القضاء العرفى فى شمال سيناء​​​​​​​.. من ملامح الثقافة الشعبية

القضاء العرفى فى شمال سيناء​​​​​​​.. من ملامح الثقافة الشعبية

اخر تحديث في 11/14/2019 7:18:00 PM

 

الباحثة/ منى الأنور

 

لقد كانت القبيلة، وما زالت بالنسبة للبدو ــ رغم التطوير والتعمير على أرض سيناء ــ هي أسرته وعالمه، كما أن أفرادها أهله، وتقاليدها وشيخها قاضية، ويحكم القبائل البدوية عرف قبلي صارم  وهو القضاء العرفي الذي يحفظ لها بقاءها ويحقق الأمن والاستقرار،  رغم قسوة الظروف والحروب.

 

القضاء العرفى:

أبرز ألوان التراث الشعبى لسيناء الذى يعد من المعالم الرئيسية لهذه المنطقة، فهو من العادات التى يتمسك بها المجتمع بكل أفراده وفئاته وطوائفه، يلعب دورا رئيسيا فى عملية الضبط الاجتماعى لهذا المجتمع.

وقد اعتمدت الدولة هذا العرف فى حل كثير من القضايا لصالح استقرار المجتمع السيناوى، ولذا فإن العرف كان مصدرا للقانون عرفته البشرية، فهو اعتياد الافراد على سلوك معين فى مسألة معينة مع اعتقادهم بأن هذا السلوك ملزم لهم، وأن من يخالفه يتعرض لجزاء مادى ومعنوى يوقع عليه، فهو قانون غير مكتوب «وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» " قرآن كريم "  والعرف ( قانون غير مكتوب) لأنه غير مدون فى وثيقة رسمية مثل التشريع، بل هو قانون شعبى نشأ من سلوك الشعب نفسه.. ومن ثم نجد أن العادات الشعبية وعلاقاتها بالقانون العرفى ينتميان إلى القواعد المنظمة لحياة الجماعة نفسها، حيث يرى د. سميح شعلا ن فى دراسته أن العادات الشعبية بوصفها سلوكا جماعيا يلتزم الافراد بتنفيذه إنما تتخذ مستويات من الالزام بأهمية وحتمية التنفيذ تبعا للدور الوظيفى الذى تؤديه العادة لصالح الجماعة. كذلك فإن تدرج فعل الجماعة إزاء التقصير فى الالتزام يعود إلى فهم الجماعة ذاتها للدور الذى تلعبه الجماعة، فإذا تنازل الفرد عن الالتزام بأهمية الأداء ببعض الواجبات التى تحددها الجماعة فإن تقصيره هذا يؤثر على مكانته بين أفراد الجماعة.. كما أن التقصير فى الالتزام بمنظومة القيم التى تحددها كل جماعة يدعو إلى وضع قواعد تصل إلى حد القانون ، فإذا خلف  احدهم هذه القواعد وتطاول مثلاً على ما لدى الغير فسرق أو تجاوز حدود اللياقة فسب أو اعتدى على الآخر من ضرب أو قتل، فهنا تصل القواعد المنظمة إلى درجة القانون الملزم.

ومن ثم يعتبر القضاء العرفى هو أبرز ألوان المأثورات الشعبية لسيناء، ويعد من المعالم الرئيسية لها، فهو من العادات التى يتمسك بها المجتمع بكل أفراده وفئاته وطوائفه.

كما يلعب دورا فى عملية الضبط الاجتماعى لهذا المجتمع، فهو مجموعة عادات جرى الأفراد اتباعها فى تنظيم سلوكهم إلى أن رسخ فى اعتقادهم أن هذه العادات ملزمه، وان الخروج عليها يستطيع توقيع الجزاء على المخالف.

ومن ثم كان يحتم على الباحثة الحضور لمقابلة بعض القضاة العرفى ويشرح لنا بلغة العرف عند البادية بعض قضايا القضاء العرفى بشمال سيناء  وهو القاضى  حماد ابراهيم المرابى؛ حيث يبدأ الحديث بقول (بسم الله الرحمن الرحيم ) والصلاة على سيدنا محمد (ص):

القضاء العرفى يتكون من ثلاثة قضاة، وفيه القبائل العربية كلها أخذت جزءا من العرف تخصصت به، فقبيلة بلى والأحيوات أخذت منقع الدم، والرميلات أخذوا الأراضى والديار، والمساعيد أخذوا العرض والبنات والولايا وإحنا يا بياضية أخذنا العرايش والنخل.

 

ومن آراء شيوخ القبائل والقضاه عن سمات القاضى العرفى يوضح لنا الشيخ / حسنى سليمان الرياشاتى بأبو طويلة يقول : لابد ان يكون إنسانا محنكا وسيع العقل وأخد مدرسة الحياة واسع المفهومية وقادرا على الحق ، وشخصا ذا عقل راجح ملم بأحوال القضاء العرفى، وقد نشأ بين أبناء القبيلة فى الجلسات العرفية  فى مجالس القبائل، حيث يروى فيها الشيوخ والوجهاء خبراتهم بتجارب غيرهم لينشأ القضاة مستوعبين ثقافة مجتمعهم بالوراثة عن الآباء جيلا بعد جيل.

ويرى الشيخ حماد أن القاضى العرفى بالوراثة والخبرة فى الحق، ويذكر أنه كان يرافق والده دائما فى الجلسات العرفية وتعلم منه كيف يحكم بين المتخاصمين، كما يرى أن قضاة الحق يعتمدون على الذكاء والفطنة، وإن لم يكن لديه ذكاء شرعى لا يصلح للحكم بين الناس.  فمثلا  يرى أنه لابد ان يتناقش بين المتخاصمين مرة واثنين وثلاث؛ لأنه لم يعرف من الكذاب من الصادق، فلو كرر السؤال بينهم أكثر من مرة واثنين وثلاث بين الطرفين ومازال أحدهما مصرا على كلمته وقوله يعرف أنه صادق، بينما لو فى كل مرة يكرر فيها السؤال مرة تزود كلمة ومرة تختفى كلمة يعرف انه ليس صادقا، وهذا يعتمد على ذكاء القاضى، ولابد ان يتسم القاضى بحسن السمعة.

وعند اختيار القضاة للتقاضى لكل نوع من أنواع التقاضى ثلاثة قضاة، أى ثلاث درجات للتقاضى تكون بالاتفاق الأول بين طرفى الخصومة فعندما تذهب القضية إلى القاضى الأول يقال " اخوه فى لسانه " بمعنى انه يسمى القاضى الأول والقاضى الثاتى والثالث ، أو قد يكون الاتفاق بين الطرفين على اسم قاض واحد يحكم بصفة نهائية ويكون الحكم الصادر منه لا يقبل النقض.

ويقعد الثلاث قضاة وعند الحكم بالحق ولم يصب الحكم واعترض عليه يلجأ المتضرر للحكم الثانى  حتى يصيب حقه.

ففى القضاء العرفى نجد أن لك نوعا من أنواع التقاضى، ثلاثة قضاة أى ثلاث درجات للتقاضى: الأول تعرض عليه للحكم فيها وهو أشبه بقاضى المحكمة الابتدائية، فإذا قضى فى الدعوى ولم يقبل أحد الأطراف بالحكم أحيلت للقاضى الثانى الذى يختاره المتضرر من بين القضاه الثلاثة، فإذا حكم فيها ولم يرض الطرف الثانى بهذا الحكم الذى هو أشبه بحكم قاضى الاستئناف أحيلت القضية إلى القاضى الثالث الذى يصبح حكمه نهائيا، فهو أشبه بقاضى محكمة النقض.

ومن ثم نقوم بعرض نظرة شاملة للقضاء العرفى وإيضاح بقدر الإمكان الإجراءات الشكلية والموضوعية وأساليب الوصول إلى الحقيقة وتسوية النزاع صلحا وحق الطعن فى الحكم... إلخ.

 

تسوية النزاع صلحا

بدايةً عند إقامة خلافات أو نزاعات بين الطرفين يتدخل فيها كبار القبيلة لتسوية النزاع، ويتم هذا الاجراء قبل الوصول إلى إجراءات التقاضى حرصا منهم على وأد الخلاف والحفاظ على العلاقات الاجتماعية.

ويقصد بالكبار" كبار القبيلة " فلهم ثقلهم الاجتماعى ومكانتهم ويصفون بالحكمة ورزانة العقل وقدرتهم المادية والمعنوية فى التأثير على أفراد مجتمعهم، ولديهم الخبرة فى حل الخلافات، ولكل قبيلة " ثلاثة "، قضاة متفق عليهم ومعروفة أسماؤهم لدى مختلف القبائل الأخرى.

ويختص الكبار بالفصل فى المشاكل والمنازعات والخلافات التى تنشأ بين أفراد جماعتهم ويعتمد البدو فى كبارهم وعدلهم منهم يقولون عنهم " الكبار محرمين الخراب ومعمرين العمار"، أى أنهم يحقون الحق وينكرون الباطل. ويضف أنه حاليا مع التطوير ومع الاحداث  وفهم الناس للعرب أعطى الحق لتواجد أكبارها منها فيها بحيث مناشدها كبيرها فيها، ومناقع الدم كبيرها فيها، ولم تدخل قبيلة أخرى بينهم يكفيها كبيرها.

