العدد 957 صدر بتاريخ 29ديسمبر2025
يصل كتاب «مسارح الطبيعة» إلى القارئ العربى ليس بوصفه نصًا مترجمًا فحسب، بل بوصفه حدثًا ثقافيًا يعكس رؤية عميقة لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الثانية والثلاثين لعام 2025، وهو مهرجان اعتاد أن يقدّم للعالم العربى منجزات فكرية تفتح آفاقًا جديدة فى النظر إلى الفن المعاصر. الكتاب، الذى حرّرته ناتالى كوتيه وفالنتينا بونزيتو ومارى كارولين تويلييه، وترجمه إلى العربية محمد سيف وعمر فرتات، يأتى كجزء من سلسلة معرفية تسعى إلى إعادة تعريف علاقة المسرح بالطبيعة، وإلى إحياء وعى نقدى بالفضاءات المفتوحة كمسارح تحتضن التجربة الإنسانية خارج القاعات المغلقة. منذ الصفحات الأولى يتضح أن الكتاب لا يعيد فقط سرد تاريخ العروض فى الهواء الطلق، بل يعيد بناء سياق فلسفى وجمالى يجعل من الطبيعة شريكًا حقيقيًا فى الفعل المسرحى, فالمقدمة تشير بوضوح إلى أن المسرح، شأنه شأن كل الفنون، لم يعد قادرًا على تجاهل التغيرات المناخية والاضطرابات البيئية، وأن العلاقة بين الفن والبيئة لم تعد علاقة سطحية أو تجميلية، بل علاقة جوهرية تُعيد تشكيل اتجاهات الإخراج والسينوغرافيا، وتغيّر طبيعة المواد المستخدمة على الخشبة، وتفرض مقاربات جديدة فى مفهوم المتلقى وطرق اندماجه داخل المكان. وهكذا يصبح المسرح حين يعود إلى الطبيعة، وفق رؤية الكتاب، ليس مجرد انتقال مكانى بل عودة إلى أصل الفعل الدرامى نفسه.
تستحضر مارى كارولين تويلييه، المؤرخة المتخصصة فى تاريخ الحدائق والمناظر الطبيعية، مشهدًا بديعًا يعكس جوهر هذا التحول: طفلة حضرت عرضًا مسرحيًا فى كاوتيريتس، فسألت أمها «أين هى الطبيعة؟» لتجيب الأم: «إنها فى كل مكان». هذه الجملة البسيطة تبدو، عند قراءة الكتاب، إعلانًا فلسفيًا أكثر منها واقعة عابرة، إذ تكشف عن معنًى عميق مفاده أن الطبيعة ليست مجرد خلفية للعرض، بل فضاء شامل يحيط بالإنسان والمسرح ويتداخل معهما. ومن هذه اللمحة تنطلق رحلة تحليلية تتتبّع تاريخ مسارح الهواء الطلق منذ الحدائق الملكية فى أوروبا، مرورًا بمسارح الريف والمسارح المؤقتة فى القرن التاسع عشر، وصولًا إلى المهرجانات الكبرى فى القرن العشرين، ثم التجارب المعاصرة التى جعلت من الطبيعة نصًا دراميًا متكاملًا لا مجرد إطار.
