أفراح القبة عوالم بعضها فوق بعض

أفراح القبة  عوالم بعضها فوق بعض

العدد 548 صدر بتاريخ 26فبراير2018

سلك الخيال منذ بدايات القرن العشرين مسلكا جديدا ومختلفا كل الاختلاف عما سبق؛ فهذا القرن هو الذي اعتبره الكتاب والأدباء والفلاسفة والمفكرين قرن الشك وانتفاء اليقين وهدما لكل مسلمات الماضي اليقينية التي رسختها الفلسفة والآداب والفنون والعلوم من استتباب لأركان النظام الكوني وتثبيته في ضوء ما وصلت إليه الأمة الإنسانية آنذاك من اجتهاد وبحث، وما ترسخ في يقينها ووجدانها من مفاهيم ومصطلحات؛ فكان هذا القرن بمثابة الثورة الكاملة والشاملة لمحو اليقينات القديمة ليقوم بعدها بإعادة ترسيم الخريطة الإنسانية من جديد برؤى فكرية مختلفة وغريبة عن تلك السائدة وقتها، معتمدا في ذلك على آخر ما وصلت إليه الإنسانية من تطور جاعلا منه لبنته الأساسية للانطلاق نحو التقدم والتطور.
هذه القطيعة لمسلمات الماضي اليقينية امتدت لتشمل المسرح أيضا، فأسست لظواهر فرجوية جديدة ترسخ لمفاهيم مغايرة في طبيعة وعلاقة المسرح بالجمهور، وبالتالي علاقة النص بالمخرج وممثليه ومدى ارتباطهما بمفاهيم الحياة آنذاك، ولعل من أهم تلك الظواهر ما أنتجه الكاتب الإيطالى “بيرانديللو” من كشف لعملية الصنعة المسرحية في مسرحيته “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” ليؤسس بذلك لتيار بدأ يشير إلى المسرح بنفسه في محاولات لكشف اللعب المسرحي وصنع الإبهار في نفس الوقت، فترسخت ظاهرة أن المسرح يشير إلى ذاته وإلى نفسه self reference، ولعل ذلك ما نحاه أيضا نجيب محفوظ وهو يخط رائعته “أفراح القبة”، فجسد في الرواية عالم المسرح بكل ما يحويه من خبرات وتجارب وتفاصيل تملأ جنبات الحياة بالتأمل والتفكر، بل إن الشكل الحداثي الذي اجتاح المسرح في بدايات القرن العشرين، قد تجسد أيضا في تكنيك السرد الذي انتهجه محفوظ من خلال تقسيم فصول الرواية على أبطالها فبات كل فصل ترويه شخصية من الشخصيات وفق منظورها الشخصي للحدث في حالة أشبة بالشكل التعبيري الذي يعتمد على تكنيك اللوحات المتجاورة التي تكتمل أبعادها وصورتها حين تنتهي كل الشخصيات من سرد الحكاية وكأنه مستوى آخر من التكعيب النسبي الذي لا يحمل حقيقة واحدة مطلقة وإنما تعدد وجهات النظر هي ما تصوغ الحقيقة في ثوبها الكامل.
كان هذا التمهيد من الأهمية بمكان حتى يتسنى لنا فهم خطوط التقاطع والتوازي التي سار عليها عرض “أفراح القبة” الذي قدم على خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي “ذكى طليمات”، من إخراج (بهاء الخطيب)، ودراماتورج كل من (فادي نشأت – آيه السيد – محمود عبد الواحد)؛ فصناع العرض هنا قد أهملوا كل الخطوط الموازية لشخصية (عباس كرم) في الرواية مقابل جعله هو البطل المحوري الذي تدور حوله ومن خلاله الأحداث وهو ما تركز في استعراض أزمته الوجودية باعتباره شخصية تقع على الدوام في حالة الاختيارت الحدية وتسوقه إلى الانتحار كشكل من أشكال الخلاص الوجودي لشخصية تبحث عن الحلم ولم تستطع الاندماج في بيئة ومجتمع يقوم على الدعارة والتناقض الأخلاقي.
