العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024
( ثالثا )
ولكن إذا سُمح للمسرح بان يتحدث عن نفسه بدلاً من التعامل معه باعتباره فريسة يمكن استغلالها على الفور للاستعارات، فإنه يمكن أن يتحدث إلينا عن الحياة الفعلية، على سبيل المثال، الحياة خارج المسرح، بطرق عميقة وغير متوقعة وربما فريدة من نوعها. ويجب أن نتجنب إغراء الاعتقاد بأننا ندرك بالفعل جوهر ما يمكن أن يحدث على المسرح، في حين أن الحياة خارج المسرح هي كثيفة ومعتمة ولا تزال بحاجة إلى الفهم. فالمسرح ممكن فقط للبشر من لحم ودم الذين يقيمون مسرحًا داخل العالم الحقيقي الكثيف والمعتم . يتميز المسرح بوضع حدود مميزة للسلوك البشري. ففي مكان محدد ولفترة زمنية محددة، تسمح مجموعة من الناس، وهم الجمهور، لمجموعة أخرى من البشر، وهم الممثلين، بالتصرف بطريقة نادراً ما نسمح لهم بها خارج المسرح: الحب، المرح، الاعتراف، التخطيط لجريمة قتل - مادام المفهوم أنهم لن يتخذوا تلك الخطوة الأخيرة لارتكاب جريمة القتل بالفعل، على سبيل المثال (على الرغم من أنه في حالة الأفعال غير الضارة فليس من الواضح ما هي الخطوة الأخيرة المحظورة)؛ بعبارة أخرى، مادام المفهوم أن الممثل يجسد خيالا .
ولكن ماذا نعني بالضبط بكلمة “الخيال”، وكيف يرتبط الشخص على خشبة المسرح بدوره الخيالي؟ إذا سلمنا بأنه خيال بطرق أساسية معينة، على سبيل المثال، أن الشابة التي تمثل دور ابنة الرجل الأكبر سنًا ليست بالضرورة “ابنته فعليًا”، أي ليست ابنته خارج المسرح. نرى هذا الاحتمال كجزء من رؤيتها تمثل دور الابنة على المسرح. في الواقع العرضي، إنها ليست ابنته، ولكن ماذا عن الجوهر؟ لاحظ جيدًا الطريقة التي أستخدم بها “في الجوهر”: للإشارة إلى إمكانات المرء كعضو معين (مثلًا، جنساني) من النوع البشري. الآن، في حين أن المرأة ليس لديها إمكانية أن تكون ابنة لهذا الرجل، إلا أنها لديها القدرة على إدراك أعمق من خلال التمثيل معه ما هي إمكانات كونها ابنة؛ وبالتالي تنتقل إليها إمكانية تغيير ما هي عليه كابنة. إن مهمة الفن، كما رأى أرسطو وهيجل وغيرهما، توازي إلى حد ما مهمة الفلسفة : فهم العام في الخاص. ففي إطار المسرح، حيث لا يمكن أن يكون هناك تمثيل من دون تصنيف وتعميم، يقف انسانا بعينه، سواء كان ممثلاً أو أحد أفراد الجمهور، لاعادة بناء إنسانيته، وهي إعادة البناء يسمح من خلالها باللعب التجريبي الحر في الوقت الحالي .
أود أن أقترح أن قيود المسرح تحرره من بعض قيود الحياة اليومية، ويمكن أن تفعل شيئًا لتحرير المرأة الأساسية باعتبارها الابنة، كما نريدها ونحلم بها أن تكون وربما - الآن! - يمكن أن تكون الاثنين(المرأة والابنة) . أقترح أن يحررنا المسرح من مجرد الصدفة، ومن التفاهة، على سبيل المثال، حقيقة أن والد الممثلة الحقيقي ربما يكون قد توفي قبل أن تولد. أقترح إمكانية الاحتمال الذي ينشأ عميقا داخل المرأة كانسان وابنة قد يزدهر فقط كشيء يمكن للجميع أن يرتبطوا به، باعتباره نموذجا أوليا لواقع العلاقات الإنسانية، وقد تهتز أولاً لتنمو فقط في خيال مُمَثَّل، أي في ذلك الإطار حيث لا نحتاج إلى أن نخاف وندافع أو نحتار في أمرنا فيما يتعلق بالسلوكيات المناسبة. والاقتراح هو أن الذات الحقيقية للممثل يتوسطها إلى حد ما الخيال الذي تمثله (فليست سمعته المهنية فقط هي التي تتأثر بالخيال). وعلى نحو مماثل، فإن الذات في الجمهور يتوسطها الخيال الذي تمثله.