يبيّن الكتاب أن مسارح الطبيعة ليست «ظاهرة حديثة» كما يظن البعض، وإنما امتداد تاريخى بدأ منذ أن كان المسرح فعلًا اجتماعيًا يُقام فى الساحات المفتوحة، قبل أن تتحول القاعات المغلقة إلى الشكل المعيارى للعروض. فى القرنين السابع عشر والثامن عشر نرى أمثلة على حدائق صُممت بعناية لتصبح مسارح نباتية، حيث تستبدل الجدران بأسوار من الطقسوس، وتُصاغ الخلفية من تشكيلات هندسية من الأشجار والشجيرات. هذه المسارح، رغم جمالها، كانت قائمة على رؤية إنسانية مسيطرة تحاول تشكيل الطبيعة وفق إرادة المصمّم. غير أن أوروبا لم تظل على هذا النحو؛ فمع الانتقال إلى الحدائق ذات الطابع الإنجليزى ظهر اتجاه جديد يعيد للطبيعة حرّيتها، ويترك للأشجار والمسطحات الخضراء حقها فى أن تنمو بشكل طبيعى, ومع هذا التحول ظهرت مسارح أكثر تلقائية، تتناغم مع المكان بدلًا من إعادة تشكيله، وهى اللحظة التى بدأ معها مصطلح «مسرح الطبيعة» يأخذ مكانه فى الكتابات النقدية وفى الممارسة المسرحية.
وتتوسع الفصول التاريخية فى تحليل العلاقة المعقّدة بين الإنسان والطبيعة داخل المسرح. فمع بداية القرن العشرين، ازدادت العروض التى تقام فى الهواء الطلق، وبدأ المخرجون يبحثون عن أماكن ذات قيمة بصرية وجمالية، لا لتكون خلفية ساكنة، بل لتكوّن جزءًا من المعنى. ويعرض الكتاب شواهد متعددة على هذه التحولات، مثل العروض التى أعادت إحياء المسرح القديم فى أورانج، أو التى أقيمت على سفوح الجبال أو فى بساتين باجاتيل، أو تلك التى نشأت فى الريف الفرنسى كنوع من الاحتفال الجماعى, ومع الوقت أصبحت مسارح الطبيعة مساحة ديمقراطية تستقبل جمهورًا من طبقات مختلفة، على عكس المسارح التقليدية التى كانت محكومة بالامتياز الاجتماعى والاقتصادى, إنّ التحول من الحدائق الملكية إلى المهرجانات الجماهيرية يكشف عن نزعة عميقة فى المسرح: الرغبة فى العودة إلى الفضاء العام، إلى اللقاء المباشر بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمكان.
ويتوقف الكتاب عند تجارب خاصة مثل مهرجان حصاد العنب فى بوردو عام 1909، الذى يقدّم مثالًا مدهشًا على كيفية مزج الطبيعة بالدراما فى حدث واحد. فقد كان المهرجان احتفالًا جماهيريًا ضخمًا، تُقام فيه عروض الأوبرا والرقص والمواكب الشعبية فى فضاء مفتوح يتداخل فيه صوت الريح مع صوت الموسيقى، وتبدو فيه الأرض نفسها جزءًا من الحكاية. وتكشف الوثائق التى يستعرضها الكتاب عن مدى التنظيم الدقيق لهذه المهرجانات: قطارات خاصة، سفن صغيرة لنقل الجمهور، مرشدون، جموع غفيرة تقصد المكان، ومدن بأكملها تتحول إلى مسرح واحد. وكلّ هذا يوضح كيف تجاوز مسرح الطبيعة حيز العرض، ليصبح مجالًا اجتماعيًا وثقافيًا واسعًا يعيد تشكيل علاقة الناس بالاحتفال والطقس والمكان.
أما التحليل الفلسفى والجمالى فيُظهر كيف يتحول المسرح، خارج الجدران، إلى تجربة حسية كاملة. فالإضاءة لم تعد تحت سيطرة فنى الإضاءة، بل تابعة لحركة الشمس والغيوم. والصوت لا تُحدده الأجهزة بل تحدده حركة الريح وهسيس الأوراق ونداء الطيور. والزمن نفسه يصبح عنصرًا دراميًا متغيرًا، فالعرض فى لحظة غروب ليس هو العرض فى لحظة ليل، والضباب إذا هبط يتحول إلى عنصر حى داخل المشهد. وهكذا يصبح الممثل مضطرًا إلى التفاعل مع الطبيعة، والتأقلم مع سلطتها، لا التغلب عليها. هذا التفاعل يجعل العرض هشًا، لكنه يمنحه صدقًا لا توفره القاعات المغلقة. فهو عرض يولد مرة واحدة، ولا يمكن استعادته بنفس الشكل.
