المسرح والمسيرة نحو الديمقراطية (1)

المسرح والمسيرة نحو الديمقراطية (1)

العدد 603 صدر بتاريخ 18مارس2019

حلقات هذا الموضوع، هي في الأصل بحث علمي بالعنوان نفسه “المسرح والمسيرة نحو الديمقراطية”، شاركت به في الندوة الفكرية لمهرجان الكويت المسرحي في دورته العاشرة، والتي عقدت تحت عنوان “المسرح والديمقراطية” في أبريل عام 2008. ولأنه بحث غير منشور حتى الآن، فخصصته لجريدة مسرحنا من أجل نشره والاستفادة بما فيه من معلومات.

من المعروف أن المسرح – بوصفه أبا الفنون – أسهم في تطور البشرية، مثله مثل أي فن آخر من الفنون الأدبية. وفي هذه الورقة تم تحديد هذه المساهمة في مجال مواكبة المسرح لمسيرة الديمقراطية منذ ظهور نموذجها الأثيني حتى عصرنا الحديث، وذلك من خلال بعض النصوص المسرحية العالمية، التي يُعتقد بأنها واكبت الديمقراطية في مختلف العصور. وبناءً على ذلك لم تتطرق الورقة إلى المسرح العربي، ولم تناقش موقفه من الديمقراطية، لأن هذا المجال سيتم تناوله في المحور الثاني من محاور هذه الندوة.
كما ينبغي الإشارة إلى أن هذه الدراسة اقتصرت على نماذج من النصوص المسرحية المنشورة، ولم تتناول العروض المسرحية؛ لصعوبة الاطلاع عليها ومن ثم تحليلها فنياً وأدبياً. ومردّ ذلك أن النص المسرحي هو الوثيقة المعتمدة في أغلب الدراسات الأدبية، لما له من خصائص البقاء والاستمرار، حاملاً فكر المؤلف، بخلاف العرض المسرحي المتغير وفق أساليب الإخراج التي تتطور تبعاً للزمان والمكان – تبعاً للإمكانيات المتاحة – حاملة رؤية المخرج للنص المسرحي، التي تتفوق في بعض الأحيان على فكر المؤلف نفسه.
وهذا البحث يحاول الإجابة على عدة أسئلة ترسم الخطوط العريضة لعنوانه “المسرح والمسيرة نحو الديمقراطية”. ومن هذه الأسئلة على سبيل المثال: هل واكب المسرح ظهور الديمقراطية منذ نشأتها الأولى في أثينا؟ هل تطورت أساليب الكتابة المسرحية بناءً على تطور المفهوم الديمقراطي؟ هل أسهم المسرح في إرساء نظام يقرّ للناس حقوقهم الأساسية؟ هل طالب المسرح بتحقيق المساواة بين البشر، بوصفها أهم مبادئ الديمقراطية؟ هل نادى المسرح بحرية الرأي بوصفها هدف الديمقراطية الأسمى؟ ما هو موقف المسرح من التحديات التي واجهت الديمقراطية؟
الديمقراطية الأثينية
من المعروف أن الديمقراطية – كما قال د.مصطفى أحمد تركي في دراسته “السلوك الديمقراطي”، المنشورة في مجلة (عالم الفكر) عام 1993 – إنها “ ترجمة للكلمة اليونانية (Demokratia) التي تعني حكم الشعب، وهو شكل من أشكال الحكم في الدولة. غير أن الديمقراطية بمعناها العام هي طريقة في الحياة يستطيع فيها كل فرد في المجتمع أن يتمتع بتكافؤ الفرص عندما يشارك في الحياة الاجتماعية، وهي بمعنى أضيق تعني الفرصة التي يتيحها المجتمع لأفراده للمشاركة بحرية في اتخاذ القرارات في نواحي الحياة المختلفة”.
هذه الديمقراطية، بدأت عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت تعني – حرفياً – “ حُكم الشعب كله .. لا فئة ولا طبقة ولا قطاع منه “ – كما قال د.إمام عبد الفتاح في دراسته “ مسيرة الديمقراطية .. رؤية فلسفية”، مجلة عالم الفكر 1993 - وبهذا المفهوم أصبحت الديمقراطية الأثينية شكلاً للدولة يناقض الأرستقراطية أو الأوليجارشية، أي سيطرة القلة من الأثرياء أو النبلاء؛ لأن الديمقراطية هي سيطرة الكثرة من الجمهور، حيث لا حقَّ للأثرياء أو النبلاء بأي امتياز .. هكذا أبان أرتور روزنبرج في كتابه “الديمقراطية الأوروبية”.
والمسرح الإغريقي - بوصفه فناً من الفنون المرتبطة بالشعب – واكب الديمقراطية الأثينية بمفهومها السابق، وطوّرها إلى مفهوم أشمل، عندما اعتبر الديمقراطية إجماع الشعب على رأي واحد، سواء كان هذا الرأي يتعلق بالأمور السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وقد أكدّ هذا المعنى جورج تومسن – أستاذ اليونانية في الجامعات البريطانية، وعضو شرف اتحاد الكُتّاب اليونانيين – قائلاً في كتابه “إسخليوس وأثينا”: “ كانت التراجيديا اليونانية إحدى الوظائف المتميزة للديمقراطية الأثينية. وقد تكيفت في شكلها ومضمونها، وفي نموها واضمحلالها، بتطور البنية الاجتماعية التي كانت تنتسب إليها “. وعلى سبيل المثال نجد سوفوكليس في مسرحيته (أنتيجونة)؛ يؤكد معنى الديمقراطية الأثينية – بصورة غير مباشرة – من خلال إظهار مساوئ الدكتاتورية وتمسك الحاكم برأيه، متجاهلاً إجماع الشعب الذي يخالفه الرأي. فأنتيجونة خالفت رأي الحاكم (كريون)، الذي أمر بعدم دفن أخيها، فقامت بدفنه بناءً على أمر الآلهة، فحكم عليها كريون بالموت.
وقبل تنفيذ الحكم، دار حوار بين كريون وابنه (هايمون)، حيث واجه الابن أباه بحقيقة الموقف في مقطع طويل، نجتزئ منه هذه العبارات: “ يا أبتي إن الآلهة وهبت الإنسان العقل، وهو أغلى وأعز ما يملكه الإنسان ... ... قد يصيب الآخرون صواب الرأي ... ...  أبناء الشعب يخافونك إن قالوا قولاً لا تحب أنت أن تسمعه ... ...  لا تتعصب لنظرية واحدة وهي: أن ما تقول أنت هو الصواب وحده من دون العالمين ...”. وهذه العبارات تحمل معنى الديمقراطية الأثينية القديمة، التي تؤكد أن الديمقراطية نتاج لعقل الإنسان، الذي هو هبة من الله، ومن الواجب على الحاكم أن يستمع لرأي الآخرين، لربما كان رأيهم هو الأصوب. كما أن هذه العبارات أيضاً تعكس إيجابيات الديمقراطية، عندما تؤكد سلبيات الدكتاتورية، لأن الشعب يخشى حاكمه المستبد فيسمعه ما يحب أن يسمعه، ويحجب عنه ما يكره أن يسمعه، ولو كان في صالحه. هذا بالإضافة إلى التأكيد على معنى عدم التعصب للرأي، والوهم بأن رأي الحاكم هو الرأي الصواب.
وعندما يحتدم النقاش بين كريون وابنه، حول مصير أنتيجونة - بوصفها آثمة من وجهة نظر الحاكم (كريون)، وبوصفها منفذة للعدالة الإلهية من وجهة نظر الشعب - يأتي هذا الحوار:
كريون: وهي ألم نأخذها متلبسة بهذا الإثم؟
هايمون: لا يرى هذا الرأي الملأ من أهل طيبة.
كريون: هل تأمرنا المدينة بما نفعل؟ أبنفسي أم بغيري أحكم هذه البلاد؟
هايمون: المدينة ليست مدينة إن كانت ملكاً لرجل واحد.
كريون: أليست المدينة ملكاً لحاكمها؟
هايمون: إذا أحببت أن تحكم أرضاً وحدك فلا تحكم إلا القفار.
وهذا الحوار يبين معنى الديمقراطية الأثينية في صورتها الصرفة، حيث يؤكد أن إجماع رأي الشعب يجب أن يعلو على رأي الحاكم الفرد، وأن حُكم البلاد يجب أن يكون بيد الشعب، لا بيد الحاكم المستبد، لأن المستبد إذا أراد أن يحكم، فسيحكم بلداً مقفرة خالية من البشر.
