يغلفونه بالدين للتهرب من النقد الاجتماعى.. السحر بين المعتقد والممارسة الشعبية

يغلفونه بالدين للتهرب من النقد الاجتماعى.. السحر بين المعتقد والممارسة الشعبية

اخر تحديث في 4/30/2019 11:00:00 PM

     د. شيرين جمال البرادعي

السحر كلمة مأخوذة من السَحَر.. مادة السين والحاء والراء.. والسَحَر هو آخر الليل وأول النهار.. فيه ظُلمة الليل وإشعاعات ضوء النهار، فلا نستطيع أن نقول عليه نهارًا.. بمعنى النهار والضوء.. أو أن نقول عنه ليلاً بمعنى الظُلمة.. وعلى ذلك فللسحر واقعين وليس واقعًا واحدًا.

وتأثيره على العين.. فالعين هى التى تُسحَر لترى أشياء غير واقعية، إذن فهو خداع للنظر.. فالعين تُسحَر والنظر يُخدع والمادة لا تتغير.

هذا وقد ورد كلمة سحر فى القواميس العربية بمعانى مختلفة، حيث نجد سحراً بمعنى الخديعة أو إظهار الشئ على غير حقيقته، وعليه فهو إخراج الباطل فى صورة الحق، كما أنه صرف الشئ عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما رأى الباطل فى صورة الحق وخيل الشئ على غير حقيقته فقد سحر الشيئ عن وجهه، بالإضافة إلى ذلك فقد سمى السحر سحراً لأنه يزيل الصحة إلى المرض وانما يقال سحره أى أزاله عن البغض إلى الحب، وهو فعل يقوم على خداع الحس، ويُقال فى اللغة سحره بكذا، أى خدعه وسلب لبه وسحر عينيه بمعنى خيَّل إليه ما ليس فى الواقع، وكذلك سحره بمعنى استماله أو أفسده.

والسحر قديم قدم النفس الإنسانية، ومن الخطأ الظن بأن الإيمان به نشأ فى ذهن الأنسان نتيجة الصدفة، فالمعتقد السحرى ساير الأنسان منذ ألاف السنين ومازال يسيطر على نواحى كثيرة من سلوكه اليومى، مما يدل على أنه استمد أصوله من إملاء قلوب الأجيال السابقة استجابة لحاجاتهم إلى المعرفة ليتغلبوا على القلق الأزلى الذى كان ينتابهم فى خضم الكون ومخاطره.

ولعل الإنسان فى مراحل وعيه الأولى لم يميز نفسه ومحيطه فتخيل أنه مجرد عضو فى جسم عالمى يضم كل محتويات الكون، وهو كالجسم الأدمى متضامن الأعضاء يعين بعضها بعضاً، حتى أنه بحكم هذا التضامن الكامل مع العالم يمكنه تحريكه وفق إرادته إذا ما عرف سر تلك الروابط، ففكرة أن الإنسان يملك سلطاناً على القوى الخارجية يعرف كيف يديرها على نحو ما هى أساس السحر.

وهو من الأمور الغامضة المتعلقة بما وراء الطبيعة التى تستعصى على الفهم، وقد ظهر فى مرحلة سابقة على الدين ومنه نشأت الأديان البدائية، ويمكن القول بأنه أى علاقة سببية بين ظاهرتين أو شيئين يقوم الساحر بافتراضها، لذا يمكننا القول بأن حياتنا اليومية إلى الأن تزخر بالكثير من الممارسات السحرية، ويبدو لنا السحر صارخاً وواضحاً عندما يُقيم علاقة سببية بين طرفين محكومين بسببيه واضحة أو عندما يتغلب على هذه السببية ويخترقها.

فإذا سلمنا بأن السحر هو التأثير النفسى بواسطة أشخاص متمرسين بفنون سحرية معينة، لديهم القدرة على الاستعانة ببعض القوى الروحية فى التأثير فى نفسيات وعقول وتصرفات بعض الناس، فهو عزائم ورُقى وعُقد تؤثر فى الجسم الإنسانى فيمرض، فالسحر عبارة عن أمور دقيقة موغلة في الخفاء يمكن اكتسابها بالتعليم تجري مجرى التمويه والخداع تصدر من نفس شريرة، وهو الفن الذى يمكن من خلاله اخضاع ما فوق الطبيعى، كما يمكنه التحكم فى الطبيعة بوسائل فوق طبيعية من خلال التحكم فى قوى وموجودات ومخلوقات روحية.

