يُعَدّ مسرح العرائس واحدًا من أعرق الفنون الشعبية التى ارتبطت بالوجدان الجمعى، إذ عرفته الحضارات القديمة ثم واصل تطوره ليغدو وسيلة للتسلية والتعليم معًا، جامعًا بين البساطة والعمق. ومن هذا المنطلق جاء كتاب «مسرح العرائس بين الواقع والطموحات» للمؤرخ والناقد المسرحى د. عمرو دوارة، الصادر عن مهرجان القاهرة لمسرح العرائس الأول والذى تقيمه أكاديمية الفنون المصرية، ليؤرخ لهذا الفن عبر سبعة فصول ترصد نشأته ومسيرته فى مصر والعالم، وتوثق لأبرز العروض والشخصيات، كما تقدم تحليلات نقدية ورؤى مستقبلية تجعله مرجعًا فكريًا وفنيًا فى مجاله.فى هذا الكتاب يفتح المؤلف د. عمرو دوارة، بوابة واسعة على عالم يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، لكنه فى الحقيقة واحد من أكثر العوالم الفنية ثراءً وتنوعًا. فن العرائس الذى طالما ارتبط فى الذهن الشعبى بالطفولة والبراءة والفرجة البسيطة، يكشف الكتاب عن جذوره العميقة فى التاريخ المصرى والعالمى، وعن طاقته المدهشة فى الجمع بين الخيال والتربية، بين اللعب والجد، بين الرمز والواقع. ولعل قيمة هذا الكتاب تكمن فى أنه لا يكتفى بسرد التاريخ أو توثيق العروض، بل يتجاوز ذلك إلى قراءة نقدية وتحليلية، تحاول أن تضع مسرح العرائس فى موضعه الحقيقي: فن مسرحى أصيل قادر على المنافسة والتجديد، وليس مجرد أداة لتسلية الصغار.يبدأ الكتاب من تأكيد أن العرائس ليست وافدًا غريبًا على الثقافة المصرية، بل هى ضاربة فى الجذور منذ العصور الفرعونية. فقد عُثر على عرائس أوزوريس فى المعابد، وكان لها دور شعائرى ورمزى، قبل أن تتطور إلى خيال الظل وعرائس القفاز والماريونيت. وعبر العصور، حملت هذه العرائس ملامح الشعب، عبّرت عن همومه وانتقدت حكامه، وكانت وسيلته للتنفيس والضحك والاحتجاج. إنها ليست مجرد لعب خشبية أو قماشية، بل كائنات رمزية تتحرك لتعكس ضمير المجتمع. ومن هنا يضع الكتاب لبنة أساسية: هذا الفن ليس وليد الأمس ولا صناعة غربية مستوردة، بل هو فن مصرى أصيل عرفه الناس قبل قرون طويلة، وتوارثوه حتى وصل إلى صورته الحديثة.التحول الجذرى حدث فى منتصف القرن العشرين مع افتتاح مسرح العرائس المصرى عام 1957 بقيادة الرائد أحمد عامر. منذ تلك اللحظة صار للفن مؤسسة رسمية، وفرقة ثابتة، وبرنامج عروض متنوع. ثم جاءت فرقة القاهرة للعرائس لتشكل علامة فارقة فى المسرح المصرى، بعروضها التى تجاوزت المائة عرض، منها ما صار جزءًا من الذاكرة الجمعية مثل «الليلة الكبيرة» لصلاح جاهين وسيد مكاوى وصلاح السقا، و«صحصح لما ينجح»، و«الشاطر حسن». هذه الأعمال لم تكن مجرد ترفيه، بل نصوص شعرية وغنائية، ارتبطت بأسماء كبار الشعراء والملحنين والمخرجين، حتى تحولت إلى تراث وطنى كامل.لكن الكتاب لا يتوقف عند السرد التاريخى، بل ينفتح على تحليل دقيق للجمهور الذى يخاطبه مسرح العرائس. فالمعتاد أن يقال إن جمهوره من الأطفال فقط، غير أن الواقع – كما يبين المؤلف – مختلف. الطفل لا يذهب إلى المسرح وحيدًا، بل يصطحب أسرته، وهكذا يصبح جمهور العرائس جمهورًا عائليًا بامتياز. ومن هنا تنبع مسؤولية المبدعين: أن يكتبوا نصوصًا ويصمموا عروضًا تراعى الطفل، لكنها لا تستبعد الكبار. ولذلك نجد أن كثيرًا من عروض العرائس تحمل مستويات متعددة من الدلالة؛ البساطة والمرح للطفل، والرمز والسخرية والوعى للكبار. وهو ما جعل هذه العروض تكتسب جماهيرية مضاعفة، تتجاوز قاعة العرض لتدخل الوجدان الشعبى.يتتبع الكتاب أيضًا كيف ساهمت أسماء كبيرة فى إثراء هذا الفن. فصلاح السقا على سبيل المثال أعاد تشكيل اللغة الإخراجية للعرائس، بينما فتح صلاح جاهين باب الشعر العامى ليكون لغة أساسية فى نصوص العرائس. بيرم التونسى وشوقى حجاب وسمير عبد الباقى وغيرهم كتبوا نصوصًا لا تقل قيمة عن المسرحيات الموجهة للكبار. أما على مستوى الموسيقى، فقد وضع سيد مكاوى ومحمد فوزى وعلى إسماعيل ألحانًا خالدة، صارت جزءًا من ذاكرة أجيال متتابعة. وهكذا ينجلى أمامنا مشهد كامل يجتمع فيه الشاعر والمخرج والمصمم والموسيقار، ليصنعوا عرضًا عرائسيًا لا يقل ثراء عن أى عمل مسرحى أو سينمائى.