة والدته لدرجة أنه يقوم - أي بول - بوضع السم لوالده ويتخلص منه. وتمر الأحداث ليتفوق بول في مجال الطيران كما أراد وهو صغير: مع وجود منافس له في الرياضة والعمل وهو تشارليز سويني، ذاك الذي ألقى القنبلة على نجازاكي بعد ثلاثة أيام من إلقاء قنبلة هيروشيما. ثم استرجاع للمجموعة التي أنشأت مشروع مانهاتن (المشروع المسئول عن تخصيب اليورانيوم وصنع القنبلة الذرية)، واختيار بول ليقلي القنبلة الأولى، وشعوره وندمه بعد إلقائها. وتلك الفتاة العمياء التي قابلها بعد العملية التي كانت تظنه ملاكا أتى ليعيد إليها بصرها، ولكنه يخبرها بحقيقته، فتقوم بعملية تنبؤ مستقبلية أن اليابان ستكون أفضل وأن أمريكا ستعتذر لليابان فيما بعد! الندم يتملك بول ويدخل في نقاش مع نفسه وأالآخرين عن طريق الاسترجاع ملقيا اللوم على النظام الذي أراد هذا التدمير. مع اعتراف أنه لو عاد به الزمن إلى الوراء فإنه سيعيد نفس ما فعله خصوصا أنه لم يكن يعلم ما يحمله. ثم يقوم الدور على المنافس تشارليز ليقوم بإلقاء القنبلة الأخرى. ويموت بول كما تنبأ بواسطة أزمة مرضية ألمت به وهو ممدد على الأرض لا يقدر أن يمد يده لأنبوب دوائه. وينتهي نص العرض بنفس الشاشة التي تقول إنه فعلا تنكس الأعلام الأمريكية في يوم هيروشيما كل عام!
(على حد علمي، فإن الدستور الأمريكي يكفل حرية حرق العلم باعتباره وسيلة من وسائل التعبير: فما بالك بتنكيسه؟!). أعتقد أن عملية تنكيس وحرق العالم الذي يحاول البعض أن يجعل منها شيئا، هي في الأصل لا شيء عند النظام/ الدولة الأمريكية.. الذي يتلخص في قول أو فعل ما تشاء، لكن دون المساس بما هو كائن وبالحلم الأمريكي على مستوى الدولة قبل الأفراد).
خلاصة الأمر، أن الخطاب المباشر يبدو للكثيرين أنه يحاكم صانعي القرار بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه يصف الوحشية التي يتمتعون بها. وكيف أن مكانتها بين الأمم تقوم على هذه الوحشية وعدم الولاء للإنسانية. ومن نتيجة هذه النظرة العاطفية المتعجلة قد يكون الحكم على النص من خلال خطابه؛ أي أنه في الأساس حكم على ما يرونه في أمريكا لا على النص.
وإذا ما قلناه إن مسرح الواقعة يعتمد عليها مع إعادة ترتيب للأحداث من وجهة نظر الكاتب أو المخرج فيما بعد. وإذا اعتبرنا أن هذا المسرح ابتداء من بيسكاتور وصولا للآن يعتبر من المسرح التوجيهي أو الدعائي. أو حتى المسرح السياسي الذي يحاول أن يجعل المشاهدين يناصرون وجهة النظر التي من خلالها يكون السرد. وعليه، فمسموح في هذه الأعمال التجاوز أو عدم ذكر ما يتعارض مع تلك الرؤية سواء كانت حقيقية أم متخيلة.
ولكن بالنظر لنص العرض سنجد أنه يحمل التبريرات الكافية لإلقاء القنبلة على هيروشيما!
فالنص أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن البدء بمشروع مانهاتن جاء نتيجة أن الألمان بدأوا في عملية البحث عن كيفية التعامل مع اليوانيوم وتخصيبه! إذن، فهناك ضرورة للبدء في هذا المشروع وإلا لكانت ألمانيا بدأت وانتهت. وساعتها كان سيتغير مجرى العالم، خصوصا أن الكل مجمع تقريبا على فاشية ألمانيا.
حتى عملية إلقاء القنبلة الأولى جاءت في سياق أن اليابان رفضت إنهاء الحرب بعد هزيمة ألمانيا! وما زال الطيارون من اليابان يقومون بعمليات حربية تكبد أمريكا خسائر كثيرة في العنصر البشري! والحمد لله أنه - أي النص - لم يتطرق لسؤال لماذا هيروشيما؟ وفي الوقت نفسه يجيب عليه بما هو معروف، حيث سيقدم مبررا إضافيا.
وكما قلت قبلا لا يمكنك محاكمة الجندي على تنفيذه للأوامر، بل عليك محاكمة من أمر، خصوصا أنه - أي المؤلف 0 قد أكد مرارا أن بول لم يكن يعرف ماذا يحمل، مع أنه حمل الأوزار كلها. وأعتقد أن هذه ربما كانت هي المادة الرئيسية في التناول لا الاكتفاء بالمرور عليها، ومحاولة التبرير بنشأة بول، فلو اختير للمهمة شخص آخر بخلفية عادية كانت الحالة ستكون كما هي.