أما يوريبيديس في مسرحيته (هيكابي)، فقد خصصها للعدالة الاجتماعية، كصورة من صور الديمقراطية الأثينية، من خلال وجود اختلاف وتباين بين نوعين من العدالة: عدالة المجتمع (العُرف والتقاليد)، وعدالة الطبيعة. وقد عرف الإغريق النوع الأول بالعرف أو القانون والثاني بالطبيعة. فمسرحية هيكابي كُتبت نتيجة شعور بضرورة سيادة المساواة بين البشر، لأن صراع هيكابي – في المسرحية – كان ضد تقاليد الشعب الإغريقي بأسره، وفي هذا الصراع كانت هيكابي تستمد قوتها من العاطفة والوجدان، وتنشد الدفاع عن كرامة شعب لم يكن مسئولاً عما حدث، تلك الكرامة التي تدفع ثمن الدفاع عنها ابنتها بوليكسينا دون ذنب، وتحمي قيم الإنسان التي تذهب به بعيداً إلى آفاق الخير. بهذا المفهوم كان يوريبيديس خير معبر عن جوهر وحقيقة الفلسفة السفسطائية التي حاولت أن تقيم مفهوماً للعدالة على أسس إنسانية بحتة بعيدة عن طبيعة جنس ما، أو أرستقراطية سلوك.
وإذا أردنا البحث عن فقرة تُجمل لنا الديمقراطية الأثينية، سنجدها في خطاب جنائزي قال فيه (ليسياس): “ إن أسلافنا كانوا الأوائل الوحيدين في هذا العصر الذين نبذوا الحكم التعسفي، وأنشأوا الديمقراطية متمسكين بأن حرية الجميع هي أقوى رباط للقلوب، ويشارك بعضهم البعض الآخر في الآمال والآلام ويحكمون أنفسهم بقلوب حرة يكرمون الخيرين ويعاقبون الآثمين وفق القانون. ويعتبرون أنه من الوحشية أن يُكْره الناس بعضهم بعضاً بالقوة وأن مهمة الرجال تحديد العدالة بالقانون والاقتناع بالعقل، وأن يلتزموا بهما في العمل متخذين من القانون سلطاناً، ومن العقل معلماً “.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل لهؤلاء الأسلاف نظراء في المسرح؟ الإجابة – من وجهة نظري – نعم .. فأوديب وأنتيجونة وكريون وترزسياس وأجاكس وفيلوكتيت ... إلخ أسماء أبطال مآسي سوفوكليس – على سبيل المثال – ما هم إلا نظراء لهؤلاء الأسلاف المنصوص عليهم في الخطاب الجنائزي! فهذه الأسماء تمثل الأساطير الإغريقية القديمة، ولكن سوفوكليس أنزلها من عليائها وبث فيها الروح البشرية الممثلة للشعب الإغريقي، فجعلهم أحياءً يسعدون ويشقون ويقولون الحكمة، وكأنهم مرآة تنعكس على صفحتها مفردات معاني الديمقراطية الأثينية، مثل: العدالة الإلهية، والمساواة، وحرية الرأي، وحكم الشعب .. إلخ، وفي الوقت نفسه أظهر لجمهوره المسرحي – من خلال هذه النماذج – عيوب الاستبداد بالرأي، والظلم .. إلخ ما يُناقض الديمقراطية الأثينية.
تطور مفهوم الديمقراطية
بمرور الزمن تحولت الديمقراطية من مفهومها الأثيني إلى مفهومها العام، ويقصد به: العملية السلمية لتداول السلطة بين الأفراد أو الجماعات، التي تؤدي إلى إيجاد نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ككل على شكل أخلاقيات اجتماعية. وهذا المفهوم اعتبر الديمقراطية شكلاً من أشكال الحكم، من خلال حكم الأغلبية عن طريق نظام التصويت والتمثيل النيابي. وبناءً على ذلك عُرّفت (الديمقراطية النيابية) بأنها نظام سياسي يصوت فيه أفراد الشعب على اختيار أعضاء الحكومة الذين - بدورهم - يتخذون القرارات التي تتفق ومصالح الناخبين.. إلخ ما هو معروف.
والجدير بالذكر إن صورة الديمقراطية هذه، من الصعب وجودها بصورة مباشرة في مجال المسرح المكتوب! وبعبارة أُخرى لا يجرؤ أي كاتب مسرحي في البلاد الاستبدادية أن ينادي بالديمقراطية النيابية، أو الديمقراطية بمفهومها العام، لأن السلطة السياسية - ممثلة في نظام الرقابة المسرحية – لن تسمح له بذلك! ومن هنا نجد الكاتب يلجأ إلى الحيل المسرحية في أسلوبه الكتابي لبث أفكاره الديمقراطية عن طريق الرمز والإيحاء والإشارة والمعادل الموضوعي .. إلخ هذه الأساليب غير المباشرة في التعبير. ومن العسير ضرب أمثلة لذلك، لأن أغلب المسرحيات المنشورة لا تخلو من هذه الحيل.
وهذا الأمر يختلف كلية في مجال المسرح المعروض؛ لأن أدوات المخرج تختلف عن أدوات المؤلف، لأن المخرج يستطيع أن يبث أفكار المؤلف عن الديمقراطية – أو أفكاره هو بوصفه مخرجاً له رؤيته الخاصة – عن طريق الإضاءة والديكور والملابس .. إلخ هذه الأمور غير المنصوص عليها في النص المسرحي المكتوب، ناهيك عن الممثلين وخروجهم عن النص، للتلفظ ببعض العبارات، أو الإشارات المواكبة لبعض الأحداث اليومية، أو المنتقدة لبعض الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ.
وبناءً على ما سبق، يصعب على المرء اعتبار الديمقراطية نظاماً سياسياً محضاً، أو أنها عملية اختيار سياسية للنواب، أو القادة، من خلال منافسة حرة سياسية شريفة فقط، بل يجب اعتبارها أسلوب حياة، وطريقة للعيش، وثقافة شعب، ومجموعة من القيم تهدف إلى احترام الكرامة الإنسانية قبل كل شيء.
وهذا الأمر نادى به أكثر الكُتّاب المسرحيين، مثل الكاتب الصيني (تساو يوي) الذي كتب مسرحية (عاصفة الرعد) عام 1933م، وفيها أعلن تمرده على النظام الإقطاعي الصيني، منتصراً فيها لكرامة الشعب والمجتمع. وفي مسرحيته (أهل بكين) عام 1940م، نادى بمجتمع صيني أفضل. وفي مسرحيته (البرية) وصف مأساة الصراع بين الطبقات في الريف، من خلال الصراع بين الأسياد والطاغية الإقطاعية، والفلاحين الكادحين المعدومين. ثم واصل تساو يوي سعيه الدؤوب نحو النور والأمل في بناء مجتمع أمثل وأفضل ينمو ويترعرع .. في رائعته المسرحية (شروق الشمس) التي حققت له الشهرة والتألق في دنيا المسرح الاجتماعي الأخلاقي.
والملاحظ أن مؤلفات تساو يوي المسرحية تكشف النقاب عن الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي أدى بدوره إلى انحطاط الأخلاق والمبادئ، لأن تساو كان مرتبطاً في حياته بآلام مجتمعه، وكان - في كتاباته المسرحية - حائطاً صلداً أمام الظلم والاضطهاد، حاملاً راية التغيير الاجتماعي، منادياً بتحطيم القيود المكبلة للحريات. فعلى سبيل المثال نجد مسرحيته (شروق الشمس) تعبر تعبيراً صادقاً عن الفساد الاجتماعي الأخلاقي، الذي يعتبر البطل الأول في المسرحية بكل ما يحمله من اضطهاد واستعباد وتعسف وبؤس وفوضى. فالحوار الآتي يجسد هذا المعنى بين الزوج (لي شينغ) الموظف، وبين زوجته:
مدام لي: ليس من المعقول أن تكون موظفاً صغيراً في البنك وتنهك نفسك في العمل من أول النهار إلى آخره، ولا نجد في نهاية الشهر ما تدفعه لسد نفقات المعيشة بعد أن تجشمت الكثير من الصعاب. وبعد أن تفرغ من العمل، تهرع إلى مصاحبة النبلاء وتلعب معهم المهجونغ [لعبة صينية قديمة من ألعاب الميسر] وتسلك مسلكهم الاجتماعي. أننا لا نستطيع أن نرسل الأطفال إلى المدرسة، وأنت مهتم بمظهرك الاجتماعي، ولا نجد إيجار المسكن في نهاية الشهر، وأنت ما تزال تجالس الأثرياء. وإذا مرض طفل لا نجد ثمن الدواء، وأنت هكذا تجامل الآخرين.