ويبلغ التحليل ذروته حين يناقش الكتاب تأثير الأزمة المناخية العالمية على الممارسة المسرحية. فالمسرح البيئى لم يعد مجرد خيار جمالى بل خيار أخلاقى وفلسفى يهدف إلى تقليل الأثر البيئى للعروض، سواء عبر استخدام مواد قابلة لإعادة التدوير، أو عبر تقليص الاعتماد على الكهرباء، أو عبر احترام المكان وعدم الإضرار بنظامه البيولوجى إنّ هذا البعد البيئى لا يجعل المسرح أقل جمالًا، بل يجعله أكثر مسئولية، ويمنحه بعدًا إنسانيًا جديدًا يتوافق مع حساسية العصر. ومن هنا يتضح سبب اهتمام مهرجان القاهرة التجريبى بنشر هذا الكتاب، فالمهرجان أراد أن يذكّر بأن المسرح العربى ليس معزولًا عن قضايا عصره، وأنه قادر على إعادة التفكير فى علاقته بالأرض والمكان.
وبذلك يغدو كتاب «مسارح الطبيعة» عملًا مركبًا، يجمع بين التاريخ والنقد والفلسفة، ويعيد تقديم المسرح لا كفنّ يعتمد على المنصة، بل كحدث كونى كامل يعيد الإنسان إلى مواجهة العالم بلا حواجز. وبقدر ما يستعرض الكتاب نماذج وتجارب، فإنه يكشف أيضًا عن شعور عميق بالحنين: حنين إلى مسرح يولد من الأرض، ويعيش فى الهواء، ويستمدّ قوته من العناصر الطبيعية التى لطالما كانت جزءًا من الوجود الإنسانى, وفى هذا الإطار يمكن القول إن الجزء الأول من هذا المقال ليس سوى مقدمة لرحلة طويلة يقترحها الكتاب، رحلة تعيد تعريف الفن من جذوره، وتطرح سؤالًا كبيرًا: ماذا يعنى أن يعود المسرح إلى الطبيعة، وماذا يعنى أن تعود الطبيعة إلى المسرح؟
حين نمضى أعمق فى قراءة كتاب «مسارح الطبيعة»، نكتشف أن الفكرة لا تتوقف عند مفهوم انتقال العروض من القاعة إلى الخارج، بل يتطور الطرح ليغدو دراسة معقّدة وممتدة لتاريخٍ طويل من التفاعل بين الفن والبيئة، بين الخيال الإنسانى والمشهد الطبيعى الذى يحتضنه. فالكتاب، فى نصوصه المترابطة، يدفع القارئ إلى إدراك حقيقة أن المسرح لم يكن يومًا مجرد منصة معزولة، بل كان دائمًا انعكاسًا لعلاقة الإنسان بالكون، ومرآة تلتقط تغيرات المجتمعات، وتحولات الذوق، وتبدّلات الفضاء العام. ومع كل فصل يمر، تتضح صورة كبرى يجمعها المؤلفون: صورة مسرحٍ ينشأ من الأرض نفسها، ويتنفس من هوائها، ويكتسب طبيعته من شكل تضاريسها.
تقدّم الفصول التاريخية التى يتناولها الكتاب مادة غنية عن تدرّج ظهور مسارح الطبيعة فى أوروبا، لا بوصفها ظاهرة جمالية منفصلة، بل بوصفها امتدادًا مباشرًا لنهضة الاهتمام بالآثار الكلاسيكية. ففى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهدت أوروبا حماسًا غير مسبوق لإقامة عروض فى المسارح الرومانية واليونانية القديمة، وبخاصة بعد الاكتشافات الأثرية الكبرى مثل حفريات ميسينا وكنوسوس. هذه الاكتشافات لم تكن مجرد لحظات علمية، بل كانت شرارات أشعلت خيال المخرجين، الذين وجدوا فى الأطلال القديمة مسرحًا جاهزًا يعيد ربط الحاضر بالماضى, وهكذا بدأت عروض «أوديب ملكًا» و«الطرواديات» و«الفرس» تُقدَّم فى الهواء الطلق داخل مواقع أثرية، حيث يتجاور النص القديم مع صمت الحجارة وكثافة التاريخ، وتتحول الطبيعة إلى جزء من ذاكرة جماعية يتشاركها الممثلون والجمهور.