وبالتالي انتفت عن العرض فكرة النسبية التي وظفها محفوظ في سرد الحكاية في روايته وبات جمهور العرض يرى الحقيقة فقط من منظور شخصية عباس، ويتابع خطوط الشخصيات الأخرى من ذلك المنظور فقط؛ وهو أن ساعد كثيرا في تجسيد أزمات شخصية عباس وإضفاء مزيد من العمق في ملامحها إلا أنه أيضا أضعف من تشكيل باقي الشخصيات الأخرى كشخصية (سرحان) مدير المسرح الذي لم يظهر له أثر يذكر في سياق العرض، رغم تمثله للقوى الخفية التي تسوق الحدث في بعض مراحله عبر هيمنته على باقي الشخصيات باعتباره صاحب المسرح ومنتج المسرحية التي تجسد مأساة عباس.
تعددت مستويات التداخل في العرض ما بين الحقيقي والدرامي عبر تلك المستويات التي صنعها المخرج ومهندس الديكور على خشبة المسرح، فنجد مستوى الصالة الذي يتمركز فيه الجمهور صعودا إلى خشبة المسرح على المستوى صفر الذي يمثل الحياة الواقعية لشخصية عباس في الحبكة الخارجية أو الحبكة الإطار، ثم المستوى الأعلى منه الذي يجسد خشبة المسرح التي يقام عليها العرض المسرحي الذي كتبه عباس وتجسده الفرقة المسرحية في الحبكة الداخلية. إذن نحن أمام عوالم متداخلة تتراكب بعضها فوق بعض منها ما هو واقعي ومنها ما هو درامي إلا أن زمام الفصل الحاد ما بين تلك العوالم لم يتضح فقط إلا في شكل الديكور كما تم وصفه، بينما تناقض ذلك في حركة الممثلين، فبتنا نجد حالات اختراق مستمرة من الممثلين في الحبكة الداخلية إلى الخروج لمستوى الخشبة صفر “مستوى الحياة الواقعية” مع استكمال للحدث الذي يدور في الحبكة الداخلية، وبالتالي اختلط عالم الواقع مع عالم الدراما ولم يعد هناك حدود بين العالمين بل زاد الأمر أيضا إلى دمج مستوى الصالة مع مستوى الخشبة صفر الذي يمثل الحبكة الإطار عبر تحركات كل من والد ووالدة عباس للجلوس بين صفوف الجمهور في الصالة لمشاهدة العرض الذي تقدمه الفرقة على خشبة المسرح، وبالتالي أصبحت العوالم كلها متداخلة في حياة عباس فلم يعد يفصل بين ما هو درامي وما هو حقيقي، فهو يجسد حياته بكافة تفاصيلها على خشبة المسرح وبكل ما مر به في علاقته بأمه التي ربته على المثالية والكمال في حين أنها هي من انتهكت تلك المثالية عبر عملها كعاهرة لصاحب المسرح.
إن أزمة عباس الوجودية التي جسدها العرض تصنع حالة أخرى من التداخل والاختلاط لدى الجمهور ما بين ما هو درامي وما هو واقعي عبر التماس والتلاقي لشخصية (عباس) باعتبارها شخصية درامية وشخصية (جان جينيه) باعتبارها شخصية واقعية تشابهت حياتهما في مناطق كثيرة؛ فلقد توقف جينيه عن كتابة الرواية حين كتب عنه سارتر مقدمته الشهيرة “جان جينيه: قديسا وشهيدا” التي عرت جينيه أمام ذاته وفضحت كوامنه التي يسوقها في روايته وحينها توقف جينيه عن الكتابة لمدة خمس سنوات ليعود بعدها إلى كتابة المسرح لأول مرة في حياته، فلقد وجد في المسرح القناع الذي يبحث عنه ليتخفى عبر شخصياته الدرامية من كشف ذاته أمام الآخرين، وهو نفس الموقف المشابه لسلوك عباس نفسه في العرض، فلقد لجأ عباس إلى كتابة مسرحية تجسد على خشبة المسرح باعتبارها عملا دراميا إلا أنها في الحقيقة تجسيد حي لحياته الواقعية التي يحياها حتى إنه لم يغير في الأسماء أو الشخصيات أو أماكن الحدث، فباتت شخصيات الواقع المكونة للفرقة المسرحية هي نفسها التي تجسد مأساتها أمام عينيها، وهو ما استدعى الاعتراض الكبير في بداية العرض من قبل الفرقة لرفضها التجسيد إلا أنهم ينصاعون في النهاية أمام إرادة صاحب المسرح لتنكشف ذواتهم تدريجيا أمام الجميع.
هذا التقنع هو ما يكشف أيضا مدى تأثر صناع العمل بمسألة الحقيقة والقناع وحدود التداخل فيما بينهما على طريقة بيرانديللو في ذوبان الحدود الفاصلة ما بين الحقيقة والخيال، وهو ما عمد إليه المخرج من خلال تجسيد مشاهد متوازية للحدث من خلال الحبكة الداخلية والخارجية معا، فنجد بعض المشاهد تبدأ في الحبكة الداخلية (الخيال) ويتم استكمال حوارها وتجسيده في الحبكة الخارجية (الحياة الواقعية) ثم الارتداد ثانية إلى الحبكة الداخلية لإنهاء الحدث، وهو ما استدعى من المخرج أن تزدوج لديه الشخصيات حتى يحقق هذا الأمر، وبالتالي أصبح لدينا من كل شخصية اثنان من الممثلين يقومان بتجسيدها حتى يتحقق ذلك الأمر، إلا أن المخرج لم يلتزم بهذا التكنيك وأبقى على شخصية طارق رمضان يلعبها ممثل واحد في الحبكة الداخلية والخارجية؛ مما استدعى حالة من حالات التشويش والارتباك في دفع الحدث للأمام وخصوصا مع التسطيع المتعمد في العرض لشخصية طارق رمضان المجسدة لفعل الشر في الرواية، فهي النقيض البشري الذي يحمل سمات الشر والخير بداخله أمام شخصية عباس التي يحلم بالمثل وقيم الخير والحق فقط، وهو ما انتهى به إلى تلك النهاية المأسوية في نهاية المطاف عبر قتله على يد طارق رمضان في الحبكة الخارجية أو خلاصه بالانتحار في الحبكة الداخلية.
اتباع تكنيك ذوبان العوالم مع بعضها يحتاج من المخرج وكل فريق العمل وعيا كاملا ودقيقا بكافة عناصر العرض المسرحي وحسن توظيفها بما يخدم تلك الرؤية ويحقق التكنيك على الوجه الأمثل إلا أن مشكلات التنفيذ في العرض بدت كثيرة انتقصت من تحقيق رغبة المخرج لبناء رؤيته الفنية، فنجد أن الإضاءة لم تعبر في مناطق عن الفصل بين العوالم وبعضها أو حتى امتزاجها في مناطق أخرى وبات الممثلون يجسدون شخصياتهم في مناطق الإظلام أكثر من اصطياد بؤر الإضاءة، كما أن حركات الممثلين ما بين الدخول والخروج للكواليس جانبها أيضا التوفيق ساعدت على طمس هوية المكان وأبعاده الجغرافية التي صنعها مهندس الديكور فأصبح الدخول والخروج من وإلى خشبة المسرح يأتي بشكل مجاني ولا يرتكز على أساس واضح ومتفق عليه، وربما العنصر التمثيلي كان هو الأبرز ضمن منظومة العرض حيث جسدت الشخصيات أدوارها بشكل جيد ضمن فهمها لطبيعة العرض مع المحافظة على الخط الزماني المتفق عليه في الرواية نفسها، مع ضرورة مراعاة التدقيق اللغوي ومخارج الألفاظ التي جاءت ضعيفة إلى حد ما في العرض.
العرض في مجمله تجربة ثرية بالتأمل والنقاش تحتاج من المخرج إعادة نظر في بعض جوانبها، وخصوصا أن عروض الليلة الواحدة تحمل من الأخطاء التنفيذية الكثير بما لا يخدم طموحات المخرجين في تقديم العروض كما يتوقعون أو يأملون، إلا أن التصدي لرويات نجيب محفوظ لتجسيدها على خشبة المسرح هو أمر محمود يستحق الإشادة وفي نفس الوقت مغامرة محفوفة بالمخاطر يجب أن يتحمل الجميع مسئوليتها.
 


باسم عادل