وفى معظم الاحوال يتم فيها الاعتذار من المخطئ أمام جمع كبير فى مقعد شيخ القبيلة إرضاء للطرف الآخر وتنتهى الخصومة على ذلك.

ويمكن القول ان قبول الاطراف المتنازعة لإنهاء الخلاف داخل إطار القبيلة دون التمادى فى التقاضى لدى الاطراف الاخرى، هو دليل واضح على التماسك القبلى فى مجتمع سيناء وعلى توارثهم للاخلاق العربية الأصيلة التى تحض على احترام وتوقير الكبار.

 

وتكون الإجراءات كالتالى :

1 -   ان يقوم المدعى عليه بخط أى تسمية ثلاث قضاة، وأن يقوم كل طرف بعدف واحد "أى استبعاد أحد القضاة" ويكون أول درجات التقاضى عند القاضى الثالث الذى لم يعد من قبل الاطراف. ويضيف الشيخ جمعة أبو مسعد قاضى "منقع دم " إنه يمكن أن يكون ثلاث درجات بخط الثلاثة فى كل القضايا يكون داخل تخصصات 9  قضاة منهم  3 ضربية،  3 كبار، 3 مناشد، وفى حالة عدم اتفاق الطرفين على تسمية القضاة سواء على البند الأول أو الثانى على القاضى أن يخط ثلاثة قضاة وتسميتهم وتحديد الزمان للطرفين للحضور.

2 -    كما يرى المستشار محمود مبارك وخبير تحكيم "قاض ضريبى" أن مرحلة ما بعد تسمية القضاة أن يقوم الطرفان "بعدف" وهى استبعاد قاض، والطرف الثانى استبعاد قاض آخر وتحديد القاضى الثالث للتقاضى أمامه

ويرى أن هذا القاضى المعدوف هو قاضى الاستئناف لمن عدفه أو استبعده لأن القضاء العرفى يتكون من ثلاثة قضاه وكل طرف يعدف قاضى ويبقى القاضى الأول فإذا  "نكت الحق" أى استئنافه يكون المستأنف له الحق فى التقاضى لدى القاضى الذى يتم عدفه أو حذفه بمعرفته. أما فى حالة الاختلاف على تحديد القضاة تذهب القضية إلى قضاة الضربية، فهم أصحاب فض النزاع على الإختصاص.

3 -    فى حالة "رمى الوجه" وهى عندما تتنازع قبيلتان أو شخصان وحضر هذا النزاع بعض الاشخاص من غير المتشاجرين، فيقومون بتهدئة الوضع فإذا لم نتمكن من التهدئة فيبادر أحد الحضور بعملية "رمى الوجه"، وذلك يعنى وقف النزاع وتكون باسم شخص له قيمته فى القبيلة؛ لأن هذا الأسم يضمن عدم الاعتداء، ورمى الوجه على أطراف النزاع وهم كبار القبيلة ولهم عصبة قوية فلا يقوم أى طرف من الطرفين بالاعتداء بعد رمى هذا الوجه؛ لأن التعدى على الوجه له حق يضاعف.. ويضيف لنا القاضى حماد المرابى من "قضاة الديار" بقبيلة البياضية: إن فى هذه الحالة إذا أراد أن يحمى أحد الكبار يقوم بداخل الوجه الذى وقع فيه لكى لا يتعرض أحد التعدى على الوجه فيقول أنا داخل الوجه عن ثلاث مناشد، وثلاث ضريبية، وثلاث كبار حماية للوجه، وذلك بعدم الإساءة له، ويكون ذلك فى الخط باعتباره "وجه الكبار"، وأنه مستعد للتقاضى لحماية الوجه، كما يؤكد لنا أن حاليا يتم اختيار الثلاثة كبار جميعهم من داخل القبيلة لأنهم لا يسمحون بدخول كبار من خارج القبيلة.

وسوف نتطرق لتفاصيل أخرى عن القضاء العرفى فى مقالات تالية..

 

 

المراجع

- المأثورات الشعبية – مجلة علمية متخصصة – الدوحة – أبحاث ودراسات - العادات الشعبية مفهومها وماهيتها- د. سميح شعلان ص ــ 26

- المجتمعات الصحراوية فى شمال سيناء – دراسة انثروبولوجية للنظم والأنساق الاجتماعية – د. أحمد أبو زيد  ــ ص379

 

 


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @