بين القداسة وهبة الحياة النيل.. سر الحضارة المصرية

بين القداسة وهبة الحياة النيل.. سر الحضارة المصرية

اخر تحديث في 12/18/2020 4:10:00 PM

محمد إبراهيم

 "أترو-عا" كلمة مصرية قديمة تعنى "النهر العظيم" والتى تحورت إلى أن ظهر مصطلح فى اللغة العربية (الترعة) إنه الاسم المصرى القديم لنهر النيل؛ إذ يطلق مصطلح الترعة على المجارى المائية المتفرعة من فروع نهر النيل الذى كان عند المصريين القدماء بمثابة الإله والأب والقوة والحكمة والرزق وكل شيء.

كان لنهر النيل إله يدعى "هابى أو حابي" ممثلاً إله روح النيل وجوهره الحركي وللمصريين القدماء صلاوات لهذا الإله يقولون فيها "هابي أبو الآلهة الذى يغذي ويطعم ويجلب المؤونة لمصر كلها، كذلك الذي يهب كل فرد الحياة فى اسم قرينه (الكا) ويأتى الخير فى طريقه والغذاء عند بنانه ويجلب مجيئه البهجة عند كل إنسان، إنك فريد، أنت الذى خلقت نفسك من نفسك ودون أن يعرف أي إنسان جوهرك، غير أن كل إنسان يبتهج فى اليوم الذى تخرج فيه من كهفك"، يقام كل عام عند أسوان وقرب القاهرة الحالية قذف الكعك وحيوانات الضحية والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليها، وكذلك تماثيل الإناث لتثير إخصاب (شهوة) النيل العظيم فيفيض فى أمواج عاتية وينثر نفسه خلال المملكة معطيا الحياة والخصوبة للأرض (*) والذى يمتد من منطقة الشلالات المطابقة لحدود مصر الحالية مع السودان وحتى الحدود الشمالية عند المصب.

كما كان الإله آمون يصرح على لسان كهنته: (أن البلد الذى يفيض فيه النيل هو مصر فكل من يشرب من النيل فى مجراه التحتاني بعد جزيرة ألفنتين فهو مصري) سيرا على الأقدام وصف الحكماء الكهنة فى الأدب المصرى القديم كيف أن النيل توقف عن غمر الأرض وكيف هددت البلاد بالمجاعة نتيجة للفوضي الإجتماعية على بردية من عصر الاضمحلال الأول عام 2150 ق.م موجودة حاليا فى متحف ليدن بهولندا، وصف الحكيم إيبوور حالة مصر عندما غضب النيل على الناس نتيجة للحرب الأهلية والعداوة والفوضى قائلاً: "كان الرجل يذهب إلى حقله حاملاً درعه.. وكان الأشرار فى كل مكان.. ولم يعد عظماء الأمس موجودين.. كان النيل يفيض، ولكن لا أحد يحرث حقله.. وكل واحد يقول، نحن لا نعرف ماذا حدث للبلاد..  فقد توقف خنوم عن خلق أطفال (جدد).. وحالة البلد سيئة.. وأصبح الفقراء ملاكا لأشياء ثمينة.. والشخص الذى لم يكن له صندل (حافى القدمين) من قبل، أصبح ثريًّا. عمت العداوة كل الأرض وأصبح الدم فى كل مكان.. ودفن الموتى فى النهر الذى أضحى جبانة، كما بات مكان التحنيط هو النهر.. أصبح النهر دما.. والكبير والصغير يقول أتمنى أن أصبح ميتا.

 وفى نبوءة نفر-آر-حو والتى ترجع لعصر الملك تحتمس الثالث نجده يصف حالة جنوب شرق الدلتا فى عصر الملك سنفرو من الأسرة الرابعة كالتالى: نهر مصر فارغا، حتى إنه يمكن عبور الماء سيرا على الأقدام.. وسيبحث الرجال عن الماء التى يمكن للمراكب أن تبحر عليها؛ فقد أصبح النهر ضفافا وأصبحت الضفاف ماءً.. ولم يعد بيض الطيور يفقس فى أحراش الدلتا.. وستشرب حيوانات الصحراء المتوحشة من أنهار مصر، حتى يرطبوا أجسادهم على ضفافها، حيث لم يعد هناك من يخيفهم.. وسيحمل الرجال أسلحة الحرب، وستعيش الأرض فى ضجيج.. أنا سأريكم الابن كعدو والأخ كخصم والرجل يقتل والده.

هذا وقد أعد بعض الكتاب قواعد للتعامل على النيل، فنجد "أمن-ام-اوبت" فى عام 850 ق.م. ينصح صاحب معدية بأن يكون رقيقا ورحيما مع الآخرين، فيقول: "لا تمنع الناس من عبور النهر عندما يكون لا يزال لديك مكانًا (شاغرًا) على مركبك ويأتيك شخص يعيش على الجزيرة، لا بد وأنك سوف تمد له يدك لتأخذه معك .. وهنا لن يعاقبك الإله.. لا تصنع لنفسك معدية على النهر وتجمع الثمن.. خذ الثمن من الثرى ورحب بذلك الذى لا يملك الثمن" "تَحدْ النيل الذى تحيط به الصحاري الرملية والجبلية فى مجراه عبر وادى مصر العليا (الصعيد) الضيق المتعرج وعبر سهل الدلتا حقول مزروعة بمياهه إلا فى أماكن قليلة وليست الأراضى المزروعة مستوية تمامًا؛ فهى تنخفض نحو الصحارى أكثر منه فى الأراضى المحيطة بالنهر وتنتشر فيها بساتين البلح والقرى وتتقاطعها العديد من القنوات وأما الأمطار الصيفية الغزيرة التى تعرفها بلاد الحبشة والبلدان المجاورة، فتظهر تأثيراتها فى مصر عند ارتفاع منسوب النيل قبيل فترة الانقلاب الصيفى للشمس، ويبلغ النيل أعلى مستوياته خلال الاعتدال الخريفى فتكفى مياهه لملء القنوات التى تروى السهول والحقول ولغمر مساحات كبيرة من الأراضى المزروعة ثم ينخفض منسوب النهر تدريجيًّا حتى فترة ارتفاعه من جديد وتغطى الترسبات المهمة المتأتية عن الغمر الطبيعى للمياه أو الريع الاصطناعى سنويًّا الحقول المحيطة بالنيل بعد أن تكون هذه الترسبات قد أشبعت تمامًا خاصة خلال ارتفاع منسوب النهر بطبقة غنية من التربة مجروفة من البلدان الجبلية حيث يتدفق بينما يرتفع قاعه وللسبب نفسه بدرجة مماثلة ويعتمد المصريون اعتمادًا كليًا على مياه النيل لتخصيب تربتهم بسبب ندرة هطول الأمطار فى بلادهم بسبب ندرة هطول الأمطار فى بلادهم باستثناء المنطقة المحيطة بالمتوسط ويساعد انتظام الفصول الفلاح المصرى على ترتيب عمله فى الأرض بدقة كبير؛ وعمله غير شاق عامة إلا عندما يكون مجبرًا على رفع المياه للري.

وها هو أخناتون ينظم أنشودة يخلد بها النيل الذى يخرج من باطن الأرض الخطاب: لأتون الإله الأعظم.. أنت خلقت النيل فى العالم الأرضي وأنت تخرجه بأمرك فتحفظ به الناس.. يا إله الجميع حين يتسرب إليهم الضعف.. يارب كل منزل أنت تشرق من أجلهم.. ياشمس النهار يامن تخشاه البلاد القاصية.. أنت موجد حياتهم.. أنت الذى خلقت فى السماء نيلاً لكى تنزل عليهم.. ولهم وفى هذة القصيدة عدا جمالها الشعرى – مقارنة جميلة بين البلاد القاصية التى ترويها الأمطار من السماء وبين مصر التى يرويها نهر يجرى في الأرض.

 ونورد هنا قصيدة أخرى فى تمجيد النيل ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد: حمدا لك أيها النيل الذى يتفجر من باطن الأرض ثم يجرى ليغذي مصر فهو الذى يسقى المروج وقد خلقة رع لكى يطعم كل دابة وماشية ويرسل الماء إلى الجهات البعيدة فيروى مجدبها ويطفئ ظمأها آلة الزراعة (كاب) يجبه، وآلة الصناعة (فتاح) معجب به فلولاه ما ازدهرت الزراعة ولا الصناعة ولولاه ما حصد القمح والشعير وامتلات بهما الخزائن مثل هذه الفكرة، لابد أنها نشأت بين قوم لم يعرفوا عن أعالى النيل شيئا فهي ولا شك ترجع إلى ما قبل التاريخ وما قبل عهد مينيس بقرون عديدة جدا ولكنها لقدمها ولمنزلتها فى الميثولوجيا المصرية قد اكتسبت شيئا من الحرمة الدينية، فتداولتها الألسنة وبقيت آثارها حتى فى العصور التاريخية، أي بعد أن علم المصريون عن أعالي النيل الكثير.

وفكرة البحر المحيط بالأرض التى منشأُها الميثولوجيا المصرية، الفكرة التى انتقلت إلى اليونان الذين سموا المحيط بالأوقيانوس ولم تزل هذة الكلمة مستعملة الى يومنا وأن يكن استعمالها فى غير معناها الأول على أن جهل المصريين القدماء بأعالي النيل لم يدم طويلاً بل سرعان ما اتسع افقهم واتصلوا بشعوب وبلاد أخرى تقطن وادى النيل وقد رأى ملوك مصر حتى فى الأسرة الأولى أن بعض الأقوام التـى تسكن جنوب الشلال كانت تعبر أحيانا على حدود مصر فاتخذوا التدابير اللازمة لردهم حتى جاء زوسر وسنفرو فارسلا البعثات الحربية لاخضاع البلاد التى ندعوها اليوم بلاد النوبة.

غير أننا نعرف أنهم كان لهم اتصال وثيق بثلاثة أقطار مهمة فى جنوب مصر وهى:

أولاً: البلاد التي تقع جنوب مصر مباشرة والتى صارت فيما بعد جزء غاليًا هاما فى مصر وكانوا يدعونها بلاد كوش وهى الآن محافظة أسوان وقد أخضعها المصريون لسلطانهم فى عهد الأسرة الثالثة.

ثانيا: بلاد (يام) وهى واقعة غرب النيل

ثالثا: بلاد (بونت) وتشمل حاليا أرتيريا والصومال والمصرى القديم كان يرى النيل والمسئول عنه حابي إله الخصب والنماء ورب الرزق العظيم وخالق الكائنات وكان المصرى القديم يخاطب النيل قائلاً: " الحمد لك يانيل يا من تخرج من الأرض وتأتى لتغذى مصر .. أنت النور الذى يأتى من الظلام وعندما تفيض يقدمون لك القرابين وتذبح لك الماشية ويقام لك احتفال كبير" وقد قدس المصرى العظيم قديما (حابى) وفى ظل قناعته بالبعث كان يقسم أمام محكمة الموتى ألا يلوث هذا النهر فيقول: أنا لم أتسبب فى بكاء أحد، إنني لم أخطف اللبن من فم الرضيع، إنني لم ألوث ماء النيل، وهكذا فطن أجدادنا إلى قيمة النهر الخالد ودوره المحوري في حياتهم فحافظوا عليه وقدسوه وتفانوا فى خدمته.

(*)  "جورج بوزنر، سيرج سونرون، وجان يويوت، وأ.أ س ادجواردز، ف. ل ليونيه، وجان دوريس، معجم الحضارة المصرية القديمة، ترجمة أمين سلامة، مراجعة د. سيد توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، القاهرة 1996، ص345، 346".

مراجع:

1- اميل لودفيغ، النيل..حياة نهر، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997

         2- عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم- إدوارد وليم لين.

3- جورج بوزنر، سيرج سونرون، و جان يويوت، و أ.أ س ادجواردز ، ف. ل ليونيه، و جان دوريس، معجم الحضارة المصرية القديمة، ترجمة أمين سلامة، مراجعة د. سيد توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، القاهرة 1996

4- تعلم الهيروغليفية- لغة مصرية قديمة وأصل الخطوط العالمية- د. محمد حمادة


محمد ابراهيم

محمد ابراهيم

راسل المحرر @