عندما تحدث أبو العلا السلامونى

عندما تحدث أبو العلا السلامونى

العدد 524 صدر بتاريخ 11سبتمبر2017

فى مقالى المنشور بجريدة “مسرحنا” بعنوان المؤلف فى الزاوية الحرجة، عدد521، 21أغسطس 2017، تناولت حالة الجدل الساخن، التى أثيرت حول حجب جائزة التأليف المسرحى، وتصريح رئيس لجنة التحكيم -الأستاذ محمد أبو العلا السلامونى-  بأن اللجنة لم تجد مؤلفا يستحق جائزة أفضل نص، وأن ظاهرة التأليف المسرحى بشكل عام، تكشف عن ضعف وفقر وغياب، لدرجة أن الأمر يبدو وكأنه تجريف متعمد للثقافة المصرية، كما اتجهت رؤى اللجنة، إلى أن التأليف المسرحى قد توقف فى مصر منذ الثمانينيات وحتى الآن.
فى هذا الإطار المتوتر، يرصد المقال مجموعة من النصوص للعديد من المؤلفين، الذين شاركوا فى المهرجان، وذلك كمحاولة لقراءة ظاهرة التأليف، وفقا لرؤية مغايرة، ربما تضع المؤلف المصرى، فى قلب المشهد الثقافى، الذى سيظل محكوما بالجدل والتساؤلات.
توقف الأستاذ محمد أبو العلا السلامونى، أمام المقال وتناقشنا فيه بدقة، جمعنا حوار هاتفى
 طويل، وكان الأستاذ مشرقا متدفقا، تميزه روح شابة ثائرة متوهجة، فسألته:
كيف يمكن استيعاب فكرة فوز عرض “يوم أن قتلوا الغناء”، بجائزة أفضل عرض فى المسابقة الرسمية، وفوزه أيضا بجوائز أفضل إخراج، وأفضل تأليف موسيقى، وأفضل  تصميم ديكور، ثم التأكيد على أن النص لا يستحق الفوز بجائزة التأليف، لأنه ضعيف وفقير ؟!
فقال: أتذكرين مسرحية “مدرسة المشاغبين”؟ هل هناك عرض حقق نجاح جماهيريا -لا يزال متصاعدا حتى الآن- مثل هذا العمل ؟ وأضاف: ما رأيك فى النص ؟ هل هو نص جيد ؟ 
قلت: الأوضاع مختلفة، والمقارنة لن تحل معادلة التناقض، ونص المشاغبين لم يدخل  سياق التحكيم، وأعتقد أن  لائحة المهرجان تحتاج إلى إعادة صياغة، فمن المفروض أن يكون أفضل عرض مسرحى، هو عرض يمتلك كل مقومات التميز،وليس عرضا فاقدا لعقله، باعتبار أن العقل هو النص المسكون بالفكر والرسالة والهدف، لذلك ألم يكن من الأفضل استبعاد تجربة “يوم أن قتلوا الغناء”، حتى لا تتفجر كل هذه التناقضات؟!
قال: كانت رؤية المخرج “تامر كرم “ شديدة التميز والإبهار، ومعظم المفردات  كالديكور والموسيقى والإضاءة، تجاوزت المستويات العادية، وبعثت حضورا فنيا قويا، وهذا ما دفع لجنة التحكيم لاختيار المسرحية كأفضل عرض فى المسابقة، وعلى مستوى آخر كان من الغريب واللافت للنظر أن معظم العروض المشاركة فى المهرجان، ترتكز على نصوص أجنبية، علما بأن المهرجان اسمه القومى للمسرح المصرى، وهذا يؤكد حالة الفراغ المخيف فى ظاهرة التأليف للمسرح. 
سألت الأستاذ محمد: هل أصبح واقعنا الثقافى عقيما بالفعل، يخلو من المؤلفين ؟ 
فأجاب على الفور: لا لا، لقد أمضيت عشر سنوات رئيسا للنشر فى سلسلة النصوص المسرحية  الشهرية، الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، ونشرنا مئات النصوص عالية القيمة، ولا تزال الهيئة مستمرة في أداء دورها، وكذلك الهيئة العامة للكتاب، وجهات أخرى عديدة، ولكن المشكلة تكمن فى غياب دور مؤسسات الإنتاج الثقافى، حيث مديرو المسارح الذين لا يبحثون عن المؤلفات الجديدة، لذلك تخبو تيارات التأليف، ويغيب المؤلفون عن التفاعل والحضور، وفى إطار المواجهة، سوف تتغير لائحة المهرجان القومى فى العام القادم، بحيث تكون المسرحيات المشاركة مرتكزة على نصوص مصرية. 
تناولت فى مقالى “المؤلف فى الزاوية الحرجة “، ثلاثة نصوص هى، الجلسة لمناضل عنتر، يوم أن قتلوا الغناء لمحمود جمال، وشامان لسعيد سليمان، وقد اتفق الأستاذ السلامونى مع وجهة نظرى النقدية فى نص الجلسة، الذى جاء كإعلان صريح عن موت الفكر، وعدمية الثقافة، والاندفاع المخيف نحو الجهل والردة والغيبيات، ومصادرة أحلام المستقبل، ونفى كل التيارات التقدمية، الباحثة عن الحياة، وإضافة المزيد من التشوه لواقعنا المثقل بالخلل والتناقضات، فقد اتجه النص نحو تكريس مفاهيم القهر والفقر والكبت والاستبداد، ليمنحها شرعية مقدسة، ومثالية أسطورية مطلقة، لنصبح أمام مفارقة، تكشف عن دلالات اغتيال الفكر، وتكريس الجهالة والظلام، والفرار إلى المجهول، ويذكر أن الكثيرين  لم يدركوا خطورة هذا الطرح المسرحى، الذى غاب واختفى خلف إبهار الكوريوجرافيا  و الأداء الحركى، ولغة الجسد ودراما الضوء، والألوان الساخنة، وجماليات السيطرة على خشبة المسرح. 
اختلف المؤلف محمد أبو العلا السلامونى، اختلافا جذريا مع منظور رؤيتى، لمسرحية “يوم أن قتلوا الغناء “، ومن المؤكد أن تجارب الفن تحتمل العديد من القراءات والتفسيرات، فالإبداع لا يعرف المطْلقات، لذلك ربما نتفق وربما نختلف حول هذه المسرحية، ولكن يبقى هناك العديد من المؤشرات التى تؤكد أننا أمام كتابة ثرية، تبعث الجدل والتساؤلات، وفى هذا السياق سألت الأستاذ محمد السلامونى، عن تقييمه لنص يوم أن قتلوا الغناء، وعن أهم تحفظاته على هذه التجربة فقال: المبررات الدرامية غائبة تماما عن المسرحية، مفاهيم الخير والشر غير مبررة فى الشخصيتين الرئيستين، فلماذا جاء الأخ الأول كنموذج للخير والجمال، بينما الأخ الثانى شريرا مستبدا ؟  
قلت: التناقض والاختلاف فى ملامح الشخصيات، هو الشرارة الأولى لانطلاق الصراع، وكما جاء بالنص كان الأخ الأول” مدى”، ابن للطبيعة والشعر، والفكر والحب والغناء، منظور رؤيته للوجود مثالي إنساني، أما “سيلبا” الأخ الثانى فقد كان يبحث عن معنى مختلف للوجود، يتوافق مع المادية، البراجماتية، والانتهازية .
ويضيف الأستاذ : ما  المبرر الدرامى فى أن يصبح” سيلبا”، عنيفا مستبدا، بناء على أكذوبة ؟ 
قلت –أرى أن المبرر الدرامى، هو تكثيف مفاهيم الزيف والضلال والتسلط فى أعماق سيلبا، وتكثيف مفاهيم القهر والغياب عند الشعب، وكما شاهدنا فى العرض، فقد تغيرت مسارات وجوده، فى تلك اليلة الباردة، فوق الجبل، حين قابله قاطع الطريق، وأمره بخلع ملابسه، فرفض خوفا من البرد، لكنه استسلم تماما حين أخبره أن الدفء يأتى من شدة البرد، وظل يتأمل هذه الكلمات، واستقر فى نفس سيلبا أن من قابله هو الإله نفسه، فمضى وصنع له تمثالا عظيما، وراح يدعو الناس أن يعبدوا هذا التمثال. 
تمتد تحفظات الأستاذ أبو العلا السلامونى بشأن غياب المبررات الدرامية، ويتساءل  لماذا اندفع الحاكم سيلبا إلى قتل الأم الشابة، التى تغنى؟ ولماذا أخذ ابنها الطفل ليربيه، ويصنع منه قائدا شرسا عنيدا قاتلا، ثم لماذا يرفض الحاكم الغناء ؟  
قلت :إذا كان الغناء هو استعارة درامية للحرية، التى يريد الحاكم اغتيالها، فإنه قد أصدر قانونا بتجريم هذا الفعل، ومعاقبة من يغنى بالموت وبناء عليه، يصبح قتل الأم الشابة  مبررا، وكراهيته للغناء أيضا مبررة، أما الطفل الصغير” آريوس”، فقد أخذه بناء على نبوءة أسطورية، تؤكد أن الصغير يمتلك قوة غامضة، ستحوله إلى سيف مسلط على رقاب الناس.
جاءت قراءتى النقدية لدلالات فكرة المركب والطوفان، جاءت بريئة من أية أيديولوجيا، وبعيدة عن الإحالة إلى الرؤى الأسطورية التراثية والعقائدية، واتجهت نحو تصعيد إرادة الإنسان، ضد التسلط والاستبداد، وفى هذا السياق توقف الأستاذ السلامونى، أمام دلالات المركب والطوفان، كما جاءت فى نص المؤلف محمود جمال، مؤكدا أنها لا تنطبق بأى شكل من الأشكال على فكرة وفلسفة مركب نوح، فالرؤية المطروحة فى المسرحية تنتمى إلى منظور جامد وضيق، يكرس لمفهوم”الجماعة الناجية”، حيث الطوفان الذى سيغرق الجميع، ما عدا القلة التى تغنى وتركب المركب ، ومن المؤكد أن رسالة الفن، يجب أن تتجه إلى إنقاذ العالم والبشر، وليس تدميره وإغراقه، لصالح فئة واحدة. 
أخيرا يتساءل الأستاذ السلامونى  
لماذا يلجأ المؤلف إلى الأسطورة وهو يواجه قضية الإرهاب؟ هل هو خوف من الرقابة؟ من الدولة؟ من السلطة؟  بالعكس كل هذه المؤسسات ترحب بالمواجهات الفنية للإرهاب، فلماذا نتجاهل ما يحدث فى الواقع، ومن أى منطلق نتباعد خلف الأساطير، أرى أن قضايا الواقع الحية، جديرة بالطرح على كل مسارح مصر. 
هذه هى تحفظات الأستاذ محمد أبو العلا السلامونى، على مسرحية يوم أن قتلوا الغناء، ويبقى أن نؤكد أن كل تجربة لها خصوصيتها الفريدة، والمبدع يمتلك حريته الكاملة فى صياغة عالمه الدرامى.
وفاء كمالو
 


إبراهيم جلال

Ibrahim@gmeil.com