العديد.. غناء الموت للحياة

العديد.. غناء الموت للحياة

اخر تحديث في 9/3/2019 8:16:00 PM

محمد شومان

يمثل الموت الحلقة الأخيرة من حلقات طقوس العبور كـ"الولادة"، "البلوغ"، "الزاوج"؛ فالموت هو البداية المؤدية إلى العالم الآخر، ويمثل العبور الحقيقي الذي ينقل الجسد والروح من عالم الأحياء إلى عالم الأموات الذي يؤثر على التوازن. وقد يحدث اختلال لاسيما إذا كان عدد الموتى كثيرًا كضحايا الحروب، أو إذا كان الميت شخصا يمثل أهمية بالنسبة للمجتمع أو لجماعة ما، ومن هنا نشأت طقوس الموت.

عبر آلاف السنين رافقت الكلمات والأشعار والأغنيات مختلف المناسبات مثل الأفراح والسبوع والألعاب حتي في الموت والمآتم ينشد أهل الميت وأحيانًا بعض الأشخاص المتمرسين المحترفين وهي ما تُعرف "المُعدّدة" أو "الندابة" الأغنيات التي تصاحب المراسم أو تعقب الدفن وهو ما يسمى "البكائيات".

المُعدّدة هي واحدة من أقدم المهن للمرأة التي تورث من جيل إلى آخر، وغالبًا ما تكون من الطبقة الفقيرة وهي السيدة المتمرسة التي تحترف الإنشاد، ويتم دعوتها عندما يموت شخص، لها القدرة على التنوع والإنشاد لفترات طويلة دون تكرار، والمُعدّدة من خلال السؤال على الميت، ومن هو وعلى أي حال كان وما هي مزاياه، فهى تستلهم من تلك المعرفة الكلمات التي لها مفعول السحر علي جلب البكاء والحزن، والبعض يعتبرها بديلا لقارئ القرآن في تجمعات الرجال.

الاحتفاء وتكريم الأموات نال حيزًا كبيرًا في التراث الشعبي على مر العصور، فالفراعنة كانت لديهم قيم للاحتفاء وتخليد ذكرى الموتى عبر طقوسهم، فقدماء المصريين لم يتوقفوا عن سماع الموسيقى الحزينة حتى فى أثناء موكب الجنازة ومراسم الدفن، وقديمًا كان العرب ينظموا أبيات الرثاء، قال المهلهل بن ربيعة حين قُتل أخوه كليب فكتب في رثائه:

دعوتُكَ يا كُليب فلم تجبني
وكيف يجيبني البلد القفار
أجبني يا كُليب خلاك ذمٌّ
فقد فُجعت بفارسها نزارُ

المشاهد يكسوها السواد وتملأ جوانب المكان السيدات اللاتي يرتدين الملابس والأوشحة السوداء، وتأتي المعزيات إلى بيت الميت، ويبدأن الصراخ قبل الدخول، بينما تجتمع القريبات حول المتوفى لتردد المُعدّدة بصوت يفجر الدموع ويثير مشاعر الحزن تعبيرًا عن الدور الذى كان يلعبه المتوفى في حياة أهله ومحبيه.
ورد في كتاب "الأغاني الشعبية في صعيد مصر" لـ جاستون ماسبيرو الذي تناول "العَدِيد" في صعيد مصر فتقول إحداهن في عديد شاب:

قنديل مِنور .. انطفىِ ضَيُّه
سوق البحيره مالْتَقَاشْ زيّه
قنديل منّور .. وانطفي نوره
سوق البحيره ما الْتَقيتْ غيره
وتقول أخرى في عديد عجوز:
نايم حدا بيته
خدت الفطور وطلعت عطيته
مِنْ نَزْلِتُه من فوق ما ريته
يا حسرتي عمل الجبل مليكه
وحّرم الشقه علي وليده 

وتختلف الكلمات باختلاف الميت، شاب أو شيخ، رجل أو بنت أو امرأة مع بعض الإيماءات والحركات كاللطم على الخدود، والبعض يصحبن الدف ليثيرن عبر إيقاعاته مشاعر الحزن والبكاء والعَدِيد.. وتعريف العَدِيد أو النَدَبَ في اللغة هو البكاء على الميت وتعدد محاسنه، واتسعت دائرة التصنيف لدي الباحثين والجامعين لتضم "عديد الأم"، "عديد الفتاة التي لم تتزوج"، "عديد الشباب"، "عديد المقتول"، "عديد الأم على ابنها"، "عديد الكفن"، "عديد الطفل"، "عديد كبار المكانة".. إلى آخر التصنيفات.

رغم اختلاف المكان والزمان فإن المأثور والتراث لهما قيمتها ثابتة الشكل والمضمون، ومنها العَدِيد وما يحتويه من إيقاعات وشجن حزين يعبر عن المتوفى ومقداره لدي محبيه بل هي عند البعض طريقة لمخاطبة المتوفى وتعبير عن المحبة وسبيل للاحتفاء به أثناء رحلته إلى عالم الخلود.


محمد شومان

محمد شومان

راسل المحرر @