«حكاية سعيد الوزان» النص الفائز بجائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب يا إبراهيم لقد صدقت

 «حكاية سعيد الوزان» النص الفائز بجائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب يا إبراهيم لقد صدقت

العدد 547 صدر بتاريخ 19فبراير2018

رافقنا إبراهيم الحسيني كثيرا في بحر إبداعه ذي السمات شديدة الوضوح، بقضاياه التي ناقشت كينونة الإنسان ووجوده وحريته وصورته الاجتماعية، في مجتمع (سلَّع) كل شيء، و(بضَّع) كل شيء، و(شظَّى) كل شيء.
وكتابات إبراهيم الحسيني ذات سمة بارزة، فهي نصوص مسرحية كُتبت للعرض المسرحي، تستمتع بقراءتها مستندا إلى الصورة المسرحية، التي حرص الحسيني على تأكيدها ودعم دلالاتها، وبعض صوره المسرحية تحتاج إلى جهد غير عادي لتنفيذها، وقد تتطلب وسائط متعددة لتجسيد ما كتبه، لكن هذه الصعوبة لا تشغل بال الحسيني، كل ما يشغله هو كتابة النص المسرحي (مشروع العرض) كما يراه هو.
وفي هذا النص المسرحي (حكاية سعيد الوزَّان) ينقلنا الحسيني إلى كتابة أخرى، لم يسبق له تجربتها – على حد علمي – يأخذنا للغوص في أعماق تجربة، عارضا دررا حقيقية ومراوغة في ذات الآن، يدخل ميدان التعامل مع المأثور الشعبي، ولكن بطريقته ووعيه، ينحاز إلى اتجاه مناقشة المأثور والجدل معه، وقد يصل إلى تفجير المأثور من داخله، واستنطاقه ومحاكمته...... أو دفعنا لمحاكمته.

بداية من اسم المسرحية (حكاية سعيد الوزَّان) كدال... ينبهنا الكاتب إلى أنه يروي (حكاية)، أو يحكي (رواية)، وفي الحالتين هما مصنفان لهما سند وأصل سابق، وسلسلة من الرواة والحكائين، كل بصيغته وروايته. كما أن الحكاية تعني ذيوعها وانتشارها وتنوعها.. واستمراريتها كذلك. فالكاتب هنا يختبئ خلف الجماعة ولسان قلمه يقول: “هي حكايتكم.. وأنا أدونها لكم فقط، هي لغتكم، هي شخوصكم، هي أحداثكم وحوادثكم، هي مأساتكم التي تستحق منكم التفكير حتى لا تتوغل وتتوحش شجيرات التكفير، ورغم أنها حكايتكم.. وأنا أرويها لكم تذكرة أو تعريفا.. إلا أنني موجود.. لم ولن أختفي.. فأنا من يحكي.. ولي وجهتي وسبيلي”.
ويختار الحسيني لبطله اسم (سعيد)، وما يقدمه عنه بداءة لا يدخل في إطار أن الاسم على مسمى، فسعيد هو تعيس قلق، يسكنه الوهم، ويسكن هو التيه، وعنوان طرائقه الضلال، وبدايات سعيد كما يقدمها لنا الكاتب لا تحمل إلا أسئلة شائكة زَلِقَة، وحيرة وحزن مكتوم، واختبارات تتداخل فيها العوالم! وكأن سعيد تطبيقا للمثل الشعبي الشهير، الذي يصبح قانونا معيشا في حالته: “لو كانت الأسامي بفلوس..ما كانوش سموا الأعمى فانوس”.
ويقترن اسم بطلنا بصفة (الوزَّان) وهو توصيف للشخص الذي يحسن تقدير الأمور (ويزنها) بشكلها الصحيح، ونظل طوال اللوحات الأولى في المسرحية نتساءل: أين البطل من اسمه؟؟ وأين سلوكه وفعله من وصفه؟؟
ويدخلنا إبراهيم الحسيني إلى عالم (سعيد الوزَّان) الذي يختلط فيه الحلم بالحياة المعيشة، والخيال بالواقع، ونتساءل بين لحظة وأخرى: في أي بحر نبحر؟!هل هو عالم حلم سعيد؟ أم واقع حياته ومعيشته؟ ويصطحبنا الكاتب في رحلة بطله التي تشبه رحلات الأبطال الشعبيين، فهو البطل الذي يواجه في رحلته المعوقات، ويجد كذلك مع كل معوق شخصية أو أداة تساعده على اجتياز المعوق.
كذلك هي رحلة سعيد الوزَّان.. رحلة تطهر يمر بها.. يتخلص من جميع أدرانه بالتدريج و(كلما عانى..ارتقى)، وكلما أوغل في طريقه قل مشاركوه، وتأكدت فردية تجربته، حتى نصل إلى موقف مستوحى من التراث القصصي الإسلامي في معراج الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وترجمة لمقولة جبريل (عليه السلام) للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم): “... تقدم.. إن تقدمتُ احترقتُ.. وإن تقدمتَ اخترقتَ” أي أن جواز الفعل مقترن بصاحبه وغير مُعمم، فالوصول إلى سدرة المنتهى، والمثول أمام الذات العلية، بجوار كرسي العرش هي للنبي محمد فقط، لا يشاركه فيها أحد.
وفي نهاية رحلة سعيد، وهو يحتضر يصرح بأنه (وصل) حتى وإن لم يرَ الآخرون ذلك، فهو يعبد حبا، ويطيع عشقا، ويذوب امتثالا، فهل بعد هذا (وصل)؟!
ويدخل إبراهيم الحسيني إلى منطقة التراث القصصي العقائدي بقصة التائب بين بلدتين، والقصة تحكي عن رجل قاتل. أزهق بلا ذنب تسعا وتسعين نفسا، ولاحت له بوادر التوبة، والعودة إلى طريق الله، فذهب إلى أحد المتعبدين، وسأله وألح عليه في السؤال: هل لي توبة؟ فأنكر المتعبد عليه ذلك، وذكَّره بالسيئ من تاريخه، وأن لا توبة له ولا جزاء يستحقه إلا جهنم خالدا فيها، فما كان من الباحث عن التوبة إلا قتل المتعبد، فأكمل به المائة نفس أزهقها!!
وبعد فترة ألحت على القاتل فكرة التوبة مرة أخرى، وسيطر عليه الندم وسرق منه يقظته ونومه، فذهب لمتعبد آخر، وسأله نفس السؤال: هل لي توبة؟، فأجابه المتعبد: نعم لك توبة، فقال القاتل: وبعد مائة نفس؟! فأجابه المتعبد: وبعد مائة نفس..بشرط واحد، فتساءل القاتل: ما هو؟، فقال المتعبد: أن تخرج من بلدتك التي لا ترى فيها إلا جرمك وماضيك، مما يدفعك لجرم جديد، عليك أن تذهب إلى قرية كذا... فيساعدك صلاح أهلها وتصح توبتك، فوافق القاتل التائب وخرج إلى القرية المبتغاة لخلاصه، لاستكمال توبته، تاركا الدنيا وما فيها، وتاركا كل ما يخصه في قريته وإن غلا، ولم يحتفظ سوى برغبته الحاكمة والمسيطرة على عقله ووجدانه في التوبة.
وخرج القاتل التائب وفي الطريق وافته المنية، فجاءت ملائكة الرحمة وجاءت ملائكة العذاب، وكل يريد أخذه، وتنازعوا الأمر، فمن قال: هو قاتل ولم يستكمل توبته ولم يصل إلى أرض صلاحه. ومن قال: هو تائب وخرج يبتغي أرض صلاحه، فأوحى الله سبحانه وتعالى للفريقين بأن يحتكما إلى المسافة بين البلدتين، فإن كان أقرب إلى بلدة ضلاله فتأخذه ملائكة العذاب، وهي الأولى به، أما إذا كان أقرب إلى قرية صلاحه، عُدَّ من التائبين الصالحين، ثم أمر الله سبحانه وتعالى – رحمة بعبده التائب – أن تطول الأرض ناحية بلدة الضلال، وأن تُطوى الأرض ناحية بلدة الصلاح، وبعد قياس وتقدير المسافتين، أخذته ملائكة الرحمة طائعا تائبا برحمة الله وغفرانه وفضله.
ويوظف الكاتب هنا تلك الحكاية من التراث القصصي الدينى فنجد المتعبد المتعنت مع سعيد الوزَّان الذي ينكر عليه التوبة، يفاخر عليه بطاعته هو، ويلمز سعيد بمعصيته، وكأن إبراهيم الحسيني يترجم في رسمه لشخصية المتعبد المتعنت قول حسن البصري «يضيع هذا الدين بين الفاني فيه، والجافي عنه «فكلاهما ضائع ومضيع، وكلاهما وكأنه ينكر على الله سبحانه وتعالي – وحاشا لله – حكمته في التنوع والاختلاف، “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (هود 118 - 119)
كما أن المتعبد المتعنت بإنكاره على سعيد الوزَّان توبته وأوبته، وإعلائه في المقابل لطاعته هو، لم يفطن ويقر قول الله سبحانه وتعالى “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس 99)
ولم يفهم المتعنت أن الله سبحانه وتعالى شرع التلاقي والتعارف كي يتعايش المختلفون المتنوعون، ووسيلة تعارفهم وتلاقيهم هي الحوار، حوار بشروطه الصحيحة والصحية، وكأن الحوار المسرحي الساخن بين سعيد الوزَّان والمتعبد المتعنت مانيفستو بالمبادئ التي يجب توفرها في الحوار البناء الهادف ومنها: وجوب توافر الاحترام المتبادل، الاعتراف بالحقوق والواجبات، ووجود حد أدنى من المعرفة بالآخر وفكره وثقافته، والاعتراف بنسبية الآراء والأفكار، وعدم ادعاء تملك الحقيقة المطلقة الكاملة، وأن كل منها اجتهاد في الفهم والإدراك، والشفافية في عرض الآراء والأفكار، والصدق والرغبة في الوصول إلى التوافق حول المشترك من القيم وتحديد موضوعات الحوار، وتعريف المصطلحات والمفاهيم، وتحديد معنى واضح للمفردات المستخدمة، والاتفاق على أن الهدف الأول من وجود الإنسان على الأرض هو تعميرها، وإثراؤها والحفاظ على خيرها وتنميتها.