إذن فهو القدرة على التحكم فى العلاقات الإنسانية، لكونه الوسائل الطقوسية الهادفة إلى السيطرة على الطبيعة والعلاقات الإنسانية، والسحر بصفة عامة قد يكون إيجابياً أو سلبياً.

من ذلك نتبين أن السحر ما هو إلا عمل يقوم به شخص معين تتوافر فيه شروط خاصة تحت ظروف واستعدادات غير مألوفة وبطرق سرية غامضة، للتأثير على شخص أو جملة أشخاص رغم إرادتهم لتحقيق غرض معين، هذا وتُحدد القوى المؤثرة وكذا الغاية المرجوه من العمليات السحرية نوع الممارسة شريرة أم نافعة، من ذلك يمكن القول بأن المسحور يكون واقعاً تحت تأثير الساحر الذى يمتلك القدرة على تكييف إدراك المسحور للأشياء التى تحدث أمامه لكنه يعجز عن اكتشاف أسبابها.   

هذا وللسحر قسمين أساسيين: الأول هو السحر الاحترافى الذى يمارسه السحره المحترفون، الذين يحرصون دائما على الحفاظ على خصوصيتهم، وعلى ألا يذيعوا سر مهنتهم، هذا ويعتقد الساحر المحترف أن هناك علاقة بين السحر وعلم الأسماء وعلم التنجيم.

أما الثانى: فهو السحر الشعبى الذى يمارسة الأفراد فى حياتهم اليومية، ويدور حول الممارسات العملية والمعتقدات المحفوظة فى صدورهم، والخبرات المكتسبة التى توارثوها عبر الزمن مثل الحسد وما يدور حوله من ممارسات، إلى جانب الحرص على عدم ذكر بعض الأشياء السيئة كأسماء بعض الأمراض الخطيرة، لوجود اعتقاد بأن ذكر الاسم يستحضر المرض، وحال فشل السحر الشعبى فى تحقيق أهدافه يلجأ الأفراد إلى السحر الاحترافى.

ويندرج تحت هذين القسمين عدد من الأنواع السحرية منها: السحر الدفاعي والسحر العداوني ويرتبط هذان النوعان من السحر بالغرض المرجو منهما، وبموقع القمر الذي يلعب دوراً هاماً في نجاح العملية السحرية أو فشلها، حيث ينجح السحر الدفاعي في النصف الأول من الشهر القمري، بينما يختص النصف الثانى من الشهر بالسحر العدوانى.

نضيف إلى ذلك نوعين أخرين هما السحر الأسود والسحر الأبيض: والتقسيم تبعاً للألوان من أشهر تقسيمات السحر، حيث يرمز اللون هنا إلي الغرض المرجو تحقيقه من خلال  السحر، فالأبيض يهدف إلى تحقيق منفعة لعملائه دون إلحاق ضرر بالأخرين، ويختص عادة بالتنبوء بالمستقبل او العلاج والتداوي، أما الأسود فيهدف إلى إلحاق أذي بالاخرين وتحقيق مصلحة شخصية، بينما ينتشر اعتقاد لدى الكثيرين بأن هذا التقسيم يأتى تبعاً للأدوات التى يستخدمها الساحر لأداء ممارساته السحرية المختلفة. 

هنا يجب الانتباه إلى أن تحديد النفع والضرر يكون من وجهة نظر طالب السحر، لذا فهو يرى النفع فيما يتوافق مع تحقيق ما يسعى إليه من أهداف، دون الانتباه إلى أن هذه الأهداف قد تتعارض مع مصالح الغير، لذا لا يمكننا أن نقر بأن هناك سحر يهدف إلى الخير بشكل مطلق. هذا ويلجأ الأفراد إلى السحر الشعبى الذى توارثوه عبر الأجيال كمرحلة أولى لتحقيق أهدافهم المختلفة، فإذا فشلت فى تحقيق الغرض منه، لجؤا إلى السحر الاحترافى، هنا يمكننا القول بأن استمرار السحر وما يرتبط به من ممارسات مختلفة يأتى كنتيجة طبيعية لما يؤديه للأفراد من وظائف مختلفة يشبعون بها بعض احتياجاتهم الاجتماعية والنفسية، نتبين من ذلك أن السحر وظيفة اجتماعية تعتمد على بعض الطقوس الخاصة لجلب الخير أو الحاق الأذى. ويرتكن أى عمل سحرى على ثلاثة أركان هى:

التعويذة: وهى الصيغة اللفظية التى يتلوها الساحر عند القيام بعمله، وقد اتصفت بالجمود فهى غير قابلة للتحول، وتعد أهم أركان العمل السحرى ورمز القوة الفاعلة فيه، تلك القوة التى تنحصر فى صيغتها اللفظية وتنطلق معها من فم المتكلم غير مبالية بشخصيته ولا بمن تُتلى من أجله سالكة طريقاً ذاتياً لا عودة منه، ويشير مدلول التعويذة دائماً إلى الغاية المطلوبة إما بالتشبيه أو بالاستعارة أو بتوافق الأصوات، وفى بعض الأحيان تخضع تلاوة التعاويذ لتقاليد مستمدة من خواص الأرقام السحرية (3، 5، 7)، وقد تقترن تلاوتها بالتسبيح على العقد المربوطة على الحبال أو الأقمشة أو باستعمال الزيوت أو الماء أو بطقوس أخرى.

الطقوس: تتمثل هذه الطقوس فى حركات معينة يقوم بها الساحر أثناء عمله، عادة ما تصحب تلاوة التعاويذ وتعززها وإن كانت فى بعض الأحيان تشكل ركن أساسى فى السحر، تُبنى هذه الطقوس على القياس، أى على الاعتقاد بأن قوة الساحر تحول الشبه إلى حقيقة، كما أنها منوعة فإما أن تستخدم الحركة وسيلة لنقلها لمن تُتلى من أجله، وقد يقوم الساحر بلون من التمثيل يتناول فيه الأمر المطلوب لضمان حدوثه، مع الاستعانة ببعض المواد لما تتمتع به من خواص طبيعية، ومنها عقاقير تُحدث انفعالات فى نفس مستخدمها كالوسوسة والتخيلات البصرية وتهيجات وتغيرات فى الشخصية تشبة الهستيريا، يفسرها العميل بأنها نتيجة لحلول القوى أو الأرواح بالساحر، والتعامل مع هذه المواد وكيفية تحضيرها محاط بالسرية التامة.

الساحر: ركن أساسى من أركان السحر الاحترافى، إذ يمثل رمزاً لتلبية مجموعة من حاجات ورغبات عملائه، فإذا فشل فى تحقيق هذه الحاجات فلن يكون لوجوده معنى، فهو العامل الأهم والأكبر لترسيخ الاعتقاد فى السحر والعمل على بقائه واستمراره، هذا ويُطلق الأفراد لقب "الشيخ" للإشارة إلى الساحر، لكونه يمتلك من القدرات ما يُمكنه من إيجاد حلول لبعض مشكلاتهم التى لم يجدوا وسيلة لحلها إلا من خلاله، ويعكس هذا اللقب مدى اللبس الذى يعترى ذهن عملاء السحر، والناتج عن الخلط بين المهام التى يقوم بها كلاً من"الشيخ"- رجل الدين- الساحر، وقد يرجع هذا الخلط لعدم قدرة الأفراد على التفرقة بين الشيخ والساحر، لتداخل أفعال الساحر وممارساته فى بعض الأحيان مع ما يقوم به الشيخ، من حيث قدرته على توظيف القرآن واستخدامه فى بعض أغراضه، هذا ويشترك الذكور والإناث فى ممارسة السحر، ويختلف السحرة فى درجات تعليمهم فنجد منهم الأمى والملم بالقراءة والكتابة وقد ظهر مؤخراً الساحر الحاصل على بعض الدرجات العلمية، ويلجأ الأفراد إلى امتهان السحر وممارسته لعدد من الدوافع أهمها اكتساب مكانة خاصة داخل مجتمعهم، ورغبتهم فى السيطرة على الأفراد، وتُعد الوراثة من أكبر العوامل التى تدفع إلى مزاولة السحر، هذا إلى جانب العامل الاقتصادى الذى يعد دافعاً أساسياً للكثير من ممارسى السحر، وما من شك فى أن الساحر يشعر دائماً بأنه مميز عن غيره من الأفراد لما يتمتع به من قوة شخصية وقدرة على التأثير فى عملائه وإقناعهم بأنه متصل بقوى غيبية عليا -الجن- تساعده فى تحقيق أهدافهم.

إلا أننا فى كثير من الأحيان خاصة فى وقتنا الحاضر نجد بعض ممارسى السحر وعملائه يغلفونه بغلاف الدين، للتهرب من النقد الاجتماعى والاتهام بالجهل، من هنا نتبين أن ثمة علاقة تربط بين السحر والدين، تتبلور هذه العلاقة فى كون الدين يُشكل منظومة من العقائد النظرية والشعائر العملية التى تتلازم فيما بينها وتتصل بعمق، ونكاد نلمح فى شكلى الدين العملى والنظرى كافة الأشكال العقائدية والروحية التى سبقت الدين مثل العبادات البدائية والسحر والأساطير خصوصاً فى الأديان الوثنية، أما الأديان التوحيدية فتعبر عن شكل روحى أرقى وأعظم، أما السحر فهو علم الرجل البدائى الذى يتحدد بمدى معرفته بأسرار الكون وظواهر الطبيعة بينما ينشأ الدين من أصول مختلفة عن الأصول التى يقوم عليها السحر، فالدين يشترط الإعتقاد فى الكائنات الروحية أو الإلهيه والأرباب، بينما يتألف السحر من الأعمال والممارسات والشعائر التى تتصل بالكائنات الأخرى.

والواقع أن الدين والسحر كانا مختلطين أشد الإختلاط فى ممارسات القبائل البدائية، إلا أن الأمر يختلف إذاء الأديان الناضجة التى استطاعت أن تٌفرق بين مملكة الله ومملكة الشيطان، وبين ما يتعلق بالدين وما يتعلق بالسحر، بيد أن الكثير من الممارسات الدينية لدى بعض الأفراد التابعين للأديان الناضجة يمارسون بها السحر بغير وعى من جانبهم.

هذا والسحر والدين كانا يؤديان عملاً مكملاً للطب لا مناقضاً له وكانا يمضيان بانسجام، إلا أن بعض العصور حفلت بصعود أحدهما على حساب الأخر وبشكل يبدو متناوباً، لذا يمكننا القول بأن أحدهما كان يُحفز الأخر وينشطه، فهما يتشكلان أساساً من مقومين يشتركان فيهما على حد سواء، الأول هو الاعتقاد فى كائنات علوية غيبية لها اتصالات على نحو أو أخر بالإنسان سواء بطريق مباشر كأن تكون متجسدة فى شكل انسان أم فى هيئة حيوانية أو بعض الجوق كالكواكب أو العناصر، وقد تكون هذه الاتصالات غير مباشره بواسطة بعض المقربين كالأنبياء أو الملائكة، أما المقوم الثانى فيهما فهو الطقوس التى تُمارس بشكل جمعى أو فردى.

ويتشابه السحر والدين فى نشأتهما إذ ينشئا من الضغط العاطفى والشعور بالأزمات، بينما يرجع الاختلاف بينهما إلى سيطرة الدين على عالم ما فوق الطبيعة بالإيمان والآلهة والأرواح كما أن أساسه أخلاقى، بينما السحر أساسه الطقوس والتمائم وقد تكون أهدافه خيرة أو شريرة.

وعلى هذا فالعلاقة بين السحر والدين تتميز بحالة من الصراع الدائم والمستمر، لرغبة كل منهما فى السيطرة على العقل البشرى وتنحية الأخر جانبا، إلا أن الاعتقاد فى السحر والإيمان به جاء كنتيجة طبيعية لقدرته على حل بعض المشكلات والإجابة على بعض التساؤلات التى لم يستطيع الدين تقديم اجابات لها، حيث تمكن السحر من تحقيق رغبات الأفراد التى فشلت الأديان فى تحقيقها والتى تتمحور فى السحر العلاجى والحصول على الحماية، فى محاولة لتهدئة المخاوف الناتجة عن الإضطرابات التى أفرزتها تحولات الزمن الراهن، هنا يمكن اعتبار السحر مطمئناً للإنسان لأنه يمنحه الاعتقاد بأنه قد تعرف على أسباب معاناته وفى إمكانه معالجتها.

مما سبق يمكننا القول بأن وجود موروث ثقافى بالإضافة إلى الاعتقاد فى عالم الغيبيات، بجانب توفر شخص لديه رغبة كامنة فى تحقيق هدف فشل فى تحقيقه بالوسائل الشرعية والطبيعية فلجأ إلى السحر لتحقيقه، مع توفر ساحر لدية من الحنكة والذكاء والقدرة على اكتساب ثقة الأفراد والسيطرة عليهم من خلال الإيحاء حتى يتمكن من توجيه سلوكهم إلى الوجهة التى يريدها، هذه العوامل متضافرة لابد أن تؤدى فى النهاية إلى استمرار المعتقد السحرى.


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @