يوتيرن ومعارضة اللاوعي الجمعي

يوتيرن ومعارضة اللاوعي الجمعي

العدد 553 صدر بتاريخ 2أبريل2018

يقدم مسرح الطليعة العرض المسرحي “يوتيرن” إخراج السعيد منسي عن مسرحية نجونا بإعجوبة لـ”ثورنتون وايلدر” دراماتورج وأشعار سامح عثمان. بنية مسرحية وايلدر “نجونا بإعجوبة” تعتمد على الفنتازيا حيث القفز في الزمن فهي تعرض لبعض الأزمات التي تهدد الجنس البشري، فمن عصر الجليد إلى الطوفان ومنه إلى الأزمة الاقتصادية في ثلاثينات القرن العشرين والحرب العالمية.
“وايلدر” كتب المسرحية 1942 حينما بدا انتصار الحلفاء على النازية، وتستعين المسرحية في كتابتها بتقنيات سينمائية وإذاعية ومن سائر الفنون.
عنوان العرض المسرحي “يوتيرن” يحمل بين طياته فكرة العرض الجوهرية، حيث الدوران إلى الخلف بما يشيره من دلالة، فقد تسلك نفس الطريق ولكن بالعودة لنقطة البداية، في هذا العرض تبدو هذه النقطة هي “القتل” التي تعد إذانا ببداية جديدة لنفس طريق الشقاء.
رحلة العرض يصحبنا فيها (قابيل رمز القتل في كل العصور) ذلك القاتل المُتجسد في كل حرب تُشن على بني البشر، ومع كل مقتول في كل لحظة في أي مكان.
يقدم العرض أفكاره عبر تقنية “الميتاتياتر” حيث المسرح داخل المسرح، عبر ثلاث شخصيات يؤدون دور الراوي المُشارك في تطوير الفعل، بتقديمهم وتدخلهم في الأحداث، إلى جوار تجسيدهم بعض الأدوار يتم المُضي قدما في الأحداث الدرامية، هم في حقيقة الأمر يمثلون حبكة إطار تعد حلقة الوصل بين المُتلقي وما يحدث من قفزات زمنية ضمن سياق العرض.
يعد القتل إذانا بانتهاء الحياة السعيدة لتحيا البشرية في شقاء دائم، تلك طبيعة الأشياء حيث الوضوح المُقبض، المٌتجسد في الشقاء المستمر.
ثمة ثلاث شخصيات رئيسية (الأب/ آدم) و(الأم/ حواء) رمز الخصوبة مُنجبة الأبناء إلى جوار الغواية التي تجسدها )الأنثى حاملة التفاحة) بغوايتها لآدم.
في العرض يتم مُعارضة المعنى المُتعارف عليه في “اللاوعي الجمعي” للمتلقي، فحاملة التفاحة رمز الغواية، تنفصل عن(الأم/ حواء) رمز التحفظ والاستقرار، في هذه الأسرة الفاقدة )لهابيل) ابنها، عبر قتله من قِبل الابن الآخر )قابيل)، فهي حالة من الانشطار لشخصية حواء الراسخة في وجدان المتلقي لتبدو حواء اثنتين بينهما صراع يبدو فيه التعارض جليا، فالأولى الزوجة تقاوم سطوة العشيقة، فيتم إلقاء الضوء على الواقع وتلك الازدواجية، لدى بعض الرجال فثمة زوجة للإنجاب وعشيقة للغواية.
بإمعان النظر فيما تواجهه البشرية من التعقيد والمجاعة، إضافة إلى الحروب والأنظمة الشمولية التي عرفتها البشرية، ترك الإنسان ليعيش بلا أوهام أو أساطير أو ما يعتبره ليوتار “حكايات كبرى”، وإذا كان لا وجود لحكايات كبرى يمكن أن نصدقها، فينبغي إعادة النظر فيما كنا نعتقد أنه من الثوابت في حكاياتنا الأثيرة، وعلى ذلك يمكن أن تنشطر حواء إلى اثنتين تجسدان على خشبة المسرح واحدة للغواية وأخرى للتزاوج.
