هيباتيا.. مأساة امرأة تفرق دمها بين القبائل

هيباتيا..  مأساة امرأة تفرق دمها بين القبائل

العدد 547 صدر بتاريخ 19فبراير2018

في زمن ليس بالقريب - وتحديدا - في نحو عام 415م، يُحكى أنه كان هناك عالمة فلك ورياضيات سكندرية تُدعى هيباتيا بنت ثيون قُتلت على يد مجموعة من الغوغاء والمتطرفين دينيا، وذلك أثناء إلقائها إحدى محاضراتها في مكتبة الإسكندرية، التي كانت تحاول فيها عرض فكرتها بأن الأرض مجرد كوكب يدور حول الشمس، والتي كانت تتعارض مع بعض التفسيرات الدينية المسيحية التي تدّعي أن الأرض هي محور الكون، لذا لُقبت هيباتيا على مدار مئات الأعوام السابقة بلقب «شهيدة العلم» وذلك نظرا لما تعرضت له من تعذيب وقتل على أيدي هؤلاء المتطرفين.
فعلى الرغم من أن ذلك الحدث التاريخي لم يتم توثيقه بشكل كامل ودقيق التفاصيل، فإنه أصبح مصدر استلهام الكثير من المبدعين (سواء في الأدب والمسرح أو السينما)، لنجده في بعض الأعمال الأدبية مثل رواية «هيباتيا.. والحب الذي كان» لأستاذ الفلسفة داود روفائيل خشبة، والمسرحية في نص «مقتل هيباشا الجميلة» للكاتب المسرحي المصري مهدي بندق، وحتى السينمائية، حيث إنها تخطت حدود الشخصية «المحلية» لتصبح «عالمية»، وذلك من خلال الفيلم الإسباني «أجورا» للمخرج التشيلي الإسباني أليخاندرو آمينابارو الذي شارك في كتابته إضافة إلى ميتيوجيل.
فقد يكون عدم توثيق ذلك الحدث التاريخي بشكل دقيق وواضح قد جعل كل هؤلاء المبدعين - وغيرهم من كُتاب تحدثوا عن نفس الشخصية - لم يتوحدوا في عرض الأحداث بشكل أحادي المنبع، وذلك نظرا لعدم وجود قصة موحدة من الأساس، وهذا ما يجعلنا نَستَقرِئ كل هذه الروايات بأشكال مختلفة من حيث طبيعة الحبكة الأساسية وخطوطها الموازية والشخصيات وسماتها المحركة لها، لكنها في نفس الأمر متحدة في فكرتين أساسيتين، وهما: أن هيباتيا قد قُتلت على يد بعض المتطرفين المسيحيين، وأن جميع دوافع الشخصيات تتحرك على فلك واحد.. وهو صراع تلك الشخصيات - بما فيهم هيباتيا نفسها - داخل هذه الأعمال، هو صراع لفرض سلطاتهم (الدينية/ المعرفية/ السياسية) على المجتمع بشكل أو بآخر، فمن خلال مفهوم السلطة لدى المفكر والفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” سنجد أن الشخصيات داخل تلك الأعمال دائما ما تنقسم إلى ثلاثة أنماط ممثلة لتلك السلطات التي ذكرناها من قبل، ولكن ليبقى السؤال؛ هل ذلك الأمر سينطبق - هو الآخر - إذا قدمنا نفس بذرة الحدث التاريخي «وهو مقتل هيباتيا» في عمل مسرحي ينتمي إلى عام 2018 بكل مقتضياته الزمانية والمكانية؟ أم أننا سنجد أنفسنا أمام عمل فني يحكي نفس الفكرة التي تم طرحها من قبل في الأعمال السابقة؟ كل هذه التساؤلات قد حاولت أن أجد إجابة لها من خلال مشاهدتي للعرض المسرحي «هيباتيا» للمؤلف محمد عبد السلام والمخرج مصطفى طه والمقدم على خشبة مسرح المدينة الطلابية بجامعة القاهرة، وذلك دون أن أغفل بقية العناصر الجمالية والدرامية التي قد تشفع لمبدعي العرض بقدر كبير، فكل عمل مسرحي هو تجربة إبداعية مستقلة بذاتها لها دوافعها وأهدافها التي تحاول أن تسعى إلى تحقيقها.
