تُمثل مسرحية «الجبانة» لفرقة الأمل المسرحية (نص الدكتور السيد فهيم) عملًا مسرحيًا معاصرًا يرفض التناول التقليدى لموضوعى الموت واليأس. إن تقديم هذا النص ضمن مهرجان «آفاق» على مسرح الهناجر يؤكد قدرة الفرق الشابة والمدرسية على الانخراط فى معالجة القضايا الفلسفية والاجتماعية الكبرى عبر قالب الكوميديا السوداء. فالمسرحية لا تكتفى بالسرد، بل تتخذ من المقبرة – بما تحمله من قدسية ورهبة – فضاءً مُعقدًا يتحول إلى منصة فضح تُعرّى النفوس الحية وتشرح دوافعها المأزومة، مانحةً النص ثقلًا وجوديًا ودراميًا غير مسبوق. لقد نجح الكاتب فى بناء عالم مسرحى متقشف ومعقد يعكس أزمة الوعى المعاصر. إن التحليل العميق لهذا العرض يتطلب استحضار المنهجين السيميائى والنفسى، بالإضافة إلى تحليل بنيته الدراماتورجية ورؤية المخرج.أولًا: التحليل السيميائي: المقبرة كمختبر اجتماعى للفساد?يعتمد العرض على لغة بصرية كثيفة، حيث تتحول الجبانة إلى علامة سيميائية مركزية لا تدل على نهاية الحياة، بل على قسوتها واستمرار صراعها حتى فى حضرة الأموات. فالديكور، الذى يغلب عليه شكل المقابر الصخرية المُصمتة، ليس مجرد خلفية ثابتة، بل هو رمز للواقع الاجتماعى المُتصلب الذى يهرب منه البطل «وحيد».?دلالة الألوان والإضاءة: يُشكل توظيف الإضاءة والألوان أداة نقدية بامتياز. فالمقبرة يغلفها ضوء أصفر، أزرق، وأخضر مُعتم على الدوام، وهى ألوان توحى بالضبابية، والمرض، أو جو العبث البارد. ويقف على النقيض منها اللون الأسود الذى يكسو «وحيد»، دلالة على يأس داخلى مستسلم، يقارن بـالأحمر الصارخ الذى يغمر خشبة المسرح لحظة دخول المجرمين (لصوص الأكفان والزوجة القاتلة وابنتها). هذا التوظيف هو إشارة درامية مباشرة؛ فالأحمر هنا هو رمز للجريمة المُتفجرة، للدم، وللخطيئة القذرة التى تحدث علنًا. إن عودة الإضاءة الصفراء والزرقاء بعد المشهد الدموى توحى بأن هذه الجرائم، رغم فظاعتها، أصبحت جزءًا عاديًا ومألوفًا من المناخ العام الذى يحيط بالمكان. لقد أثبتت هذه التقنية البصرية قدرتها على تشكيل التلقى العاطفى والأخلاقى للمتفرج.كما تتحول الشخصيات إلى علامات دالة. فالمجنون (المرعب) ليس مجرد شخصية هامشية، بل هو تجسيد سيميائى لهجر العقل فى مواجهة جنون العالم، حيث تخلص من منطقه ليرى البشر كـ»فئران» فى صراع وجودى عبثى. إن هوس المجنون بالبحث عن الفئران هو تعليق ساخر على صغر وبشاعة دوافع الأحياء. أما «الحانوتى وصبيّه» فهما يمثلان الفساد الذى يستغل الموت كمصدر للرزق الآثم، بينما ترمز كل من «حربية» و»صابرين» إلى الحكمة المستخلصة من عتبة الموت، حيث تتحولان إلى أرواح إرشادية تتحدث عن قيمة الصبر والتألم كشرط ضرورى للتعلم.ثانيًا: التحليل النفسى والدرامي: صراع الوجود بين الحياة والموت?تُبنى الحبكة الدرامية فى «الجبانة» على مفهوم الصراع النفسى المقابل للصراع الاجتماعى. فبينما يسعى «وحيد» للانتحار كـفعل عدوانى مُوجه للذات لإيقاف الألم الوجودى، نجد المجرمين يمارسون أفعالهم العدوانية الموجهة للآخرين (القتل، السرقة). يقدم النص مقارنة عميقة:?اغتيال الذات (وحيد): دوافعه فردية وتأتى من الشعور بالاستسلام التام، وهو ما تصفه حربية بـ»الجريمة» التى لا تقل فظاعة عن القتل، مؤكدةً على واجب الإنسان تجاه الحياة. لقد كان يأس «وحيد» انعكاسًا صادقًا لحالة الإحباط التى تعترى شريحة واسعة من الشباب فى مواجهة الانسداد الاجتماعى.?