وعند الانتقال إلى العروض المعاصرة، يلتفت الكتاب إلى تجارب لافتة مثل «عروستى» التى كتبها الشاعر محمد بهجت وأخرجها محمد نور. هذا العرض جاء ليؤكد أن مسرح العرائس ما زال قادرًا على التجديد، وأنه ليس حكرًا على الماضى أو على «الليلة الكبيرة» وحدها. ففى «عروستي» يختلط الغناء بالحوار، وتتحول العروسة إلى رمز للوطن وللحب، بينما يضيف الإخراج بعدًا بصريًا جديدًا يجعل العرض قادرًا على المنافسة مع الكلاسيكيات. كذلك يستعرض الكتاب عرض «محطة مصر» الذى قدم خطابًا سياسيًا مباشرًا ضد الإرهاب، لكنه مزج بين الرسالة التوعوية وروح الفكاهة، ليجعل المسرح أداة من أدوات المواجهة المجتمعية.ومع كل هذه النجاحات، يضع المؤلف يده على التحديات الكبرى التى تواجه هذا الفن. أولها غياب النقد المتخصص، إذ نادرًا ما نجد مقالات نقدية جادة تتناول عروض العرائس بالتحليل والتفكيك. ثانيها ضعف التمويل، حيث يظل المسرح معتمدًا على دعم حكومى محدود، لا يسمح له بالانتشار ولا بالتطوير التقنى المطلوب. وثالثها قصور التوزيع، فالعروض تبقى فى القاهرة، ولا تصل إلى المحافظات إلا نادرًا، رغم أن جمهور الأقاليم فى أمس الحاجة إلى هذا النوع من الفن. ورابعها انقطاع البعثات الخارجية التى كانت فى الستينيات والسبعينيات تمد المسرحيين بخبرات جديدة من أوروبا الشرقية والصين ورومانيا، ما جعل المبدعين فى عزلة نسبية عن التطورات العالمية.ولأن الكتاب ليس تشخيصًا بلا علاج، فإنه يطرح مجموعة من التوصيات العملية. فهو يدعو إلى منح الفرق استقلالية مالية وفنية أكبر، وتشكيل لجان قراءة نصوص تضم نقادًا ومتخصصين، وتأسيس فرق عرائس فى المحافظات، على غرار تجربة أسيوط الناجحة. كما يقترح تعاونًا بين وزارات الثقافة والتعليم والشباب لنشر عروض العرائس فى المدارس والجامعات، وتنظيم ورش تدريبية فى المعهد العالى لفنون الطفل، واستضافة فرق وخبراء عالميين لتبادل الخبرات. هذه الرؤية تجعل من مسرح العرائس ليس مجرد نشاط ثقافى بل مشروع قومى يربط الفن بالتربية وببناء الإنسان.ولعل أجمل ما يميز الكتاب أنه لا ينسى البعد الجمالى والفلسفى للعرائس. العروسة، فى نظر المؤلف، ليست خشبًا أو قماشًا فحسب، بل هى قناع رمزى قادر على أن يحمل معنى يتجاوز الممثل البشرى. إنها تجسد الخير والشر، الصواب والخطأ، الحلم والعدالة، ببساطة تخاطب الطفل، وعمق يلامس وعى الكبار. فى صمتها أحيانًا قدرة على التعبير تفوق الكلمات، وفى حركتها بخيط رفيع أو يد خفية طاقة شعرية تعيد للمتلقى دهشة الطفولة.الكتاب فى النهاية ليس مجرد وثيقة تأريخية ولا دراسة أكاديمية جامدة، بل هو نص يجمع بين السرد والتحليل والرؤية الإصلاحية. إنه يقدم صورة بانورامية لتاريخ مسرح العرائس فى مصر منذ الفراعنة حتى اليوم، ويرصد أهم عروضه ورموزه، ويناقش قضاياه الراهنة، ثم يفتح باب الأمل أمام مستقبله. وهذا ما يجعله مرجعًا أساسيًا للباحثين، وكتابًا ممتعًا للقارئ العام، ودعوة مفتوحة لإعادة الاعتبار لفن طالما وُصف ظلمًا بأنه للصغار فقط. والحقيقة أنه فن للجميع، فن يعبر عن الشعب بلسانه البسيط ووعيه العميق، فن قادر على أن يكون مدرسة فى القيم وجسرًا بين الأجيال، ومختبرًا فنيًا للتجريب.بهذا المعنى، فإن «العرائس» ليس مجرد كتاب عن فن طواه النسيان، بل هو ضرورة ثقافية تؤكد أن الاستثمار فى الفنون الموجهة للطفل ليس ترفًا، بل هو رهان على المستقبل. وإذا كان المسرح فى عمومه مرآة للمجتمع، فإن مسرح العرائس هو مرآة مضاعفة، تعكس المجتمع بعيون الطفل وخياله، وتعيد إلى الكبار براءتهم الأولى. ولعل هذه هى الرسالة الأعمق للكتاب: أن نمنح هذا الفن ما يستحقه من رعاية واهتمام؛ لأنه فى النهاية أحد أجمل وأصدق الوجوه التى يمكن أن يطل بها المسرح المصرى على العالم.