ويؤكد الكتاب أن هذه العودة إلى العصور القديمة أسهمت فى ولادة أشكال هجينة من الفضاءات المسرحية، تتراوح بين «المسرح الطبيعي» و«المسرح القديم»، بحيث تُبنى مدرجات جديدة على شكل مدرجات رومانية، أو تُنشأ حدائق تحاكى الطراز الإغريقى, لكن هذه الأشكال، رغم تشابهها، كانت تخفى اختلافًا جوهريًا: فالمسرح الطبيعى لا يستنسخ الماضى، بل يتكئ عليه ليخلق رؤية جديدة، بينما المسرح القديم يستعيد التراث ليعيد تقديمه كما كان. هذا التوتر بين الاستعادة والتجديد كان أحد دوافع تطور مسارح الطبيعة فى أوروبا، وأحد أسباب تنوّعها بين فضاءات ضخمة تجذب الآلاف، وفضاءات بسيطة لا تتجاوز كونها ساحة عشبية مفتوحة على الأفق.
ويتوقف الكتاب عند ظاهرة أخرى شديدة الأهمية: صعود المسارح الصيفية فى المدن الأوروبية، ولا سيما فى فرنسا. ففى القرن التاسع عشر، ومع انتشار المتنزهات العامة وتزايد الطبقة الوسطى، بدأ الناس يبحثون عن ترفيه رخيص وواسع، لا يتطلب ملابس رسمية أو تذاكر باهظة. وهكذا انتشرت المسارح الخشبية المؤقتة، التى تُقام فى الحدائق خلال أشهر الصيف، وتقدم عروضًا غنائية أو تمثيلية تجمع بين الترفيه والجمال، فى هواء مفتوح يتيح للجمهور من مختلف الطبقات أن يلتقوا فى مكان واحد. وتُعد تجربة مسرح ديجون الصيفى مثالًا واضحًا لهذا الاتجاه، إذ يكشف الكتاب أن إدارته كانت تتسم بروح تجارية واضحة تسعى إلى الربح، لكن ذلك لم يمنع المسرح من تقديم عروض ذات جودة، شكّلت جزءًا مهمًا من المشهد الفنى للمدينة.
ورغم هذا الطابع التجارى لبعض المسارح الصيفية، فإن الكتاب يوضّح أن جزءًا كبيرًا من مسارح الطبيعة كان مدفوعًا برغبة فنية خالصة فى كسر الحدود بين النص والمكان. فمسرح الطبيعة لا يقدّم عرضًا يعتمد على الهندسة المسرحية المعهودة، بل يجعل من المكان نصًا موازيًا، ومن طبيعة الأرض جزءًا من السينوغرافيا. وهذا ما يفسّر، كما يبيّن الكتاب، انتشار العروض التى تقوم على استثمار التضاريس كما هي: المنحدرات تصبح مدرجات، الأشجار تتحول إلى ستائر حيّة، والماء يصبح جزءًا من المسرحية كعنصر سمعى وبصرى, هذه الطريقة فى التفكير حولت الطبيعة من «ديكور» إلى «فاعل»، وجعلت كل عرض مختلفًا عن الآخر لأنه يتغيّر مع تغيّر البيئة نفسها.