إن الفن هو اختيار أكثر حرية وإمكانيات وحدود للسلوك مما تسمح به لنا الحياة خارج المسرح. فحتى الأشخاص الشجعان للغاية غير قادرين على العيش مع العواقب التي لا نهاية لها للسلوك المبتكر أو المتحرر خارج المسرح، حتى لو كان هذا السلوك ممكنًا هناك. ومع ذلك، فإنهم يحلمون بأشياء مثلها. ويشارك المسرح على الفور مع الآخرين في بيئة تؤسس institutionalized setting هذه الأحلام المكبوتة؛ فهو يضعها في شكل أفكار ويمكنه أن يطلق سراحنا إلى علاقة أكثر تحكمًا وإنتاجية معهم .
المسرح هو إضفاء طابع موضوعي مفتوح على الذات التي كانت في العادة مقيدة وربما خادعة للذات؛ وفي صحبة الآخرين، فإن الشرط الضروري لفهم أنفسنا هو أن نفهم أنفسنا على أنها مفهومة من قبل الآخرين. ومن هذا المنظور، فإن المسرح هو تمثيل طقسي لمجموعة أكثر اكتمالاً من إمكاناتنا. إنه المكان الذي نذهب إليه لسماع صدى أنفسنا. إنها تأويلات للروح.
وهناك طريقة أخرى للتعبير عن هذا الأمر وهي مقارنة المسرح بتقسيم هوسرل للوعي أو اختزاله: ففي الحياة التي تسبق التأمل، تكون الأشياء ذات معنى من حيث كيفية ظهورها لنا، ولكن لكي ندرك هذه الطريقة على هذا النحو، يتعين علينا أن نتراجع خطوة إلى الوراء في التأمل من الاعتقاد البسيط، وأن نتجاهل كل أسئلة الواقع، وأن نسأل في “التغيير الخيالي” إلى أي مدى يمكن تغيير هذا الشيء المدرك (أو أي شيء آخر) قبل أن يتوقف عن تقديم نفسه كنوع (جوهر) الشيء الذي هو عليه. على سبيل المثال، نلعب بالصورة الموجودة في أذهاننا لأي شيء مادي، ونكتشف أننا لا نستطيع تغييره إلى ما هو أبعد من نقطة تقديم نفسه بشكل متسلسل وفي وجهات نظر. وبالتالي فإن القدرة على تقديم نفسه في وجهات النظر هي جوهره، وهذا الجوهر هو أحد شروط معرفة أي شيء مادي من قبلنا. أنا مرتبط بشيء وبآخرين من العارفين بالشيء من خلال جوهره . الآن، يمكن اعتبار المسرح بمثابة تداخل فعلي للفعل الإنساني . فبدلاً من التمثيل فقط، فإننا نغير أفعالنا على المسرح في تنويعات خيالية، وهذا له تأثير في استكشاف حدود جوهرها وارتباطاتها الأساسية . إن حقيقة أن شيئًا ما يتم على المسرح يشكل بالفعل انفصالًا عن اهتمامنا العملي به، وهو تداخل فعلي وتنويع خيالي له . على سبيل المثال، لا نرى ببساطة رجلاً على خشبة المسرح يمشي إلى آخر ويتحدث معه بوقاحة. ويتوسع أفق اهتمامنا ليشمل وعيًا أكبر بالظروف التي تجعل هذا الفعل ممكنًا، فضلاً عن وعي أكبر بتداعياته وعواقبه . فنصبح على دراية بنوع الشيء (جوهره)، والطريقة التي يرتبط بها هذا النوع بأنواع أخرى، ونوع المخلوق الذي يجب أن أكون عليه حتى أتمكن من القيام بذلك (النوع الذي أصبح عليه بمجرد أن أقوم به).