اغتيال الآخر (الزوجة القاتلة): دوافعها اجتماعية ومادية، نابعة من الفقر وسوء المعاملة واليأس من شريك الحياة. هذا النوع من العنف يكشف عن تآكل النسيج الأسرى نتيجة الضغوط المعيشية القاسية.?اغتيال القيمة (لصوص الأكفان): دوافعهم مادية بحتة، تمثل أدنى درجات الانحطاط الأخلاقى، حيث يُجردون الموت من أى قدسية ليصبح سلعة رخيصة.?إن هذا التنوع فى دوافع الشر يخلق نسيجًا نفسيًا معقدًا، يؤكد أن الجبانة جمعت ألوان اليأس البشرى، سواء كان يأسًا وجوديًا أو اجتماعيًا أو ماديًا.تتكشف ذروة الصراع النفسى فى المشهد الختامى، لحظة اكتشاف «وحيد» أن ناصحيه «حربية وصابرين» قد فارقتا الحياة منذ عشر سنوات، وأن القبر الذى أمامه يحمل اسمه. هذا الكشف ليس مجرد مفاجأة، بل هو إدراك مأساوى متأخر بأن قراره بالانتحار كان قد نجح بالفعل، وأن رحلته فى المقبرة كانت مجرد برزخ نفسى أو محاكمة متأخرة للنفس. إنه يعيش حالة موت الوعى قبل موت الجسد، حيث أصبح وجوده مجرد خيال يحيط به القتلة والموتى، وهى خاتمة تضرب بعمق فى الوجدان الوجودى. إن صرخة «وحيد» الأخيرة هى صرخة ندم متأخرة على خيار الخلاص السهل الذى تبين أنه الخسارة الكبرى.ثالثًا:الدراماتورجيا والإخراج: وظيفة الكوميديا السوداء والأداء?تُعد البنية الدراماتورجية للعرض متماسكة بشكل لافت للنظر، حيث تم بناء الحبكة على مبدأ تراكم العبث. فالفضاء الذى اختاره «وحيد» للهروب (الجبانة) يتحول إلى مرآة تكشف له أن العالم الخارجى أكثر جنونًا وشرًّا من عالمه الداخلى، مما يدفعه إلى إعادة تقييم فعله.?وظيفة الكوميديا السوداء: لم يكن النكت أو الضحك فى العرض هدفًا بحد ذاته، بل كان الكوميديا أداة للتغريب. فمشاهد مثل إفاقة القتيل المتكررة، أو المساومات الساخرة بين الحانوتى والزوجة القاتلة، تكسر الإيهام وتجعل الجمهور يفكر فى عبثية الموت نفسه حين يصبح سلعة أو مجرد عارض غير مهم. هذا النوع من الكوميديا يمنع التعاطف السلبى ويدفع نحو التفكير النقدى. إن المزج بين الموت والضحك يمثل اختيارًا دراميًا موفقًا لمعالجة موضوع اليأس دون الوقوع فى فخ المباشرة والوعظ.يجب الإشادة بمستوى الأداء الذى قدمته الفرقة، والذى فاق التوقعات المرتبطة عادة بالمسرح المدرسى. لقد أظهر الممثلون قدرة عالية على الإقناع، خاصة فى تجسيد مواقف الكوميديا النابعة من عمق الموقف المأساوى، مما خلق توازنًا نادرًا بين الجد والتهكم. ومع ذلك، ظهرت بعض التحديات الأدائية فى الأدوار التى تتطلب ثقلًا فى السن والخبرة، مثل شخصية «حربية»، حيث لم يتمكن الممثل من إظهار عمق التجربة التى يفترضها النص لتكون نصيحتها ذات أثر وجودى أكبر، وهى ملاحظة دقيقة تخدم النقد الموضوعى لتكامل عناصر العرض. بشكل عام، نجح الممثلون فى إيصال الشحنة العاطفية والنفسية المطلوبة، مما مكن الجمهور من الدخول بصدق فى عالم المسرحية القاتم.?فى الختام، تُعد مسرحية «الجبانة» إنجازًا فنيًا يجمع بين عمق النص الفلسفى واقتدار الرؤية الإخراجية. لقد نجح العرض فى استخدام كل من السيميائية البصرية (الألوان والرموز) والتحليل النفسى (دوافع الشر واليأس) لتقديم رسالة قوية تتلخص فى دعوة «حربية» وصابرين إلى الصبر والانتظار. فالمسرحية تؤكد أن الحياة، رغم قسوتها، تتطلب الصمود، وأن اختيار الموت هو ليس نهاية للألم، بل هو الانتقال إلى شكل آخر وأكثر عبثية من الوجود؛ فالخلاص ليس فى الهروب من ساحة الصراع، بل فى احتمال ألمها كشرط لازم للتعلم والانتصار النهائى. إن «الجبانة» تترك الجمهور أمام حقيقة مرعبة مفادها أن الاستسلام هو الموت الحقيقى، وأن التمسك بالحياة، مهما كانت مؤلمة، هو واجب وجودى.