وتزداد الصورة ثراءً حين يعرض الكتاب جانبًا اجتماعيًا كان ذا تأثير كبير على مسار مسارح الطبيعة: دور النساء فى هذه الظاهرة. ففى بداية القرن العشرين، كان دخول المرأة إلى الساحة المسرحية الأوروبية محفوفًا بالعقبات، لا سيما فى مجال التأليف والإخراج، لأن المسارح التقليدية كانت محكومة بقواعد ذكورية صارمة. غير أن مسارح الطبيعة، بما أنها كانت مفتوحة وغير رسمية، منحت النساء مساحة للمشاركة، وسمحت لعدد من الكاتبات أن تُعرض أعمالهن لأول مرة. وبذلك أصبحت الطبيعة، من حيث لا تقصد، فضاء للتحرر الجمالى والفكرى، وأداة لتغيير البنى الثقافية السائدة.
ويمضى الكتاب بعد ذلك إلى تحليل علاقة مسارح الطبيعة بحركة التمدّن. ففى الوقت الذى كانت فيه المدن الأوروبية تكبر وتتسع، ويزداد فيها البناء الحجرى، بدأ المسرح يشعر أنه يفقد شيئًا من حرارته، من روحه الأولى. وهكذا أصبح اللجوء إلى الطبيعة نوعًا من المقاومة الهادئة للتمدّن المفرط، ومحاولة لإعادة ربط الإنسان بالعنصر الحى الذى تهدده المدن الحديثة. وقد لعبت المهرجانات الكبرى دورًا مهمًا فى هذا الاتجاه، إذ أصبحت السياحة الثقافية جزءًا من اقتصاد المدن، وصارت العروض فى الهواء الطلق طريقة لإحياء المواقع التاريخية والطبيعية من خلال الفن.
وتبلغ التجارب التى يعرضها الكتاب ذروتها حين يتناول بعضها فى أمثلة محددة مثل عروض «بساتين باجاتيل» التى امتزج فيها الطابع الاحتفالى مع روح الطبيعة، والعروض التى أقيمت فى المقابر أو الجزر المعزولة، والعروض التى استوحيت من المشى فى الغابات، أو من مدّ الجسور بين الفنون المختلفة كالرقص والغناء والسرد. هذه التجارب تكشف أن مسارح الطبيعة لم تكن مجرد «عودة إلى الطبيعة»، بل كانت أيضًا محاولة لابتكار طرائق جديدة للفرجة والمشاركة، حيث يصبح الجمهور جزءًا من العرض، لا مجرد متلقٍ صامت.
أما الجانب الفلسفى فى الكتاب فيتجلى فى تحليل العلاقة بين الطبيعة والزمن. فالعروض فى الهواء الطلق محكومة بزمن لا يتحكم فيه الإنسان: الليل يأتى دون استئذان، السحب قد تحجب الضوء، الريح قد تقطع الحوار، والمطر قد يؤجل العرض بأكمله. يقول الكتاب إن هذه العناصر ليست عيوبًا، بل «علامات الحياة» التى تجعل المسرح أكثر صدقًا. فالفنان لا يهرب من الطبيعة، بل يحتضنها، ويحوّل غير المتوقع إلى جزء من اللعبة المسرحية. وبذلك يصبح العرض أشبه بحوار حى بين الإنسان والعالم.
ويتطرق الكتاب كذلك إلى التحوّل البيئى الذى أصبح جزءًا من التفكير المسرحى فى العقود الأخيرة. فقد بات الالتزام بالاستدامة شرطًا من شروط العمل الفنى، وأصبحت الأسئلة البيئية جزءًا من الدراماتورجيا نفسها: كيف نبنى خشبة لا تؤذى التربة؟ كيف نحمى النباتات المحيطة؟ كيف نقلل النفايات؟ وكيف نجعل من العرض تجربة مسؤولة تجاه المكان؟ هذه الأسئلة، كما يوضح الكتاب، ليست هامشية، بل هى جزء من فكر جديد يعيد صياغة دور المسرح بوصفه فنًا يعيش داخل العالم لا خارجه.
وفى جميع هذه التحليلات، يظلّ الكتاب متماسكًا فى رؤيته الكبرى: أن مسارح الطبيعة ليست مجرد عودة إلى الماضى، بل هى جزء من مستقبل المسرح. فهى تمثل رغبة إنسانية فى استعادة البساطة دون التفريط بالعمق، وفى مواجهة العالم من دون حواجز، وفى جعل الفن تجربة حيّة لا فصل بينها وبين الأرض التى تقف عليها. ومع كل فصل، يشعر القارئ أنّ الكتاب لا يدرس الظاهرة فقط، بل يشارك فى صناعتها، ويعيد طرح سؤال جوهرى: هل يمكن للمسرح أن يجد خلاصه فى الطبيعة؟ وهل يمكن للطبيعة أن تُعيد إلى المسرح روحه الأولى؟
حين يبلغ القارئ المراحل الأخيرة من كتاب «مسارح الطبيعة»، يشعر بأنه لم يقرأ مجرد دراسة أكاديمية باردة، بل شارك فى رحلة فكرية وأحاسيسية طويلة، رحلة أعادت تشكيل رؤيته للمسرح، وللطبيعة، وللعلاقة بين الفن والوجود. ففى الأجزاء الختامية يتعمق المؤلفون فى تحليل التجارب المعاصرة التى استعادت مسارح الطبيعة، لكنها لم تفعل ذلك بدافع نوستالجيا رومانسية نحو الماضى، بل باعتبارها جزءًا من مشروع ثقافى يتعامل مع التغيرات البيئية والاجتماعية التى يعيشها العالم اليوم. وهكذا يقدم الكتاب رؤية ناضجة تفهم الطبيعة لا كفضاء خارجى بل ككائن متفاعل، له ذاكرته وإيقاعه وخصوصيته، وعلى المسرح أن يتعامل معه كطرف أصيل فى العمل الفنى.
تسلط الفصول الأخيرة الضوء على تجارب مسرحية معاصرة جعلت من الطبيعة شريكًا حيًا لا يمكن توقعه. فهناك عروض تعتمد على المسير داخل الغابات، حيث ينتقل الجمهور من مشهد إلى آخر وفق مسار طبيعى غير مُعدّ مسبقًا، ما يجعل من الطريق نفسه عنصرًا دراميًا. وهناك عروض تستخدم ضوء القمر أو انعكاسات الماء أو حركة المد والجزر لتشكيل بنية العرض، بحيث يصبح الزمن الكونى هو المخرج الحقيقى, كما يعرض الكتاب تجارب تتبنى فكرة «المشهد المتغيّر»، حيث يتفاعل العرض مع الظروف الطارئة، فيُعاد تشكيل الحوار أو الحركة استجابة لهبوب الريح أو تغير مستوى الضوء، فيتحول العرض إلى فعل حى يكتب نفسه لحظة بلحظة. هذه التجارب، كما يبين الكتاب، لا تبحث عن الكمال التقنى، بل عن الصدق الوجودى، حيث تصبح هشاشة العرض جزءًا من قوته.
ويمضى الكتاب إلى تحليل مفهوم «الإنسان–الطبيعة» بوصفه محورًا للتجارب الجديدة. ففى الوقت الذى يعيش فيه الإنسان المعاصر حالة اغتراب عن الأرض بفعل المدن الأسمنتية والتكنولوجيا المتسارعة، يعود المسرح ليمنح الإنسان فرصة لإعادة التواصل مع الجذور. وهنا تكمن قيمة مسارح الطبيعة: فهى لا تقدم الطبيعة كموضوع فرجوى، بل كمساحة للمعايشة، حيث يتنفس الجمهور الهواء نفسه الذى يتنفسه الممثلون، ويشعرون ببرودة الليل نفسها، ويتشاركون إحساسًا جماعيًا لا يمكن توليده داخل القاعات المغلقة. وهذا الإحساس الجماعى هو ما يعيد للمسرح أحد أهم أدواره: بناء العاطفة المشتركة.