إن أشكالاً محددة من التنوع الخيالي تميز أشكالاً محددة من المسرح. وتوجد أشكال حية ولاسيما في الأعمال “العبثية” المعاصرة (على سبيل المثال، أعمال بيكيت، ويونسكو، وويلسون)، ويشكل التطرف في تنوعاتها الخيالية ومرحها جديتها الغريبة. على سبيل المثال، تتكرر الأفعال (كما لو كانت بلا تأثير)، أو تتباطأ، أو تترك مراراً وتكراراً دون اكتمال . ومن خلال تنويع الأفعال بما يتجاوز ما هو طبيعي، نرى أولاً من الناحية الموضوعية ما كان يعنيه الحدث دائماً: أنه لا يمكن تكراره (إن كان يمكن تكراره على الإطلاق) إلا بتأثير، وأنه لا يمكن اكتماله إلا في ظل ظروف محددة معينة، وأنه لا يكون فعالاً عملياً إلا بشرط، على سبيل المثال، إيقاع مطرقة هوائية يزاحم احتمالات الوجود الأخرى . إن الفعل لا يبرز في النهاية إلا عندما يؤطره المسرح بهذه الطرق، وعندها فقط نرى أجزاء من سياقه وأهميته العادية التي تشكل شروطاً لإمكانيته . يبرز العادي بوضوح، ولكن في الوقت نفسه يرتبط بسلوكيات متناقضة تمنحه معناه، ونتوقف عن الانغماس فيه باعتباره إمكانية حصرية للوجود. نحن نستكشف إمكانيات الفعل بمعنيين للإمكانية: الأشياء التي قد تحدث، وما الذي قد يجعلها ممكنة إذا حدثت.
بالطبع، ما يختلف فقط في الاختزال في فلسفة هوسرل يتجسد في المسرح. إنه عصر اختزال الفعل في الفعل . إن الفيلسوف وحده في مكتبه، جالساً على كرسي بذراعين، يغير في خياله الطريقة التي يمكن بها لشخص ما، على سبيل المثال، أن يضرب شخصاً آخر . والمسرح، من ناحية أخرى، يجسد حرفيًا خيالنا لشخصية تضرب شخصية أخرى، على الرغم من أننا نعلم طوال الوقت أن الممثل الذي يجسد الشخصية لا يصدم الممثل الذي يجسد الشخصية الأخرى. لذا فإن التجسيد على خشبة المسرح يضع التنوع الخيالي خارج نطاق سيطرة أي شخص متعمد، وبالتأكيد خارج نطاق سيطرة الفيلسوف المراقب إن خيال الكائنات المجسدة هو الذي يتم إطلاقه بشكل أكثر اكتمالاً. قد يفاجئ العمل الإبداعي للممثل جميع المشاركين الآخرين، أو قد يفاجئ المخرج الجميع، إلخ . يساعد المسرح على استعادة الفيلسوف إلى التجريب والسذاجة الإيجابية في مواجهة التجربة التي ربما لا يستطيع أن يصل إليها من خلال جهوده غير المساعدة. إنه يزعج افتراضاته المهنية حول إمكانية تخيل الأشياء - الافتراضات المسبقة التي لولا ذلك لما تم التشكيك فيها في تأثيرها المثبط. ولأن خصوصية الممثل على خشبة المسرح أمامنا لا تضيع في تجسيده لشخصية (وهي دائمًا “نوع”، إلى الحد الذي يجب أن يتضمن فيه كل تجسيد داخل إطار خشبة المسرح تجسيدًا معززًا)، فإن خصوصية الفيلسوف لا تضيع وهو يتأمل التمثيل العام. إن التوتر المفتوح بين الخاص والعام ــ بل والتوتر داخل التجربة الخاصة المفتوحة على إنسانيته ــ الذي ينتجه الجهد الخيالي الجماعي الذي هو المسرح، يوفر الحافز الأعظم لخيال الفيلسوف وانخراطه في ذاته. ذلك أن الفهم ــ حتى لو كان بوساطة “خيال” ــ وكينونة الشخص الذي يفهم، لا يمكن فصلهما عندما يكون فهم الشخص لذاته هو موضع تساؤل. والمسرح هو تأويل للروح.
....................................................................................
بروس ويلشير: فيلسوفً أمريكيً درس في قسم الفلسفة في جامعة روتجرز، والذي تقاعد منها كأستاذ فخرية في عام 2009. بداية كمتخصص في ويليام جيمس، أصبح معروفًا بعمله في الفلسفة والمسرح، وانتقاداته للفلسفة التحليلية، واهتمامه بالفلسفة الأمريكية الأصلية.
نشرت هذه المقالة في ضمن كتاب الهرمنيوطيقا الثقافية Cultural Hermenutics في الصفحات 199 -207.