فمع بداية أحداث العرض وتطورها سنجد أنفسنا أمام نص للعرض قد حدد أولوياته وأهدافه بشكل كبير وواضح، حيث إننا نجدها تتلخص في تقديم حدث مأساوي تقليدي يعتمد على فكرة أساسية وهي مقتل العالمة هيباتيا «نادية حليم» على أيدي تلاميذ الراهب المحرض يوثفرو «أبانوب سليمان»، وذلك على الرغم من مساندة ممثل السلطة العسكرية أوريستيس «أكرم عماد» لها، مع إضافة بعض الخطوط الدرامية الموازية المتمثلة في العلاقة الغرامية بين المسيحي سينوسيوس «يوسف علي» تلميذ هيباتيا، واليهودية بابلين «سلسبيل محمد»، والعلاقة بين الوثنيين الفقيرين بلوتارك «علي دياب» وزوجته جرانزا «أميرة مبروك» الذين يسعون إلى الحياة الهانئة بغض النظر عن تباعيتهم لأي فصيل داخل الأحداث، وكل ذلك من خلال زمن درامي (ممطوط) إلى نحو 10 سنوات دون أن نجد أي مبرر لكل تلك الفترة الطويلة التي يتعرض من خلالها المتلقي إلى بعض القفزات الزمانية.
فعلى الرغم من أنه على المستوى السطحي للأحداث الدرامية وشبكة علاقات الشخصيات، سنجد أنفسنا أمام الثلاثة أنماط الممثلة للسلطة التي تحدثنا عنها سابقا، فإننا إذا نظرنا إلى المستويات الأعمق للنص والمتثملة في المونولوجات والجمل الحوارية والدوافع الدرامية، سنكتشف أننا أمام أزمة ليست بالصغيرة داخل مجتمع النص وهي: أن كل شخصية - بما فيهم هيباتيا نفسها - هي شخصية مشتتة الدوافع غير قادرة على تحديد أهدافها بشكل واضح وصريح، وهذا يجعلنا نستنتج أن أولويات نص العرض تتلخص في تقديم دراما جذابة «يغلب عليها الشكل الكلاسيكي» على المستوى السطحي، غير مستهدفة تقديم أمر جديد متناسب مع الأحداث الآنية.
أما على المستوى البصري لأحداث العرض والمتمثلة في إخراج «مصطفى طه» وديكور «حسن نبيل» وإضاءة «عمر رضا»، سنجد أنفسنا - أيضا - أمام عرض مسرحي قادر على تحديد أولوياته، التي تتشابه بقدر كبير مع أولويات المسرح الجامعي بشكل عام، فمن خلال كورس يبدأ الأحداث، ومجموعة من الفضاءات (مثل مكان الدرس والدير والشارع وعرش الوالي) المتكونة على خشبة المسرح والممثلة للفضاء الدرامي لأحداث العرض، ومن خلال الإضاءة ذات الدلالات المحفوظة والموسيقى نمطية التناول، سنجد أنفسنا أمام عرض مسرحي منضبط بقدر كبير ينُم عن وجود مبدعين واعين بالعملية المسرحية وقادرين على تحريكها بشكل جيد، لكنهم في نفس الوقت خانقين لأنفسهم بتقديم تقليدي نمطي لدرجة تجعلنا نتساءل: ماذا كان سيتغير إذا حذفنا شخصية العالمة السكندرية هيباتيا بمقوماتها الفلسفية العلمية الجذابة لأي مبدع، ووضعنا شخصية تحمل اسما آخر؟ فأعتقد الإجابة بشكل بديهي ستكون لا.. لن يتغير شيء، وأكبر دليل على ذلك هو أنه من خلال حديثي مع أحد المشاهدين - غير المتخصصين - للمسرح قال لي: «أعتقد أنني شاهدت أحداثا متقاربة لتلك المسرحية مسبقا، ولكن من خلال شخصية جاليليو».. قاصدا مسرحية «حياة جاليليو» للألماني برتولد بريخت.
فأن تُحدد أولوياتك من خلال نص وعرض مسرحي مُقدم ضمن فعاليات محددة، هو أمر طبيعي ومنطقي، ولكن أن تتعامل حدث تاريخي وشخصية تاريخية قادرين على استخراج دلالات وفلسفات لها أبعاد متعددة بشكل نمطي وسطحي لا يختلف شيء عن أي مأساة أخرى دون النظر إلى السياق الاجتماعي الزمني لعام 2018، هو بالأمر الذي قد يجب أن نقف أمامه ثانية، هو هل دور المسرح في ذلك الزمان ينحصر فقط في مشاهدة أحداث مأساوية تجعلنا نتعاطف مع شخوصها، أم أننا يجب أن نتحرر من ذلك المستوى لننتقل إلى مستويات أبعد تُثير في أنفسنا التساؤلات؟


رامز عماد