في خلفية منطقة التمثيل توضع شاشة، تقدم إشارات مُعارضة لما يتم أداؤه في المقدمة، فيمكن تقديم مشهد يُعَبر فيه عن الغواية والشهوة الجسدية في مقدمة منطقة التمثيل، من خلال أداءات حركية راقصة مُفعمة بالحياة من المرأة ممثلة الغواية، في حين أن الشاشة تعرض لقطات من أسلحة وانفجارات وسحق للبشرية عبر القتل، وهكذا لا يمكن الثقة في الحياة ذاتها، فلا يمكن التأكيد سوى على الموت الكامن في العمق “خلفية خشبة المسرح”، بينما هذا السطح “المقدمة” يعرض حياة زائفة تنتهي بانتهاء الغواية.
فكرة القتل تعد فكرة جوهرية في عرض “يوتيرن”، فهي الفكرة التي يبدأ بها العرض وينتهي بها أيضا، فلم يعد أي شيء يمكن اعتباره حقيقة سوى الموت نفسه.
يوجد مستوى بارتفاع واضح، يؤدي عليه الممثلون الأحداث المسرحية، ينبثق من هذا المستوى مستويان أحدهما في العمق وأآخر على أحد الجانبين يتم استخدامه عند الحاجة. يفصل بين المتلقي وهذا المستوى التمثيلي خيوط رفيعة وكأنها عازل ما بين هذا العالم التمثيلي وعالمنا الحاضر، يعد العازل نوعا من الإبعاد سواء على مستوى المكان أو الزمان، فعليك بصفتك متلقيا أن تتابع ما يجري من أحداث دون الانغماس فيها، وأيضا يمكنك النظر إلى البشرية وتطورها من خلال منطق المُراقبة، يسعى العرض بشكل دائب إلى أعمال عقل المتلقي، حيث يقدم المخرج مجموعة من الرسائل التي تبدو مُتعارضة من حيث الصورة، لينتج ذلك المعنى الثالث - في نفس المتلقي - المنبثق من ذلك الجدل الصوري القائم على خشبة المسرح.
قام بأداء دور الزوج “شريف خير الله” واستطاع الانتقال بين الشخصيات، من خلال القفز في الزمن واختلاف الأداء وفق طبيعة العصر بشكل جيد، فلم يكن زوج عصر الجليد مثل العصر الآني، بل توافق مع طبيعة اللحظة الدرامية وما تتطلبه من أداء.
قامت بأداء الزوجة “هايدي عبد الخالق” وأداؤها ممزوج بالحس الكوميدي، وتبدو سرعة الانتقال في الأداء من شخصية لأخرى في سهولة ويسر.
ريهام أبو بكر قامت بدور (الخادمة  –الجميلة) يبدو الاجتهاد واضح في أدائها، وتقدم بعض الأداء الحركي من (كيروجراف – عمرو باتريك) في جزء من المسرحية وهو مؤثر على مستوى الرؤية البصرية ويعبر عن حالة الغواية بشكل واضح.
)ميشيل ميلاد، ريتا هاني، إسلام علي) قدموا دور الراوي المُشارك في الأحداث عبر تقنية الميتاتياتر، وأبرزوا كثيرا من المواقف بطريقة كاريكاتورية أدت إلى تفاعل المُتلقي مع العرض المسرح.
العرافة “سوزان مدحت” أدت دورها بشكل موفق، حيث يعد دور العرافة دورا هاما في المسرحية، فهي الشاهد على الأحداث والمحرك لها أحيانا، ففي ظل تلك الحروب التي سيطرت على بني البشر، قد يلجأ الإنسان إلى ذلك العالم الغيبي، محاولا التمسك بأي نوع من الأمل، حتى ولو كان متجسدا في تلك الخرافة التي تصنع حالة من تغييب الوعي عن ما هو قائم من قتل ودمار.
الابن “هشام فهمي” (قابيل) بهذا الأداء الحاد الغاضب استطاع التعبير عن الشر القائم على الدوام.
الابنة “نرمين نبيل” الاجتهاد واضح في أدائها التمثيلي، ومحاولاتها الانتقال بالشخصية من عصر لآخر.
مسرحية “يوتيرين” تمتلئ بالتفاصيل الفنية الإنسانية، التي تثير العقل بالتساؤل وتجعل المتلقي يتفاعل مع ما تقدمه.


داليا همام