لي تشينغ: (ثائراً) كفى، لا تستمري في الحديث! (بحرارة) كيف تتجاهلين الشقاء الذي أتحمله طوال اليوم؟ ألم تلاحظي أنني أشعر بالمرارة لأننا فقراء؟ إنني أندب حظي العاثر؛ لأن والدي ليس من النبلاء. وإذا كان عندي مال كثير منذ أن خلقت لما انحنيت أمامهم ولا تحملت ظلمهم. وأنا لست أسوأ منهم، وأنت تعرفين أن هؤلاء الأوباش ليسوا أفضل مني، بلهاء وجبناء وغير رحماء. ونقطة الاختلاف الوحيدة بيني وبينهم هي أنهم أثرياء بالفطرة، ويتمتعون بالمكانة الاجتماعية المرموقة، أما أنا فعلى النقيض منهم تماماً. وأقول لك أن هذا المجتمع تعوزه العدالة والمساواة. وأي حديث عن الأخلاق وخدمة الجماهير هو بمثابة خداع لنا، وإذا عملت بما يمليه عليّ ضميري، فإن الإدقاع يلاحقني حتى الموت. ولذا ليس أمامي سوى أن أحرق سفني وأقاتلهم، آملاً في أنني أتنسّم المجد يوماً ما!.
فالمؤلف من خلال هذا الحوار – الذي يمثل فكرة المسرحية – يضع آماله الكبيرة في تحقيق الديمقراطية، عن طريق الإنسان الذي تأبى طبيعته الإنسانية الذل والهوان والفساد، فيسعى إلى تحقيق الكمال الاجتماعي والإنساني، ذلك الكمال الذي يمثل الديمقراطية الحقة. وكفى بنا أن نقرأ ما كتبه المؤلف في ملحق المسرحية - عندما طبعت في بكين عام 1957م– قائلاً : “ إذا انتهى المرء من قراءة مسرحية شروق الشمس، وتساءل في استياء: لماذا يعيش الكثيرون مثل هذه الحياة التعيسة؟ ولماذا نتمسك بهذا العالم البائس؟ وما السبب الذي أدى إلى وجود هذا العالم الوحشي غير العادل؟ وهل يجب أن نغيره أو نطيح به تماماً؟ فإذا تساءل المرء حقاً مثل تلك الأسئلة، فذلك أمل كبير يفوق ما يتوقعه المؤلف”.
وهكذا، يتضح لنا أن تساو يوي أراد من مسرحيته (شروق الشمس) – وكذلك في بقية مؤلفاته المسرحية – تأكيد فكرة الديمقراطية، وكأن مسرحيته نموذج لمسرحية الدعوة “التي تعالج فكرة سياسية أو اجتماعية معينة، يدعو إليها كاتبها ويناصرها، حتى ليفترض أن إسدال الستار في النهاية، يكون قد ملأ ذهن المتفرج ونفسيته بميل اعتناقي للفكرة المدعو إليها “، كما قال د.إبراهيم حمادة في “معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية”.
وهذا الأمر أكده عبد العزيز حمدي في تقديمه لترجمته مسرحية (شروق الشمس)، قائلاً: “ ولا تغفل أي دراسة للمسرح الصيني الإشارة إلى مسرحيات تساو يوي على أنها رائدة للمسرح الاجتماعي الأخلاقي والتي قوضت دعائم الحكم الإقطاعي في الصين القديمة، فكانت – ولا زالت – تعبيراً صادقاً عما يجيش في الصدور من آلام وآمال لربع سكان العالم، تعكس نبضه وتطلعاته نحو المستقبل والحياة الكريمة، وتحمل في طياتها آلام البشرية وأحزانها. إذ استطاع تساو يوي أن يعبر عن مأساة الوجود الإنساني والضياع الذي يهدده، كما أنه الوحيد بين كتاب الدراما الصينيين الذي يدرك هذه الحقيقة. ولذا اقترب مسرحه من الحقيقة، من الحياة وترك أثراً لا يمحوه الزمن، ولا تنال منه القرون”.


سيد علي إسماعيل