فكأن الكاتب أراد بعمله الفني هذا الدعوة إلى الحوار وقبول الآخر والاعتراف بأساسيات حوار، يعلي من قيمة وعلاقة الإنسان بربه، ويقصم ظهر (المتألهين)، والمدعين التحدث باسم الله، والذين ينكرون الحوار هم منكرون للدرس الأعظم للحوار، وهو الحوار الذي يحاور فيه الخالق مخلوقه العاصي، هو حوار الله سبحانه وتعالى مع مخلوقه العاصي إبليس. «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ «28» فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ «29» فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «30» إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «31»‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «32» قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ «33» قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ «34» وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ «35» قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «36» قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ «37» إلى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «38» قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «39» إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «40» قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَي مُسْتَقِيمٌ «41» إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ «42» (الحجر 28 – 42)
وحوار سعيد الوزَّان مع المتعبد المتعنت يناقش مفاهيم الرحمة..المغفرة..التوبة...بين من يرى نفسه إلها يمنح ويمنع، ومن يرى نفسه عبد ا عصى وتاب وأناب، ويريد رضا الله، وبتتالي جمل الحوار كأن الحسيني يقدم حيثيات قتل الأخير (كفكرة).
والمتعبد الثاني في رحلة سعيد في بحثه عن التوبة، يعتبر (دليل الطريق والمسلك) يعتمد أصل الصوفية وفلسفتها في تحويل الذميم إلى حميد، والقبيح إلى جميل، وترى أن “الجدال قتال” فالكل يحاول الانتصار لنفسه، بغض النظر عن الانتصار للحق أو الانحياز له، لأن شرط الجدل الأساسي غائب وهو «وجادلهم بالتي هي أحسن». فالصوفية معايشة، والبحث عن المتفق فيه، والعذر في المختلف عليه، والعمل بالعلم، ومن أقوال كبارهم، وهو الشعراني: “لو عمل العلماء بعلمهم لكفونا”، ويستند الصوفيون في مسلكهم هذا إلى أن الإسلام في بدايته قام على القول الحسن المقترن بالسلوك، الذي هو التطبيق العملي للدعوة:
“خذ العفو وأؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”.
“وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.
وتأكيدا لهذا فإن من القواعد الأساسية للصوفية أن على المريد أن يعتقد في أن عبادة الله سبحانه وتعالى على كل المذاهب هي عبادة صحيحة، فالصوفية تجمع ولا تفرق: “... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاستبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” «48».
وينطلق بطلنا سعيد الوزَّان تحت إرشاد شيخه سالكا طريق المريد الباحث عن هداية، تجبر كسر روحه وتطببها، وعلى الشيخ (الدليل) الإرشاد وتذليل العقبات بقدر، وعلى المريد خوض (مجاهداته الذاتية) متتبعا الإشارات الإلهية، مترجما إياها على حالته، حتى يصل إلى “ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، حالة من الوجد والوصول إلى شاطئ معرفة الله بالله.
وطريق سعيد الوزَّان الذي نبت فيه كم من الإشارات والشفرات لا يمتلك تفسيرها إلا من امتلك معجم الصوفية، أو تملَّكه المعجم، فالإشارات لا تكتسب دلالاتها إلا من خلال باحة التصوف، وغرف أسرارها التي يرتقي فيها وبها المريد، بتفسيره للإشارات الأشبه بالومضات بتأمل حدسي لبواطن الكلمات...
في هذا الطريق يصطحبنا الحسيني.......
اللوحة الأولى (الرجل الذي بلا رأس) هي لوحة كابوسية يغرق فيها سعيد الوزّان الذي يُقدم لنا في البداية شخصية مرهقة روحيا، ومتمركز حول ذاته، قاتل بأجر، لا يتحقق ولا يستمتع إلا بفعل القتل.
ويلتقي في حالته تلك بشخصية مكلف هو بقتلها وهي شخصية صالح الحداد، الذي يذكرنا في مشهده الأول بشخصية (بائع الكلام) في الحكاية الشعبية - التي تحمل ذات الاسم والتي سبق استلهامها في مسرحية كعبلون - وما يبيعه صالح الحداد هنا هو مدلول الكلام وليس لفظه، فعل الكلام وليس نطقه، ولا ينتبه لتلك القيمة إلا من تجرد من أحكام القيمة المباشرة القاصرة بطبيعتها، وكلمات الحداد هي المفاتيح المستقبلية للكثير مما غمض، وجسور المرور وقوارب النجاة لمن حازها فهما، فلا يجب التورط في مظاهر الأشياء، فما نراه نعمة قد يكون نقمة وما نراه نقمة قد يكون نعمة، وما نراه منعا قد يكون هو قمة المنح، لذا كان صالح الحداد (بيَّاع الحِكَم) وهو ما استنكره سعيد الوزَّان الحسي النزعة والتوجه بداية، فالحسي لا يترجم الحدسي.
وقد تكون بعض الحكم هي ألغاز لا تُحل شفرتها إلا إذا آن أوانها، وحان موقفها، مثل الحكمة التي سأل الوزَّان عن ثمنها: «فكِّر قبل أن تفعل «والتي صُعق عندما عرف ثمنها:
 سعيد: [ فاغرا فاه ] عشر تلاف دينار.! جملة من أربع كلمات، مكتوبة بخط سيء بعشر تلاف دينار [يقرأها] «فكر قبل أن تفعل «انت مش مخبول وغبي
بس، لأ دا إنت نصاب كمان... «
   وكل جمل صالح الحداد هي شفرات للوزّان وإشارات له:
صالح: زي ما أنا متأكد إني شايفك قدامي.. أبسط الأشياء إن الواحد يعرف نفسه..
كما أن صالح الحداد يرى بعين الصوفي فيتساءل، ويسأل سعيد الوزّان الواقف خلفه مستعدا لإغماد خنجره في ظهر الحداد:
» صالح: [ عبر ضحكاته.. ] مالك ماسك الخنجر ومش قادر تضرب ليه..؟!
اضرب يا ابني من غير ما إيدك تترعش، لو ناوي تقتلني ماتترددش
[ تتجمد يد سعيد بينما يستدير صالح إليه وهو يبتسم في هدوء... ] «
ثم يضع صالح الحداد سعيد الوزَّان في مأزق جديد وتحدٍ عقلاني:
» صالح: [ بثقه ] أنا مش ها امنعك.. إضرب وماتفكرش.. أو فكر وما تضربش
.. الخيار ليك... بس المهم تعرف تختار...!»
  ويرى صالح بؤرة ضوء وسط روح سعيد المعتمة، ومن بين كل مساوئه يرى طريقا لخلاص سعيد، رغم رفض الأخير، والذي فقد متعة (أن يقتل) لأن قتيله (لم يخف)!!!.
ويواجه صالح بفهمه؛ سعيد بجبروته، لافتا نظره لافتقاده لنعمة التفكير.... لنعمة أعمال العقل:
» صالح: تعرف يا سعيد إن كل واحد مننا ليه من اسمه نصيب، يعني المفروض إنك تعرف السعادة ولو حتى جزء صغير منها، وإنك تقدر توزن الأمور والتصرفات قبل ما تعملها، ليه ده مش حاصل...؟! يمكن لأنك مافكرتش، والغريب في الأمر إنك إخترت من بين كل الحكم إللي مرميه على الأرض حكمة بتقول «فكر قبل أن تفعل «ورغم كده كنت مُصر إنك ماتفكرش، إنت قريت الحكمة يعني مانتاش مُضطر تدفع تمنها، بس يمكن لو كنت دفعت التمن كنت ها تفكر تعمل بيها...؟»
إذا فداخل حواريات النص الكثير من المفردات تفارق معناها في الواقع، وسلوك الإنسان هو الذي يفرغ الكلمة من طاقتها ودلالتها، وقد يكسبها دلالة معاكسة، ومع إصرار سعيد الوزَّان على قتل صالح الحداد هناك إصرار آخر من صالح الحداد، حتى بعد أن غاب بجسده:
صوت صالح: مش عارف ليه رغم البطش والجبروت إللي طالل من عينيك قادر
المح ضي نور خفيف وبريء بيعافر عشان يظهر...»
هذا بالإضافة إلى ما أكده صالح قبلا «أبسط الأشياء إن الواحد يعرف نفسه..»
وتنتهي اللوحة بتزايد أسئلة الوزَّان عن نفسه وعن الغير، وعن صالح الميت / الحي، وعن الشخصيات في رؤياه الكابوسية...
وفي اللوحة الرابعة المعنونه ب: (فتنة القتل) نجد عالمين متوازيين، أيهما الحقيقي؟ وأيهما الزائف؟ عالم يتحدث عنه سعيد الوزَّان؛ فقد قتل صالح الحداد والدم ما زال يلوث يديه وخنجره، وعالم صديقه وسيط عمليات القتل ياسين؛ وفيه لم يقتل سعيد الوزَّان صالح الحداد!! ولا يوجد دم على يديه أو خنجره!!
ويضطرب سعيد بمواجهة العالمين، فهو من قتل، وكان يبحث عن استمرار متعته بالقتل، لكن ما ألقى الشك في نفسه أنه مع صالح الحداد لم يحصل على هذا:
» سعيد: [ صارخا ] إلا هوّه.. ليه بصلي البصة دي وأنا باقتله...؟ ليه كان راسم على وشه إبتسامة صافية ومليانة بالأمان، ليه كانت عينيه بتبصلي باحتقار... مش قادر أنسى يا ياسين، بصته قتلتني، مش أنا إللي قتلته... لأ دا هوّه إللي قتلني، أنا الميت يا ياسين رغم الحياه وهو إللي قادر يعيش رغم الموت...»
ويقر سعيد في لحظة بوحه بحقيقة وجوده وعامل تحققه: «...، أنا باقتل عشان ألاقي نفسي وألاقي متعتي، عشان أحس دايما إني أكبر وأعظم من أي بشر»
وعندما يمارس سعيد (نعمة) التفكير، يواجه نفسه بالحقيقة:
» سعيد: فكرّت... [ تستوقفه الكلمة ] ومن إمتي كان مسموح لينا بالتفكير يا ياسين.. إحنا أدوات بتنفذ إللي بيقول عليه الكبار وبس، همّه إللي بيفكروا وإحنا إللي بنقتل.. أنا شكلي مش ها أقدر أقتل تاني يا ياسين»

ويحاول ياسين إعادة سعيد إلى عالمهما القديم، بالترهيب تارة وبالترغيب تارة أخرى، ويحاول غلق كوة التكشف التي سطعت داخل رأس سعيد:
» ياسين: ماتحطش نفسك في مشكلات يا سعيد... لا أنا ولا انت قد الناس دي، والاتفاق إللي بينك وبينهم مايتهدش بالسهوله دي، وماتنساش إنك بتقدم خدمة كبيرة للبلد وللدين بإللي إنت بتعمله ده...؟!»
ويستكمل سعيد توسيع كوة الرؤية، ويعلنها مشخصا الحال والحالة:
» سعيد: [ منفعلا ] سمعت الكلام ده منك كتير ومش فاهمه ولا عايز أفهمه.. إزاي يكون قتل بني آدم فيه مصلحة للبلد وللدين..؟! إللي أعرفه إني باقتل الناس عشان دا شغل، شغل بيحققلي شهوتي الخاصة وبيحسسني إني أكبر من مجرد بني آدم عادي، لكن دين وبلد... أنا معرفش الكلام ده وماليش فيه... دي كلها مصالح مترتبة فوق بعض... سيبني دلوقتي يا ياسين، أنا من ساعة ماقتلت صالح الحداد وأنا مش قادر أتلم على نفسي...»
وينبهه ياسين إلى أن ما بينه وبين الجنون مجرد خطوة، ولكن السؤال هو: معيار الجنون والعقل..أيهما الأحكم؟؟.
وفي اللوحة الخامسة (الإشارات) يبدأ طريق سعيد ومجاهدته، والطريقة هي معراج روحي، يطلق عليها الصوفية (السفر)، و(السلوك)، وقسموها لمراحل أو كما يطلقون عليها (منازل) وأطلقوا عليها المقامات والأحداث التي يتعرض لها أسموها (الأحوال) و(المسالك) لهذا الطريق يرى أشياء لا يراها غير الصوفي، ولا يعبر الصوفي أو السالك عما يراه أو يصادفه من عقبات إلا رمزا وبالإشارة.
ويلتزم الحسيني بتسمية شخصياته بالأسماء الرمزية فها هي ال (بتول) مخاطبة سعيد (وما داخل سعيد):
» بتول: الإشارة جاية من جوّاك... صدق الإشارات يا سعيد وهيه ها تفسر لك نفسها...»
ولأنها إشاراته الخاصة فعليه هو فك ألغازها وتفسير شفراتها:
» بتول: المشكلة موجودة جوّه نفسك، والإشارات من نحوك بتشاور لك ع الطريق، وانت برضه إللي رافض وبتقاوم، ليه مش عاوز تصدق إشاراتك..؟!»
وتواصل بتول بناءها:
» بتول: كل واحد مننا يا سعيد ليه حياتين، واحدة منهم هوّه إللي بيختارها وبيصنعها بنفسه، وهيه دي إللي بتمشي خطواته وبتحدد تصرفاته وسكته، والتانية هيه فطرته المستخبية جوّاه وإللي مابتظهرش إلا من خلال الإشارات.. إلإشارات هيه إحنا من غير كذب ولا نفاق، الفطرة يا سعيد هيه آخر جزء فينا لسّه بيقاوم الموت..»
وتؤكد بتول هنا على المعرفة – والتي يسميها الصوفيون (الذوق) - وهي هنا ليست من أعمال العقل الواعي، ولا مظهرا من مظاهره، بل هي تجلٍ للإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي، وعلى صاحبها أن يترجم شفراتها، مستندا إلى وجدانه....ولن يفسرها إلا هو.
» بتول: ماحدش ها يفسرها غيرك... دي إشاراتك إنت.. إسأل نفسك... إيه الشيء إللي كل يوم بتحاول تقتله وبرضه مابيموتش..؟ مين إللي عايز يساعدك وإنت بترفض مساعدته..؟
[ تظهر بؤرة ضوئية في العمق بها «صالح الحداد «وهو يردد.. ]
صالح: «فكر قبل أن تفعل «...»
ويدخل سعيد في بوح، وتساعده بتول في عملية (اكتشاف) و(تكشف)، فيبوح في مونولوج مطول - جيد التوظيف من الكاتب – وبالمونولوج يرى سعيد نفسه، ويكتشف ذاته، ويرى جذور دوافعه لما فعل:
» سعيد: [ منهمراَ في الحكي ] أول مرّه أقتل كانت هيه برضه أول ليله عرفت فيها معني الحب، السما ماكانش فيها ضي وحبيبتي كانت مصممة تديني نفسها في الليلة دي، قلتلها مش شايفك ولا عندي مزاج، قالتلى إحنا مش محتاجين نتكلم ولا نشوف، إحنا محتاجين نحس ببعض، كنت معجب بشيطنتها وفجورها، عشان كده عملت إللي هيه عايزاه من غير ما أناقش أي حاجة، وقضينا الليلة كلها في الشرب والعربدة وال... وكنت عمري في حياتي ما قضيت ليلة زي دي... [ متوقفا في ألم ] ولمّا طلع الفجر شفت أغرب منظر وقعت عليه عيني في حياتي كلها... لقيت حبيبتي غرقانة في دمها... إيه ده... دا خنجري هوّه إللي مغروس في صدرها... إيه إللي حصل..؟! مين إللي قتلها..؟! لأ... ماحدش قتلها... أنا إللي قتلتها... بس إزاي...؟! أنا مش فاكر أي حاجة.. [ متوقفا ] لأ أنا فاكر... فاكر إللي حصل زي ما يكون حلم، الخمرة والليل والشهوة والخوف ورغبة القتل إللي مدفونه جوايا من سنين... كل دول إتكاتروا عليا في لحظة جنون غاب فيها العقل وحصل إللي حصل.. ندمت وبكيت وحسيت بالغربة والقهر، مسكت الخنجر ورفعته لفوق وحاولت أضرب بيه نفسي، لكني ماقدرتش.. حاولت تاني، برضه ماقدرتش، كنت عايز أخلص بسرعة من كل الدنيا، ومن العذاب إللي أنا فيه وأروح معاها، عايز ألاقيني تاني في حضن حبيبتي، لكني ماقدرتش أقتل نفسي، الخنجر مش مطاوعني وإيدي زي ما يكون إتحولت لحجر، ووسط الندم والبكا إيدي وقعت علي الدم، خفت وإترعشت ورفعت إيدي بسرعة... إيه ده...؟! إترعبت، بس لما حسيت بملمسه جسمي قشعر واترعش وحسيت برضه بشهوانية غريبة..؟! لمسته تاني، إتأملت لونه وشميت ريحته.... إترعبت أكتر م الأول... أنا ليه حاسس إنه بينبت جوايا شعور غريب بالمتعه من ملمس وريحة ولون الدم...؟! جريت بسرعه وغسلت إيديا عشان اتخلص من الإحساس المُقرّف ده، لكن رجعت بعد شويه وحنيت لإحساس الرعشة والخوف والشهوة وغمست إيديا الإتنين في الدم من تاني.. [ ساخرا ] ومن يوميها والدم بيحرّك شهوتي ويقلل خوفي، والقتل إتحول من هواية لشغلانة، وأنا إتحولت من بني آدم لكائن تاني أكبر شوية من البني آدم...»
وتستمر إشارات الطريق لسعيد، فتمطر السماء، ويتمنى سعيد أن يصنع من حبات المطر خنجرا يشق به صدره، يغسل قلبه ويتطهر بماء المطر، ويستدعي الحسيني هنا من التراث القصصي الديني حادثة شق الصدر من سيرة الرسول الكريم (ص) والحوادث المشابهة المذكورة في قصص الأولياء، وهي مرحلة من التطهر للإعداد لما هو قادم، وغسل القلب هنا رمزي، له دلالته في التخلص من كل ما علق في القلب في الماضي، والتمسك بجديد يليق به قلب متطهر.
وتأتينا اللوحة السادسة (اسكب على علمك شيئا من الروح) والتي يبحث فيها سعيد الوزَّان عن دليل ومرشد يساعده في اجتياز اختباره وخوض تجربته، يأخذ بيده لعالم آخر غير عالمه، الذي ضاق به وضاق منه، فكان لقاؤه مع شاهين، متعبد متزمت، يفتقد جوهر الفهم للإيمان والإنسان، متعبد متأله، يرى أن معايير دخول الجنة أو دخول النار بيديه، وبين يديه، نتشبع بآيديولوجية التطهر والسمو، معتقدا أنه يمتلك – منفردا - الحقيقة المطلقة، أو كما يشخصها الشيخ أمين الخولي: «إن الأفكار حين تجد في العقل خواء، تصادف في الدماغ خلاء، تعشش وتستقر ويصعب انتزاعها من العقول مهما كانت درجة زيفها، ويزداد استقرارها بالتكرار حتى تصبح الفكرة الخاطئة عقيدة ثابتة «.
يرفض شاهين المتعبد المتعنت أن يتحاور مع سعيد الوزَّان أو يرد على أسئلته، ويصمه بالكفر، معتبرا أن مرتكب الذنب أو كبيرة من الكبائر كافرا، ويؤكد لسعيد أنه كافر بلا رجعة:
» شاهين: وهوّه القتل مش كفر، والزنا مش كفر، وشرب الخمر والمتاجرة بأعراض الناس وتعذيبهم مش كفر، والكذب والنفاق والبطش والجبروت، كل ده إيه غير فجور وكفر..»
ويستمر الحوار بين شاهين المنغلق المتأله وسعيد الوزَّان الباحث عن التوبة والمصر عليها، فيتحدث شاهين عن الذنوب، فيحدثه سعيد عن المغفرة، يتحدث شاهين عن الموبقات، فيحدثه سعيد عن الرحمة، يتحدث شاهين عن الكبائر فيحدثه سعيد عن التوبة، يتحدث شاهين عن العقاب فيحدثه سعيد عن العفو، ويضع سعيد بفطرته يده على مأساة شاهين:
» سعيد: [ بتحدٍ لأول مرّة ] علمك جامد يا سيدنا... خففه بشوية رحمة...
شاهين: [ ساخرا ] مابقاش إلا واحد زيك مهنته الفجر وصناعته القتل يقول رأيه في علمي، إيش دراك بالعلم وللا بدرجات التقوى، دي فتوحات ربانية مش مكتوبلك تحس بيها.. «
ويجادله سعيد في إشاراته، بمنطق الباحث والملتمس لطريق الهداية:
» سعيد: إشاراتي واضحة... مش يمكن الغراب إللي شفته في الحلم بيقولي إدفن معصيتك، والراجل إللي مالوش راس هوّه ضميري، والعجوز إللي عايز يساعدني ومش قادر هوّه حسناتي القليلة، والست إللي بتغرز ضوافرها ف لحمي هيّه سيئاتي الكتيرة... والمطرة يا سيدنا مابتشاورلكش على أي حاجة...؟!
شاهين: [ يستوقفه بقرف ] استغفر الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله...... إنت بتفسر على مزاجك..؟!»
