مرة.. بنية درامية تهدم فكر يوربيدس

مرة.. بنية درامية تهدم فكر يوربيدس

العدد 559 صدر بتاريخ 14مايو2018

يحق للمخرج أن يقع في غرام شخصيات المسرح الإغريقي، خاصة التراجيدية منها، فهي تعمل على إثارة العواطف والشغف وتدفع للانحياز لها تجاه الظلم الذي يقع عليها وتكون مجبرة على التعايش معه. حيث تدعم الدوافع غير الشعورية داخل الإنسان بأن يطمئن نفسه، بأنه ليس وحده من يعاني بل هناك من يشبهه؛ ولكن الحب غير الممزوج بعقلانية قد يتسبب في قلب الأمور فيضعف طرح تلك الشخصيات ويجعل آلامها أمامنا غير مبرر، وبالمثل قد يعلي من شأن الشخصيات. فكيف كان الحال مع عرض «مُرة» تأليف وإخراج عادل بركات المأخوذ عن النص المسرحي «ميديا» لمؤلفه (يوربيدس) الذي قدمته فرقة مسرح السامر على مسرح قصر ثقافة الجيزة.
قبل الخوض في أحداث العرض كان هناك سؤال يجول بخاطري عندما علمت أن العرض مأخوذ عن مسرحية ميديا المأخودة من الأسطورة التي تحمل الاسم نفسه، وهو ما الحاجة إلى طرحها في ثوب صعيدي جديد؟ بالطبع، سيحتم على احترام رغبة المخرج الخاصة، ولكن ظنه الخاص بأن تلك الرؤية هي محاولة لتقريب هذا النص لمجتمعنا قد تسبب في إحداث تشويه حقيقي للعمل الأصلي في أكثر من ناحية ولهذا سأطرح أحداث العرض والملابسات المشتركة بين ما تم عرضه وما كتبه يوربيدس، ثم درجات التشوية المختلفة التي مر بها العرض على الخشبة.
المشهد الافتتاحي للعرض كان يضم أحداث العرض المسرحي التي لا ندركها، إحدى حيل المسرح الإغريقي الذين كان يعتمد على الجوقة والراوي لتمهيد الأحداث لنا، ولكن بسبب الاختلاف الزمني بين الماضي والآن، فقد تم اللجوء إلى تعبير حركي راقص لشاب وشابة، يظهر فيه المراحل العرض المختلفة بداية من الحب إلى إهمال الشاب للفتاة وتركها ثم قتلها لطفلين. المشهد بمفرده كان شاملا لأحداث العرض بأكمله الذي بدأ بالراوية تتحدث عن كل من «مُرة» و«قاسم»، والذي نكتشف فيه ترك قاسم لزوجته مُرة الغجرية، ورغبته في الزواج من ابنة العمدة حتى يحقق الارتقاء والصعود الطبقي، ولأن هناك خلافا بين الغجر وأهل البلد بسبب قتل مُرة لأخيها من أجل زوجها، فقد أراد العمدة طردها لأنه لا يأمن سحرها ولكنها الزوجة تنتقم بفتل ولديها وتصاب بمس من الجنون.
ميديا يوربيدس هي امرأة لا يقدر شخص على هزيمتها، فعندما تريد هدفا ستسعى للحصول عليه مهما كلفها الأمر، فعندما ضربها أروس بسهامه في قلبها وقعت في حب ياسون الذي كان يسعى للحصول على الفروة الذهبية التي كانت في حماية والد ميديا «اييتيس»، وعندما رفض والدها وبسبب امتياز ميديا بالسحر لكونها كاهنة الربة هيكاتي ساعدته في الحصول على الفروة شرط الزواج منها، ولكن بعد عشرة أعوام من الزواج وتنازلها عن عرش كورنثا له، أما هو فبعد وصوله لأعلى درجات الحكم خاف ألاعيبها وقرر الزواج من «جلاوكي» ابنة كريون ملك طيبة لجمالها، لكنها انتقمت بخديعة ماكرة وقتلت جلاوكيوكريون ثم قتلت ولديها وهربت دون المساس بها. وفي الأساطير الأغريقية يتضح أنها قتلت أولادها عندما طلبت منها الربة هيرا الأمر وعدا منها بأن تمنحهم الأبدية.
ظهرت مُرة في صورة المرأة الجامحة التي تعتريها الرغبة الجسدية طوال العرض ولا تشعر إلا بالغيرة من أن يمس زوجها أنثى أخرى، ولكن من هي مُرة؟ ستظل امرأة غجرية بلا أرض حقيقية تحارب من أجله ولا نسل تفتخر به، ولذلك فقد هربت حتى تحصل على مأوى وبعل؛ أما ميديا فسبق أن ذكرت أنها ابنة الملك إييتيس حاكم كورنثا وبعده حصلت على العرش ولكنها تخلت عنه لزوجها؛ وبذلك تكون تلك المعالجة والمحاولة في التقريب للطبيعة المصرية الصعيدية قد أدت إلى إضعاف الشخصية الأنثوية، وفي حقيقة الأمر لم تضعفها من حيث نشأتها فقط ولكنها أضعفت مكيدتها ولم تظهر لنا بشكل واضح، فالحيلة التي اعتمدتها مُرة في الانتقام ما زالت غير مفسرة بالنسبة للجمهور فكيف سترسل المجذوب بالطعام المسموم للزوجين، وفي الوقت نفسه نكتشف أن المكيدة كانت قتل الطفلين وهو ما لم تكشفه لنا بنية الشخصية؟ وما جدوى ظهر رسول مبعوث من الغجر لقتل الزوج، وكيف ظهر لنا شيخ يدعو الله من شرها، من هو ذلك الشيخ؟
لحقتني الكثير من الأسئلة غير المبررة للأحداث ونهايتها، لعل المخرج في نظرته لمُرة أمر شبه مقبول إذا كان يفكر بنظرة ذكورية حول المرأة الصعيدية، وهو ما جعله يحول انتصار ميديا وهروبها بعد الانتقام بحرق زوجة بعلها ووالدها كريون، لامرأة يصيبها الجنون وحالة من اللوثة العقلية التي تشبه ما وصلت له الليدي ماكبث قبل انتحارها، فيتسبب المخرج في اشفاقنا عليها وهو الأمر العكسي تماما عند يوربيدس الذي كان دائما ما يغامر حتى نفقد شغفنا وإشفاقنا التراجيدي تجاه شخصياته فيدافع عن أفعالها بالحجج دائما؛ فإذا كان يفكر في المرأة من منظور رجل الصعيد ستكون هناك محاولة لتفهم الموقف حول إضعافه لها، ولكن تلك المحاولة هي اجتهاد خاص مني في التفسير خصوصا أن المخرج لم يظهر لنا ما يدعم هذا الرأي مطلقا!
نستطيع الاطمئنان على أي عرض مسرحي، لأننا جميعا نعلم أن العملية المسرحية عمل جماعي مشترك وهو ما يعمل على تماسك شكل العرض، تلك النقطة بالتحديد كانت وظيفة الديكور الذي أشيد بذكائه، والذي صممه «محمد فتحي»، فعندما تظهر لنا مُرة على الخشبة تكون ملتصقة دائما بعربتها الجرارة، تلك العربة تصبح حياة مرة بأكملها، فالعربة تكشف عن طبيعة الترحال الدائمة للغجر وتنقلهم وبذلك تكون العربة وسيلة تنقلها الخاصة، وأيضا العربة مبنية على شكل بيت مما يسمع باستعادة الذكريات الخاصة بينها وزوجها قاسم داخل المنزل، كما أن ذلك البيت يحتوي على سرير يسهل ظهوره للجمهور وإخفاؤه وهو ما حاولت مرة استخدامه لإثارة قاسم حتى لا يتركها ويذهب لغيرها، وأيضا هو الكهف السحري الذي تحقق فيه تعويذاتها الخاصة وسحرها. فتحيلنا العربة دائما زمنية ومكانية لحالة من التنقل الدائم بين الماضي والآن وبين الأحداث وبين الأماكن.
يدرك المخرج تماما حقيقة لجوء كتاب الإغريق للراوي، ويدرك كذلك حقيقة أن تلك المهنة في الصعيد يمتهنا كل من الرجل والمرأة، ولذلك فقد اختصت «دينا مجدي» للقيام بهذا الدور التي قامت بأدائه بإتقان وبراعة شديدة فقد كانت الراوية من جهة وخالة مرة من ناحية أخرى وقامت بتمثيل الدورين ببراعة وإتقان؛ ولذلك رغم ما اختلفت فيه مع مخرج العمل فإنه سيظل جهدا قد حاول الكشف عنه للجمهور.


ضحى الوردانى