لذا فأنا اعتقد إن التجاهل عن بعض الأشياء التي لا تخدم التراتبية المقصودة قد يكون شيئا جيدا.. بل ويتطابق مع ما يدعو إليه مسرح الواقعة الذي يختلف اختلافا جوهريا عن الأفلام الوثائقية كما قلنا. وهو شيء لو فات على عيسى فلم يكن ينبغي أن يمر على ناصر. هذا رأيي.
وإذا كان هذ هو نص العرض،فكيف تعامل معه ناصر عبد المنعم؟
الحقيقة أن ناصر ابتكر أسلوبه الخاص في التعامل مع هذا النص ولم يرتكن بما هو متواتر أو معروف عن النصوص التي تنتمي لهذا الشكل الذي أشرنا إليه. الشيء الوحيد الذي التزم به كان ضروريا، بل وباعثا لاستيفاء الشكل ولا يمكن الاستغناء عنه. ألا وهو الواقعة محل النقاش وإعادة الترتيب. والتي تمثلت في تلك الشاشة في بداية العرض ليتم عرض الوثيقة / الواقعة.
فكرة ناصر الرئيسة تمثلت في حصار الحاضر بين ماضيين. ربما ليؤكد بكل ضرواة أن الأحداث الماضية هي التي تنسج خيوط الحاضر. وأن مانغيشه هو شيء طبيعي مادمنا قد سمحنا لهذا الماضي أن يكون. بصرف النظر عن بعض الندم أو التساؤلات عن كيفية ذاك الماضي. فالحقيقية انه لا الندم ولا التساؤل من الممكن أن يغيرا شيئا. وعليه فإن محاولة الوصول لمستقبل ما. هذا المستقبل الذي يكون هو الواقع في وقت تحققه. لايمكن أن تكون عن طريق التباكي والندم. وإنما من خلال إعادة تفكيك الماضي ووضعه في صورة آنية تمكننا من التعامل معه مستقبلا بما يسمح بتغيير من الممكن أن يطرأ، ولا نقف أمام حتمية الحدوث طبقا لمعطيات ثابتةقسم ناصر منطقة تمثيله أو رؤته لأربعة مستطيلات عرضية أمامنا. المستطيل الأول كان عبارة عن مستطيل ببغدين فقط ممثلا في الشاشة، وفيها تم عرض الحدث / الماضي الأقرب / إلقاء القنبلة على هيروشيما وما نتج عنها. متوازي المستطيلات الثاني، مكانه بعد هذه الشاشة وهو يمثل الحاضر / منزل بول في الواقع الآني من خلال الحدث / عملية التذكر والحساب النفسي وحساب الغير ومن ثم تحقق النبوءة والموت. متوازي المستطيلات الثالث جاء بعد متوازي المستطيلات الثاني، وتعامل معه ناصر بشكل حرفي وواع بطريقة جيدة. حيث جعله معبرا عن كل الحالات الماضية. فهو تعامل معه كمنزل لبول في مرحلة الصبا ورأينا والديه والخلاف بينهما حول طريقة تنشأة بول. ووضع الوالد على اليمن وفي منطقة أعلى من الأم ليردد كلمته الشهرة بأن على المرء أن ينحني امام الريح العاتية، مقابل رغبة بول في ركوب تلك الريح لأنه يعشق الطيران، وتشجيع والدته له. وغي نفس الوقت استخدم وسط هذا المتوازي الثاني للإفصاح عن ماهية مشروع مانهاتن ورجاله وكيف نشأ، ثم كيفية اختيار بول للمهمة وتكليفه بها، ومن بعدها تكليف تشارليز بالمهمة الثانية. ولا يمكن أن نعفل أن تصوير الصراع حول شهصيتي بول وتشارليز ورغبة كلا منهما بأن يكون هو الأفضل تم في هذه المنطقة ولكن بالتماس مع منطقة الحاضر دون تجاوز. أي أن هذا الأمر ما زال يشكل جدار من جدارن هذا الحاضر، وهو الأكثر تأثيرا به، مع أنه في منطقة ماضوية أبعد زمنيا من فكرة مشروع مانهاتن وصراع مع أبيه الذي انتهى بدس السم له. ولكن متوازي المستطيلات التاني لم يكن كله شرا خالصا ففي منطقة اليسار ذاتها رأينا المدرسة التي حاولت استيعاب بول ومايعتلج في نفسه ومحاولة تقويمه عن طريق تطويع وإخراج الغضب الكامن في نفسية الطفل. ولكن في نفس الوقت كانت معطيات الخير ومايمثله أكثر ضعفا من حيث الوجود المكاني والمساحة الزمنية ولم تترك أثرا. مع أن ناصر ربما أراد وطبقا لتركيبة المجتمع الأميركي ان يجعلنا نظن أن عناصر الخير مستجلبة على هذا المجتمع بل وقد تنتمي للقومية الواقع عليها الأثر التدميري. وفي هذا محاولة للفارقة بين الفعل وردخ على اعتبار ان مأحدث في الماضي من خير تجاه بول، والذي أبدته تلك المرجعية الإنسانية. قد قابله بول بالدمار.. ولكننا نسينا هنا أنه (لم يكن يعرف ما يحمله).
إذن فعملية حصار بول وحاضره بالماضي البعيد والقريب كانت هي الاتجاه الأساسي في عملية تفعيل النص وهو مغزى كبير وله أبعادة كما ذكرنا. وقد تم التعامل معها بحرفية اللهم إلا تجاوز وحيد قد يكون نشأ من الممثل لا من التوجيه العام.
 


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