وباستمرار الحوار يعطي شاهين لسعيد الوزَّان مبررات قتله كشخص وكفكرة، فهو (أي شاهين) قاتل لكل شيء طيب يستلذ بتعذيب الآخرين، نشوته في إيلامهم، يزايد ويتأله، يرى نفسه في الجنة بعمله، والآخرين في النار بعملهم، مسقطا رحمة الله في الحالتين ويقر سعيد: «كلامك هو إللي إداني رخصة بقتلك «
وما بعد شاهين ترتقي تجربة سعيد إلى مدار آخر... بتول، ولكن يجدها قد فارقت الحياة، ولم تتركه تائها بل تركت له معالم طريقه وخريطة نجاته، قد يكون زيت المشاعل قد نفذ، وقد يكون لهيبها قد خبا، إلا أن نورها الحقيقي غالب، تركت بتول رسالة لسعيد هي وصية أو نصيحة لاستكمال (مسلكه)، والوصول إلى خلاصه... وخلاصه مع صالح الحداد...قتيله ومحييه!!
ولكي يستكمل سعيد الوزَّان طريق التجرد من كل الدنيا وما فيها، وكأنه يطبق مقولة السيد المسيح عليه السلام لأحد تابعيه: «احمل صليبك واتبعني «، أي أترك كل ما لك في الدنيا، لأن طريقك معي لا يستقيم والدنيا تشاركك طريقك، وتخلص سعيد من ماضيه، ومن كل ما حققه من مال أو نجاح أو جاه أو وجود وتحقق...تخلص من كل مكاسب / أدران الدنيا، كي يصلح لطريقه الجديد، ويتخفف في مسيرته المضنية من أحماله / أوزاره، فالمكسب في الدنيا قد يكون في حقيقته خسارة كبيرة، والخسارة في الدنيا قد تكون في حقيقتها مكسبا كبيرا.
وطريق سعيد ملئ باختباراته..المال..القوة.. السطوة..الشهوة، وتأتيه عسود، خطيئته الكبيرة والأساسية، متعة المرأة ومتعة القتل!!، تناديه لماضيه بمغرياته، ولكنه سعيد آخر، لا يتمنى في دنياه إلا أمنية واحدة، لا ترتبط بأي شيء من مغريات وملذات الدنيا، لا مال..لا سطوة..لا شهوة، هو لا يريد إلا صالح الحداد:
» سعيد: يا حداد...أنا جايلك يا صالح، جاي لبابك ومش عارف إذا كنت هالاقيك وللا لأ..؟! إذا كنت حقيقة ولا سراب..؟! [ بصوت متحشرج ] يا حداد... أنا قتلتك فعلا وللا إنت إللي قتلتني..؟ مين فينا إللي قتل التاني، ومين فينا إللي بيمد إيده عشان ينقذ التاني..؟! أنا جايلك ومصدق كل الإشارات إللي شفتها، جايلك وفوق كتافي جبال من الذنوب والخطايا، جايلك غرقان في ندمي وخوفي ومذلتي، يا ترى ها ترضى تقابلني..؟ أنا روحي متعلقة بكلمة منك وإشارة من إيديك.. [ مُناديا بصوتٍ عالٍ ] يا حداد... «.
وفي اللوحة التاسعة وهي (ظهور ثانٍ لصالح الحداد) يبدأ الحسيني بتشكيل فضاء لوحته وصورتها بالممارسات الصوفية، ومفرداتها، من أتباع ومريدين ومرشدين، ومن تمايلات للذاكرين، وترديدات لأصوات الأوراد والأدعية.
ويظهر صالح الحداد...فيحيلنا الحسيني إلى سؤالنا المراوغ: هل ما يجري أمامنا أحداث في عقل سعيد وامتدادا لرؤياه؟ أم أن مايحدث خارج سعيد وأمامنا؟؟
ويلتقي سعيد الوزَّان بصالح الحداد ويعتذر سعيد عما بدر منه سابقا، ويتعجب صالح منكرا أنهما لم يلتقيا سابقا!! ورغم إصرار سعيد على أنه إلتقى صالح الحداد سابقا، بل وقتله أيضا أو على الأقل حاول قتله، إلا أن إصرار صالح على أن هذا لم يحدث يحيلنا إلى فرضية وجود عالمين متوازيين نتأرجح بينهما مع سعيد الوزَّان حسب مسلكه وطريقه.
وعلى غير توقع من سعيد يخبره صالح أن رحلته ستبدأ الآن ومن هنا، وأن الكثيرون سيرافقونه في رحلته، ولكل منهم دوره ووظيفته، ومدى معين من الرحلة، مقدر له ألا يتجاوزها، ويطالبه صالح بأن يُبدل أرضا بأرضٍ، وحالا بحالٍ، وفي أرضه الجديدة سيجد من يدعم توبته..وتأتي هنا أصداء الآية الكريمة «...ألم تكن أرض الله واسعة»
وفي لحظة تشكك من سعيد في قبول توبته من كثرة معاصيه، فيخبره صالح بأنه إن اقترب من الله خطوة سيقربه الله سبحانه وتعالى عشرا، وهو ذكر لمعنى الحديث القدسي الوارد عن رب العزة جل شأنه بأنه إذا تقرب منه عبده شبرا تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا، وإن أتاه عبده يمشي، أتاه هو جل شأنه هرولة.
ويبدأ سعيد رحلته خلف رجل يحمل مصباحا، وتتبعهما الجموع الموجودة، طريق يبدأ بجمع، يتساقط مع الرحلة من انتهى دوره، وفي بداية اللوحة الحادية عشر لا يتبقى مرافقا لسعيد في رحلته سوى ثلاثة: حامل المصباح والرجل العجوز والمرأة منكوشة الشعر، ولطول الرحلة ومشقتها وعدم معرفة نهاية لها ولانتهاء دور المرأة منكوشة الشعر بدلالاتها؛ تسقط ولا تستكمل معهم طريقهم، يتركونها....ويستمرون.
وفي مرحلة تالية يتوقف رجل المصباح، فدوره انتهى ولا يستطيع الاستمرار، فمصباح سعيد أصبح من داخله.
ويتلمس سعيد الوزَّان ويستشعره فيقول:
» سعيد: [ متألما ] الحياه بتتعقد يا راجل يا عجوز وتتحوّل للغز.. تخيل لغاية دلوقتي ماعرفش اسمك ولا أي حاجة عنك، كل حاجة دخلت في بعضيها، الحلم والواقع، المعصية والتوبة، الكفر والإيمان، العذاب والرحمة، كل الحاجات بقت توصل لبعضيها، مابقتش قادر أفرّق ولا أعرف غير حاجة واحدة بس إن ربنا هوّه اليقين الوحيد، وإن رحلتنا دي في حد ذاتها هيه التوبة، وإن الإشارات هيه لوحات الغفران... وعلى قد لغز الرحلة على قد المتعة إللي بنلاقيها.. حاسس إن كل خطوة بامشيها في الصحرا هيه خطوة جوّه نفسي، الصحرا دي جوّانا مش برّانا، والرحلة مش أكتر من إكتشاف لنفسنا وأمنية بالوصول للواحة الخضرا.. [ ضاحكا بسخرية ] تعرف يا راجل يا عجوز أنا اتحولت متعتي بالقتل لجحيم، وشهوتي للسرقة وأحضان بنات الليل لحبس إجباري جوّه نفسي، لما تلاقي الملل والقلق بيتسربوا لروحك وبياكلوا فيها ويخربوها لازم تفكر في التغيير وتبدأ رحلة جديدة يمكن تلاقي فيها نفسك.. الإشارات هيه إللي ها تحدد لك نوع التغيير، صدّق إشاراتك وامشي وراها... بس تعرف على الرغم من شقا الرحلة إلا أن فيها متعة وبهجة ماحسيتش بيهم طول عمري [ يزداد الألم فيقعده على الأرض ] آآآه... أنا خلاص ماعدتش قادر أمشي خطوة تانيه [ بإبتسامة ] أنا حاسس إن الصحرا إللي جوايا بدأت تخضر، شكلي وصلت للنهايه يا راجل يا عجوز.. أرجوك ودي دماغي ناحية الشمس.. عايز أشوفها وهيه بتطلع... يمكن تكون دي آخر مرّة..»
وكأن سعيد يردد قانون العشق الإلهي الوارد في أبيات منسوبة لشهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا
 فأما الذي هو حب الهوى فكشفك لي الحُجب حتى أراكا
وأما الذي أنت أهل له فلست أرى الكون حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ويصل سعيد إلى المشاهدة التي هي ثمرة المجاهدة، وإذا انتفت المجاهدة انعدمت المشاهدة، لأن مشاهدة المجاهدة هي رؤية بالقلب. ويموت سعيد الوزَّان، ويشكل الفضاء بصالح الحداد مشرفا ومهيمنا على المشهد، ويصيغ حضوره حملة المشاعل، ومركز الحدث هو جثة سعيد الوزَّان، الذي يعثر عليه ثلاثة من الحرس الباحثين عنه، ويتنازع الحرس سعيدا، وسط مصاعب من الطبيعة من ريح قوية، وبرق، ورعد، فمنهم من يصر على أن سعيد كان في طريقه إلى بلدة ليتوب فيها، ويحيا متطهرا تائبا، ومنهم من يرى أن سعيد (قتَّال قُتلة) ولا يستحق معاملة إلا على هذا الأساس، ووسط تنازعهم ومحاولتهم حمل جثته، يتردد صوت سعيد بإقرار حبه وتوبته وأسبابها:
» ص. سعيد: يا رب.. أنا مش خايف من نارك ولا طمعان في جنتك، أنا جايلك باختياري، ليك لوحدك.. يا رب إقبلني بين إيديك من غير وساطة ولا نفاق ولا طمع ولا خوف، إقبلني حبا فيك واكتبني عندك في زمرة التائبين..واسترني يوم لا ساتر إلا أنت»
ويتحيرون في تصنيف سعيد، ومكان دفنه، هل يُدفن في مقابر الصالحين والزهاد؟ أم يُدفن في مقابر الفاسدين والكفرة؟
ويكون القرار لرب الناس وليس للناس وما يرون، فيتم دفن سعيد في مكانه، ويُكتب على قبره «ربنا اغفر له ولنا، فأنت أعلم بمن تاب وأنت خير الراحمين... ساكن هذا القبر كان شقيا ثم صار سعيدا «
ويتحول المشهد إلى احتفاء بالتائب، لقد صار سعيد بعد موته يمتلك إسمه وله من معناه نصيب، فأثناء قيام الجنود الثلاثة بدفنه وكتابة شاهد قبره، تصمت الرياح، وتهدأ الطبيعة، ويعلو صوت الإنشاد الديني، وسط رضا الرجل العجوز وابتسامة صالح الحداد. فكان لزاما على سعيد الوزَّان أن يصدق إشاراته، ولزاما على إبراهيم الحسيني أن يصدق رؤياه..


محمد أمين عبد الصمد