الوعى بالفضاء المسرحي للثقافة الجماهيرية

الوعى بالفضاء المسرحي للثقافة الجماهيرية

العدد 539 صدر بتاريخ 25ديسمبر2017


تتعدد الفضاءات المسرحية في المشهد المسرحي المصري، إلا أن ذلك التعدد لا يمحو خصوصية كل فضاء؛ حيث يظل كل منهم محتفظا بتوجهه المتأسس على معرفته بجمهوره، ومن ثم مدى تأثيره (كما وكيفا) ومشاركته في الصياغة الجمعية للعقلية والذوق المصريين، وفي هذا الإطار يظل مسرح الثقافة الجماهيرية هو الأكثر تأهيلا في القدرة على التأثير - إذا ما تم الوعي بتلك القدرة من قبل القائمين عليه وصانعيه - ذلك بما يملك من فضاءات تترامى في كل مكان، وأعداد غفيرة من محبيه المتمتعين بالموهبة وروح الهواية - وبما يملك أيضا من جماهير تقدر بالملايين يذهب هو (المسرح) إليها، وبالمجان، وتتهافت على ما يقدمه، وعلى استعداد أن تسانده وتلتصق به إذا ما ارتأت نفسها بداخل ما يقدمه فلا تستشعر الاغتراب إزاء العوالم الافتراضية التي ما زالت تصر بعض تلك الفضاءات المسرحية على تقديمها.
 


ويصبح السؤال منطقيا الآن.. هل يعي فضاء مسرح الثقافة الجماهيرية (القائمون عليه والقائمون على صناعته) ذلك الدور؟
إن نظرة على واقع ذلك المسرح (الثقافة الجماهيرية) لكفيلة بأن تجيب على ذلك التساؤل الذي نظنه - وليس كل الظن إثم - مشروعا، ونكتفي في تلك الإطلالة على ما قدمه مسرح الثقافة الجماهيرية في نماذجه الدالة، وشديدة الوضوح بشكل صارخ.
ينبئ النظر إلى خريطة الموسم المنقضي 2017 التي اتخذت لها شعار (المسرح للجمهور) وهو شعار - فيما نرى - يحتاج إلى إعادة مراجعة إما إلى صياغته أو مراجعة القياس والآلية المحتكم إليها.. بمعنى إذا كان ذلك الشعار في صياغته الحالية يطرح تساؤلا جوهوريا حوله هو.. وهل كان المسرح يوما ما إلا للجمهور؟ منذ عرفه الإنسان؟ إن المسرح في جميع الحقب التاريخية يصنع من أجل تقديمه للجمهور حتى لو كان هذا الجمهور في الأساس هو جمهور المصلين في مسرح العصور الوسطى الذي كان قاصرا على حضور مصلين مواعظ الآحاد، المعروف باسم مسرح الآلام؛ حيث كان يتخذ من تجسيد آلام السيد المسيح موضوعا أساسيا لعروضه البسيطة المقدمة بجوار مذبح القرابين الكنسية. أما والأمر كذلك فإن الشعار المشار إليه يحتاج بالفعل إلى إعادة مراجعة ليكون تدشينه متسقا مع مبتغاه، وفي ما يتعلق بآلية القياس لدى الإدارة العامة للمسرح (المتبنية لهذا الشعار والمروجة له) فكانت تستند إلى عدد ليالي العروض المسرحية للبيوت، والقصور، والفرق القومية في كل الأقاليم، وهذا أيضا قياس يحتاج إلى إعادة مراجعة ليتسق مع الشعار المشار إليه؛ إذ لا تقاس في هذه الحالة بعدد ليالي العروض، وإنما بعدد المتفرجين للعروض رغم صعوبة ذلك في عروض الثقافة الجماهيرية، واحتياجه إلى آلية خاصة تكون دقيقة وحقيقية.
ويلاحظ المتابع لمعظم عروض مسرح الثقافة الجماهيرية في الموسم الفائت مجموعة من الملاحظات، ويمكن له أن يضع يده ببساطة على ما يلي:
1 تنوع النصوص المسرحية للعروض ما بين نصوص عربية، ومعدة، وأخرى مترجمة، مما يضمن التنوع في الأفكار وثراء في التوجهات المختلفة المطروحة داخل تلك النصوص.
2 - غلبة النصوص الأجنبية (عدديا) على النصوص العربية لا سيما المصرية منها خلافا لما سار عليه العرف في عروض الثقافة الجماهيرية التي كان لا يتجاوز عدد النصوص الأجنبية فيها نسبة 25% من العروض الكلية، أما في هذا الموسم وجدناها في أحد الأقاليم نسبة (واحد نص عربي إلى ثلاثة عشر نصا أجنبيا) ويعكس ذلك معرفة المخرجين بتراث المسرح العالمي، وعدم معرفتهم بالجديد فيما يكتبه المبدعون المسرحيون العرب والمصريون، أو تجاهلهم عمديا له وتلك قضية أخرى إلا أنها لا تؤكد على دعاوى البعض ممن يرون عدم وجود نصوص مسرحية كبرى (بالمفهوم الأدبي والفكري )إذ إن المتابع لحركة نشر النصوص المسرحية في مصر يجد عكس تلك الادعاءات، وإن اختلفت التقنيات المسرحية، وتجاوز المؤلفون على المستوى التقني لما هو كلاسيكي، أو مألوف.
وعلى الرغم من أن وجود النصوص الأجنبية بتلك الكثرة قد يساهم في تحقيق الثراء النوعي في الأفكار، فإنه أيضا يباعد ما بين تلك العروض وما بين جمهورها وقضاياه الملحة، وهو جمهور لا يجب أن تتخلى وسائله الترفيهية )كالمسرح وغيره(عن قضاياه المجتمعية.
3 - انعكاس مفاهيم ثورية في الكثير من تلك العروض التي احتوى معظمها على ضرورة الثورة على الواقع (الدرامي) المعالج في النص، وكلها ثورات جمعية تنشد العدل الاجتماعي، والمساواة، في مقابل فردية مستحوذة، ظالمة لا تتوخى سوى المصلحة الفردية والشراهة الثرائية على حساب المجموع، ويعكس ذلك حالة القلق الجمعي التي يستشعرها الجميع تجاه واقع تزداد حلقاته في الضيق حتى أصبح يختنق منها الأغلبية العظمى من الناس، وتلك الدلالة بمثابة هدية يقدمها المسرح (في الثقافة الجماهيرية) لمن يهمه الأمر من صانعي القرارات المصيرية المتعلقة بالجماهير، وعلى هؤلاء قراءة مثل تلك الدلالات وفك شفراتها، والعمل على الحيلولة دون أن يتحول الواقع الحقيقي إلى شبيهه في الواقع الدرامي لتلك العروض.. مما يؤكد على تعظيم أهمية دور المسرح في المجتمعات كمرآة عاكسة لواقعها بكل حراكاته المتسق منها والمتباين أيضا.
4 - انحسار وجود حقيقي للنص الكوميدي في تك العروض؛ مما يعد أمرا غريبا على شعب عرف بحبه للنكتة والسخرية والفكاهة بشكل عام، وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يشير إلى عدة أمور لا يجب الاستهانة بها أو عدم الالتفات إليها:
أولاها: تراجع الكتابة الكوميدية في الإبداع المسرحي ويحتاج ذلك إلى دراسة تؤكد أو تنفي تلك الظاهرة، باحثة في مسبباتها إذا أكدت صحتها.
ثانيها: عدم إقبال مخرجي الثقافة الجماهيرية على النصوص الكوميدية بتأثير وهم شائع أن العروض الكوميدية لا تدخل في منافسة العروض، والوصول إلى المهرجانات الختامية التي يضعها معظم المخرجين، والفرق المسرحية - للأسف الشديد - نصب أعينهم دون الوعي بحقيقة النجاح المستمد من الاحتفاء والالتفاف الجماهيري حول العروض.
ثالثها: وهو أمر يحتاج إلى دراسة أيضا؛ إذ ربما أن يكون الواقع المتأزم، غير المستقر، والمعاناة الخانقة على كل الأصعدة التي ترزح الجماهير المصرية تحت نيرها لعدة عقود، قد غيرت وأثرت سلبا على الذائقة والحس الكوميدي لدى المصريين، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة حقيقية لا إلى مجرد تخمين.
4 - استقرار آلية الإنتاج في مسرح الثقافة الجماهيرية على ما هي عليه، على الرغم من وجود فنان متمرس، وأستاذ أكاديمي متخصص على رأس الإدارة العامة للمسرح (الدكتور صبحي السيد) الذي لم يسمح له الوقت بعد بتغيير آلية الإنتاج المتجذرة في (الدولة العميقة للهيئة العامة لقصور الثقافة) المقاومة لكل محاولات تجاوز ما هو راسخ وبيروقراطي في الدولة الكرتونية التي تعلي من قيمة (تستيف الأوراق) على التحرر من السلبيات والتحليق بالتغيير؛ إذ إن ذلك يصيب موظفيها وسلطاتهم الوهمية بالضربة القاضية، ولعل وجود فنان على رأس الثقافة الجماهيرية (الدكتور أحمد عواض) بما يتسم به من نشاط انعكس في عمله بصندوق التنمية الثقافية، ومن قبل بالرقابة على المصنفات الفنية.. لعل ذلك يكون دعما للدكتور «صبحي السيد» في تجاوز تلك الآليات الإنتاجية منتهية الصلاحية، وتحقيق مشروعه الخاص بمسرح الثقافة الجماهيرية، والالتفات إلى أن تكون المشاريع الإخراجية التي يقدمها المخرجون للإدارة العامة للمسرح، مشاريع حقيقية لا مجرد ورقة يذكر فيها المخرج اسم النص المسرحي ومؤلفه، وملخصا له لا أكثر؛ إذ إن المشروع الإخراجي (من الناحية العلمية) يجب أن يتوفر فيه ملخص وافٍ للأحداث الرئيسية للنص، أهم ما جذب المخرج لهذا النص بالتحديد من الناحية الفكرية والجمالية والتقنية، وكان دافعا له لتناوله دون غيره من النصوص والتصدي للقيام بإخراجه، وما هو تفسير وتأويل المخرج لهذا النص، وما هي المناطق التي يتحمس لإبرازها والتأكيد عليها، وسبب ذلك، وما هي المناطق التي سيتجاوزها، وتلك التي سيمر عليها مرور الكرام، ومدى اتفاقه أو اختلافه مع طرح المؤلف في نصه، وإذا كان ذلك النص تم تقديمه على المسرح من قبل - لا سيما مسرح الثقافة الجماهيرية - فما هو الجديد الذي سيقدمه هو، وما هي المعالجة البصرية بكل عناصرها (الديكور، الملابس، الإضاءة، الألوان، التعبير الحركي)، وخطته لـ(الميزانسين) تصوره للمعالجة الموسيقية، والغنائية إن وجدت، وكل ما يتعلق برؤيته الإخراجية التي نعترف بحقه كاملا وحريته في تصور تلك الرؤية بكل مفرداتها دون تدخل أحد فيها على أن يكون ذلك التصور العام الخاص به نابعا من رؤية شاملة للعرض تكاد تجعله يتحرك على الورق، وأن يكون قادرا على الدفاع عن تصوراته وخياراته لعناصره المسرحية ومتسقا مع ما تقتضيه الحتمية والضرورة وهي القاعدة الذهبية التي ما زالت حاكمة في المسرح رغم ما طرأ عليه من تطورات هائلة وكثيرة.. إن تلك المشاريع الإخراجية إذا ما اتسمت بالحد الأدنى لمواصفات المشروع الإخراجي، وتم عرضها على جهة الإنتاج (الإدارة العامة للمسرح) صاحبة الحق الأصيل في المسئولية عما تنتجه فنيا وإداريا، ويتطلب الأمر عرض تلك المشاريع على المكتب الفني للإدارة، أو لجان خاصة أو أيا كان المسمى شريطة أن تمتلك القدرة على مناقشة تلك المشاريع مع المخرجين من الناحية الفنية دون التدخل أو فرض الوصاية على أحد، مع إيمان من الجميع بالعمل من أجل ظهور أعمال فنية تليق بالتاريخ العريق لمسرح الثقافة الجماهيرية؛ إذ إن مسرح الثقافة الجماهيرية يظل فضاء مسرحيا هاما ورافدا لا يستهان به في مساهمته في المشهد المسرحي المصري، ويتميز عن غيره من الفضاءات المسرحية الأخرى بما يمتلك من أماكن للعروض، وجمهور حقيقي للمسرح، ومن مواهب وطاقات فنية هائلة إذا ما أحسن استخدامها نقلت المسرح المصري إلى منطقة مغايرة تماما غير تلك المستكين فيها.

 


أحمد هاشم