العدد 548 صدر بتاريخ 26فبراير2018
دينا سليمان كاتبة قصة شابة نالت العديد من الجوائز عن معظم أعمالها القصصية وأيضا في مجال الكتابة المسرحية، صدر لها في الهيئة العامة للكتاب عام 2017 ثلاثة نصوص مسرحية تحت عنوان “العرايس”؛ وهو أحد عناوين المسرحيات الثلات الذي نالت عنه جائزة التأليف الدولية من مهرجان هايدلبرج في ألمانيا عام 2012.. وربما تميز أسلوب الكتابة بعدة تقنيات هو ما دفعنا لتقديم هذه القراءة التي تحاول أن تجترج تجربة الكتابة المسرحية عند دينا سليمان؛ حيث إنها اعتمدت في كل نص من نصوصها الثلاثة على نهج مختلف – في ظني - هو ما يمنح الكتابة حيوية وتنوعا، ويعكس قدرة وتمكن في معالجة ما يكتب على الورق وجعله مشخصا من لحم ودم على خشبة المسرح.
وهنا تشاهد حركة محسوبة بمخيلة تعي المساحة المتاحة لمشاهدة النص يتجسد أمام عينيك.. وهذا ليس كلاما مرسلا مزيلا بكلمات من المديح، وربما محاولة قراءة النصوص في ذلك المقام تطمح في تقريب النص من عمل إبداعي ذهني يتسم بالأدبية إلى دراما حركية تكتمل أركانها؛ بحيث تسهل عملية الإخراج التي عبدت لها الكاتبة الطريق إلى خشبة المسرح.. ويبدو هذا واضحا جليا في تعمد النصوص الحرص على اختيار كل مفردات العمل المسرحي في الصياغة من حركة وديكور وملابس وإضاءة وموسيقى ورسم الخطوط الرئيسية التي يمكن أن يعتمد عليها إخراج تلك النصوص وتقديمها مشهديا للمتلقي.. وهي في أبعد التقديرات لا يمكن للإخراج تجاوزها أو تجاهلها لأنها ولدت من مخاض عملية الكتابة نفسها، فجاءت نسيجا متضافرا مع الأفكار الرئيسية للنصوص.
ويمكنك أن تراجع وجهة النظر تلك على النصوص الثلاثة بداية من نص “العرائس” الذي قصدت الكاتبة فيه إلى اختيار عرائس الماريونيت قصدا، للتعبير عن حالات الظلم التي يمكن أن تقع على بنات هذا المجتمع اللائي تتمحور معاناتهن في نظرة المجتمع للأنثى على أنها كم مهمل، بضاعة يمكن الاتجار بها وعرضها في فاترينات للفرجة والبيع. ولا تتوقف محاولات الكتابة عن بث روح التمرد والخروج عن تقاليد بالية يمكن أن تتلاشى وتنمحي لمجرد الرفض والتمسك بحق الفرد/ الأنثى في الحياة وتحرير روحه/ روحها من هذا الأسر المتوارث.. حقيقة، خططت سليمان لحركة العرائس فوق خشبة المسرح أثناء كتابة النص للدرجة التي تجعل مخيلة القارئ/ المشاهد أن يرى النص مجسدا داخل رأسه لتنعكس الرؤية من داخل تلك المخيلة، وتلك الحرفية هي ما يعطي النص قوة؛ بحيث يتفاعل المتلقي ويندمج في عملية إبداعية يجد نفسه شريكا فيها بلا وعي أو قصد.
وإذا ما انتقلنا للنص الثاني من مجموع النصوص وهو الموسوم بـ”اللبؤة”، نجد مستوى آخر من الكتابة يتناسب وطبيعة الموضوع الذي اختارته الكاتبة للعرض، فنحن أمام رؤية تميل إلى الطرح الفلسفي الوجودي، الذي توسلت إليه بخلق عالم موازٍ لعالم البشر متمثلا في عالم الحيوان، وبناء عليه قسمت خشبة المسرح إلى قسمين: عالم البشر، وعالم الحيوان ويفصل بينهما سور لتوهم العزل، وإقامة معاهدة سلام قائمة على قوانين تحمي العالمين من الاختلاط ومن ثم الصراع.. لكن، هل ثمة فارق كبير بين العالمين؟ هل ينظر كل عالم إلى الآخر ليجد صورة مماثلة لعالمه؟ هذا ما قصد إليه النص قصدا، وهو أن ليس هناك فارق بين البشر والحيوانات؛ من حيث طبيعة الصراع التي تحكم الجميع؛ ومن حيث منظومة العلاقات القائمة على المصلحة والمنفعة الشخصية التي تستغل المشاعر أسوأ استغلال وتصر على أن تحطم براءة الروح وتشوه الخليقة كافة سواء عالم البشر أو عالم الحيوان.
ولتقريب هذه الرؤية نجد تداخلا وتضافرا دراميا بين العالمين، الأمر الذي تذوب فيه حركة الجميع فلا يمكن الفصل بين ما هو إنساني وما هو حيواني، وأن ثمة حياة واحدة تقوم على صراع تحكمه قوى الشر وتنهزم فيه كل قيم الحق والجمال والحرية، ولا نلحظ تباينا واضحا سوى على مستوى الهيئة والشكل.
أما النص الثالث، الذي هو مأخوذ عن قصة “بيت من لحم” ليوسف إدريس، فإنه يعد دراماتورجا لجملة من المعاني والمشاعر التي حاول أن يقدمها لنا إدريس في قصته، وربما كان ينشد تقديم رؤى مضافة وجديدة على ما وضعه إدريس؛ حيث ركز النص المعنون بـ”خاتم العميان” على أن العمى هو ضلال النفس عن هداها ومن ثم عذابها وتحطمها، وليس العمى هو فقد الرؤية البصرية، إنما النور ينبعث من داخلك كلما عرفت نفسك إلى أن ترغب في رحلة البحث عن مصيرها.
لكن، كيف يمكن تقديم فرجة مسرحية لحكاية تتمحور حول فعل الجنس بين رجل وأربع نساء فوق خشبة مسرح تمثل غرفة واحدة بها سرير واحد.. في الحقيقة، لم تترك دينا سليمان مشاهدها الأهم في تلك المسرحية دون أن تقدم معالجة هي الأقرب – في ظني – إلى فرجة تتسم بالمتعة والتشويق حول فعل شديد الحساسية وأكثر إثارة للجدل – خاصة أننا أمام حركة مسرحية من لحم ودم وليس مشاهد سينمائية تصور بالكاميرا – وقد نجحت في تقريب ذلك كله باستخدام الإظلام والإضاءة مع مصاحبة الموسيقى. لم تتخذ الكاتبة أسلوبا أدبيا في تصوير تلك المشاهد وتترك مخيلتنا تبتعد عن ما لا يمكن التمكن منه على خشبة المسرح، فهي شديدة الوعي بكونها تقدم دراما مسرحية لها شروطها في التحقق، وهو ما قصدنا منذ البداية إلى توضيحه والتركيز عليه دون السمات الأخرى التي يمكن أن تتوافر في جملة النصوص.
وأخيرا، ربما تنجح تلك القراءة في مقاربة نصوص دينا سليمان – تلك الكاتبة الشابة – وتقديمها للمخرجين المسرحيين لتنفيذها على خشبة المسرح، وربما تتضمن إجابة صالحة على الرأي الذي يدعي أننا نعاني فقر التأليف المسرحي ونفتقر إلى كتاب مسرح يدركون ماهية خشبة المسرح.. والأمثلة كثيرة وغنية نرجو أن يسعفنا الزمن في عرض بعضها لمسرحنا المصري العريق.