ويتناول الكتاب فكرة «المسئولية البيئية» بوصفها جزءًا من الممارسة المسرحية الحديثة. فالعروض فى الطبيعة لا يمكن أن تكون امتدادًا لأساليب الإنتاج التقليدية التى تعتمد على الديكورات الضخمة والاستهلاك المفرط للموارد. بل إن المسرح الطبيعى يدفع الفنانين تلقائيًا إلى البحث عن مواد خفيفة وعضوية، وإلى تقليل البصمة البيئية للعروض، وإلى التفكير فى الطرق التى يمكن بها للعمل الفنى أن يحمى المكان بدلًا من أن يستنزفه. هذه المسؤولية، كما يكشف الكتاب، تحوّلت من خيار أخلاقى إلى جزء من فلسفة الإخراج نفسها، حيث يدرس المخرجون دورة حياة المواد المستخدمة، ويضعون خططًا لاستعادة المكان بعد انتهاء العرض، وكأن العمل المسرحى لا يكتمل إلا بتحقيق توازن بين الفن والبيئة.
ويستعرض الكتاب كذلك التحولات الثقافية التى أدت إلى انتشار فكرة المسرح البيئى فى العقود الأخيرة. فالمجتمعات الغربية أعادت النظر فى علاقتها بالطبيعة بعد الأزمات المناخية، ونشأت حركة ثقافية واسعة تُعرف بـ«التحول الإيكولوجى»، وما يتفرع عنها من مجالات مثل الأدب البيئى والفن المستدام والعمارة الخضراء. وضمن هذا السياق، أصبح المسرح الطبيعى ليس اتجاهًا فنيًا فقط، بل جزءًا من حركة فكرية ترى أن الفن يمكن أن يساهم فى خلق وعى جديد تجاه الأرض. وهكذا يضع الكتاب مسارح الطبيعة داخل أفق فلسفى متشعب، يربط بين الأداء، وعلم البيئة، والأنثروبولوجيا، والدراسات الحضرية، بل وبين الروحانيات المعاصرة التى تبحث عن علاقة أكثر صفاءً بين الإنسان والعالم.
وفى تحليل دقيق لعدد من التجارب الفرنسية المعاصرة، يكشف الكتاب أن المسرح فى الطبيعة لم يعد يعتمد على النص بوصفه مركز العرض الوحيد، بل على الجسد، والحركة، والإيماءة، والصوت الطبيعى، وإيقاع المكان. ففى عروض الغابات، يتخذ الممثلون من الجذوع منصات، ومن الصخور ملامح سينوغرافية، ومن أصوات الحيوانات جزءًا من موسيقى العرض. وفى عروض الشواطئ يتحول خط الأفق إلى خلفية طبيعية، ويتغير معنى المشهد مع تغيّر الخلفية المائية التى لا تكف عن الحركة. وفى الجزر المنعزلة يصبح العزلة عنصرًا دراميًا، بينما يتحول الفراغ الواسع إلى مساحة للخيال. هذه الأمثلة ليست مجرد تجارب جمالية، بل هى محاولات لتوسيع مفهوم المسرح نفسه؛ بحيث يصبح قادرًا على احتضان الطبيعة بدلًا من ترويضها.
ويصل الكتاب فى أحد أهم تحليلاته إلى فكرة «الأسطورة الجديدة للطبيعة». ففى عالم يزدحم بالضجيج والتلوث والسرعة، بدأت الطبيعة تستعيد دورها الرمزى كملاذ وحكمة ومصدر للمعنى. وتستثمر الكثير من العروض هذه الرمزية لتعيد بناء علاقة الإنسان بالعناصر الأربعة: الأرض، الهواء، الماء، النار. إذ يعود المسرح، فى هذه الفضاءات، إلى منطقة تشبه الطقس الدينى القديم، حيث يلتقى البشر حول حدث حى يشترك فيه الصمت والضوء والريح، وتُقام تجربة تتجاوز حدود الترفيه لتصل إلى حدود التأمل. ويذهب الكتاب إلى أن هذا التحول ليس مجرد ميل رومانسية، بل تعبيرًا عن حاجة إنسانية عميقة لإعادة بناء «الحس الكونى» الذى فقده الإنسان الحديث.
ويتطرق الكتاب فى نهاياته إلى العلاقة بين مسارح الطبيعة والفضاءات الحضرية. فحتى داخل المدن، بدأت تظهر تجارب تحاول استعادة الطبيعة من خلال عروض تقام فى الحدائق العامة، أو على ضفاف الأنهار، أو وسط المناطق الخضراء الصغيرة التى بقيت فى قلب المدن. هذه التجارب تشكل محاولة لمقاومة الاختناق الحضرى، وتعيد للمواطنين إحساسًا بأن الطبيعة ليست بعيدة، وأن المسرح قادر على أن يعيد تشكيل علاقة جديدة بين الإنسان والمدينة. وهذا الاتجاه لا يعيد فقط قراءة الفضاء المدينى، بل يعيد قراءة المسرح نفسه بوصفه فنًا يمكنه أن يتكيّف مع ظروف العصر دون أن يفقد جوهره.
وربما يكون أكثر ما يلفت فى الصفحات الأخيرة من الكتاب هو ذلك الربط العميق بين مسارح الطبيعة والهوية الثقافية. فالعروض التى تُقام فى الطبيعة تحمل غالبًا طابعًا محليًا، لأنها تعتمد على المكان بما هو هو، بما يحمله من ذاكرة وتاريخ وجغرافيا. وهكذا يصبح المسرح وسيلة لإحياء التاريخ المحلى، أو لربط الجماعات بموروثها، أو لإبراز جماليات لم تنتبه لها المدينة الحديثة. فالعرض ليس مجرد فعل جمالى، بل يصبح فعلًا اجتماعيًا يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وأرضه.
ويختتم الكتاب رؤيته بتأكيد أن مستقبل المسرح لا يكمن فقط فى التكنولوجيا، بل فى العودة إلى العناصر البسيطة التى شكّلت بدايته: الجسد، والصوت، والأرض، والضوء الطبيعى, فالمسرح، حين يخرج إلى الطبيعة، يستعيد شيئًا من طاقته الأولى: تلك الطاقة التى جعلت الإنسان يقف فى مواجهة السماء ويقص حكايته على الآخرين. وهذا ما يمنح مسارح الطبيعة مكانتها الخاصة فى تاريخ المسرح وفى مستقبله، بوصفها إضافة لا تفنى، وتجربة تعيد للإنسان حسه الكونى,
وبذلك يغلق كتاب «مسارح الطبيعة» دائرته الكبرى: من التاريخ إلى الحاضر، ومن الفضاءات الملكية إلى الغابات المعاصرة، ومن المسرح التقليدى إلى مسرح يتنفس مع العالم. وحين يغلق القارئ صفحات هذا الكتاب، يدرك أنه لا يخرج منه كما دخل، لأن الرؤية التى يقدمها ليست مجرد معرفة بل تجربة وجودية. إنّ هذا الكتاب، بإصداره العربى الذى جاء عبر مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، يضيف إلى المكتبة المسرحية العربية منظورًا جديدًا يدعو المبدعين والباحثين والجمهور إلى إعادة التفكير فى معنى المسرح ودوره، وفى علاقتهم بالأرض التى يقفون عليها، وفى إمكانية أن يصبح الفن جسرًا بين الإنسان والطبيعة. وهكذا ينتهى المقال، تاركًا السؤال مفتوحًا: هل يمكن للفن أن يعيد إلينا ما سلبه العالم الحديث؟ ربما تكون مسارح الطبيعة إحدى الإجابات الأكثر صدقًا وجمالًا لهذا السؤال.