مصر في سنة 1929 !!

مصر في سنة 1929 !!

العدد 864 صدر بتاريخ 18مارس2024

بعد انتهاء عرض مسرحية «علشان سواد عينيها»، أعاد الريحاني عرض مسرحياته القديمة استعداداً لمسرحيته الجديدة «مصر في سنة 1929». ومن المسرحيات التي أعادها «آه من النسوان، جنان في جنان، ياسمينة، أنا وأنت، مملكة الحب». وفي الأسبوع الأول من أبريل 1929 بدأ الريحاني عرض مسرحيته الجديدة «مصر في سنة 1929» من تأليفه بالاشتراك مع بديع خيري، وبطولة «بديعة مصابني» وأبطال فرقة الريحاني، وتلحين «داود حسني» - وكان «محمد بخيت» يطرب الجمهور بين الفصول - وتناولها الناقد «سوفوكليس» - ناقد مجلة «الجديد» - في مقالة منشورة، قصّ علينا موضوعها، قائلاً:
كشكش بك عمدة كفر البلاص رجل متفرنج عكست أوروبا أفكاره فعاد إلى بلدته ليصبغها بالصبغة الغربية، فأمر بحلق اللحى والاستعاضة عن العمم بالقبعات. واستجابت البلدة إلى ندائه فإذا في حفلات الزفاف أحدث رقصات الشارلستون وإذا بالقبعة تزين الجبة والقفطان! وفي البلدة شيخان يكرهان هذه المظاهر الغريبة فإذا حدثهما كشكش عن المرأة الأوروبية ورشاقتها آمنا بأن لا شيء في الدنيا هو أمتع من التفرنج! ولكن أهالي البلاد المجاورة ينقمون هذه البدع فيثورون عليه فلا يجد للنجاة سبيلاً إلا بالفرار إلى العاصمة. ويقابل كشكش في العاصمة صديقاً يدعوه إلى تناول الطعام على حسابه، ولكن الصديق يفرّ بعد أن ملأ معدته تاركاً «كشكش بك» تحت رحمة الكبابجي! ويرى كشكش العُلَق التي يأكلها الزبائن - [أي الضرب] - إذا لم يدفعوا كل الحساب، فعن كل نصف قرش يُضرب الزبون علقة، فكأن الكبابجي سيضرب كش كش بك مائة علقة!! ولم يجد كشكش مفراً إلا العمل لسداد دينه بأن يقف بدلاً من تمثال قائم عند باب الحانة المجاورة للمطعم!! ويأتي شيخان محافظان من كفر البلاص ويجلسان على مائدة بجانب التمثال فيضربهما كشكش بك - أي التمثال – خفية، ويحتسىي كؤوسهما، وهما لا يريانه!! ويتهم كل منهما زميله ويتضاربان!! ويقع جدال عنيف بين صاحب الحانة وأحد التجار بشأن التمثال لأن الجرسون لم يدفع ثمنه بعد، ويحاول الجرسون أن يكسر التمثال فيضربه كشكش بك على رأسه بالصينية وهو يحسبه التمثال!! ويأتي البوليس ويقود المتشاجرين إلى القسم بتمثالهما، وهناك تأتي فتاة جميلة لشكاية ما فترقص!! فينسى كشكش موقفه ويندفع إلى غمرة الرقص!!
ويستكمل الناقد «سوفوكليس» مقالته ويبدأ كلامه بملاحظة مهمة وهي أن المسرحية كتبها «بديع خيري» دون الإشارة إلى اسم الريحاني كونه مؤلفاً مشتركاً.. وهذه الإشكالية التاريخية سنتعرض لها كلما جاء ذكرها مستقبلاً!! ونعود إلى الناقد ومقالته، حيث قال: هذه هي رواية مصر في سنة 1929 التي أخرجها الأستاذ نجيب الريحاني في هذه الأيام والتي أفاضوا في الإعلان عنها وعن الاستعداد لها. والرواية من قلم الأستاذ بديع خيري وحسبنا ذلك عنها لنتوقع لها النجاح لأن بديع خيري معروف بأنه من خيرة كتابنا في هذا النوع وأن له القدرة على خلق المواقف الحرجة وإيجاد الشخصيات المضحكة. وللرواية ناحيتان: فكاهية واجتماعية، فلك أن تضحك منها ساعتين ضحكاً متواصلاً ولك أيضاً أن تتعظ وتعتبر! والعظة هنا ليست خطبة منبرية تُلقى على المتفرجين فيتثاءب نصفهم وهم يسمعون، ويغط النصف الآخر في النوم! وهي ليست أيضاً حكماً تُختتم بها الفصول فتبدو غثة سمجة لا طعم لها ولا مذاق! وإنما هي صورة وصفية من الحياة، نضحك منها كما نفهمها!! يتوافر فيها العنصر الاجتماعي والفكاهي في وقت واحد، ولعلها بهذا تكون أقرب إلى أن تستسيغها النفس. وواضح من الملخص أن الرواية تبحث في الثورات التجديدية وأن فيها إشارة إلى فتنة الأفغان وإلى ما لا يبعد أن يقع في أي بلد أو بيت ينزع فيه إلى الطفرة قبل أن تتشرب النفوس روح التجديد! ولسنا ننسى المحاورات التي دارت بشأن اللحى بين عسكري البوليس وبعض الجامدين والتي يمثل فيها العسكري الجيل الحديث باستهتاره باللحى وتحقيره لها فقد أصبحت اليوم – إذ استثنينا رجال الدين – مظهراً لا يتفق مع هذا العصر لأن لها دلالات خاصة ينبغي أن يتقيها المرء. وفي الرواية صورة عن المرأة العصرية التي أصابت من الحرية الحظ الأوفر فتعيش عيشة رياضية فترقص وتلعب الكرة وتحب السباحة كما أنها تكره أن يلزمها الزواج قيداً يصدها عن غرام تصبو إليه. وهناك ظاهرة اجتماعية في الرواية، وذلك أن الجامدين الذين نقموا على كشكش بك عمدة كفر البلاص نزعته التجديدية لم تلبث غمرة التجديد أن طوتهم بمجرد أن ظهرت في البلدة فأصبحوا أشد المتحمسين لها. وهذا هو ما يقع غالبا في الحياة. ولعل أبهج مواقف الرواية هو الحوادث التي وقعت في المحكمة والتي لا يسعني تلخيصها كيلا أذهب بطلاوتها!! فما زالت كلما ذكرتها أطرب لها وأبتهج، وكذلك كانت مضحكة معاكسات التمثال لعضوي المحكمة! ومثل هذا المنظر موجود في الأفلام السينمائية ولكن ممثليه هنا أجادوا إلى درجة التفوق. ولقد سبق أن لاحظت في كتابتي عن رواية «لا .. لا .. يانانيت»، التي مثلتها فرقة «موجادور» الباريسية على مسرح الكورسال أنهم يراعون انطباق شخصية الدور على هيئة الممثل وقامته وشكله فلا ترى الضخم في شخصية القزم أو الأسود اللون في شخصية رجل أبيض. ويسرني أن أسجل أيضاً وجود هذه الملاءمة بين الممثل وشخصيته في مسرح الريحاني. وهنا يعنون بالماكياج ويشعرون وهم على المسرح بأهمية عملهم فلا يؤدونه مستهترين كما هو شأن أغلب ممثلي الكسار مثلاً. ولديك الفلاحات فإنهن لم يقصرن في عمل الماكياج اللازم كالوشم وغيره وإن كانت المدموازيل «كيكي» – العروسة الشارلستونية – قد تفردت بوشم ذقنها ولم تخش أن يفسد جمالها!! 
وكتب «مصطفى القشاشي» - صاحب مجلة «الصباح» - كلمة مهمة بها جديد لم نقرأه من قبل، مثل أن الريحاني استخدم في المناظر – أي الديكور - نوع التصوير المسمى «الفوتورزم». كما أخبرنا الناقد أن الفصل الثالث كان ضعيفاً، وقد تحدث مع الريحاني في ذلك، فوعده الريحاني بتغييره بما يناسب مع قوة الفصلين الآخرين، كون هذا التغيير مألوفاً في أوروبا من خلال النوع المسرحي المسمى «الريفيو»! وذكر الناقد الممثلين بكلمات مادحة ومنهم: عبد الفتاح القصري، محمد مصطفى، حسين إبراهيم، محمد كمال المصري، عبد النبي، التوني. واختمم الناقد مقالته بإشارة فهمنا منها أن دور «بديعة مصابني» لم يكن مهماً أو لم يكن لائقاً بمكانة بديعة كونها بطلة العرض!!
أمام هذا المدح والإشادة بالمسرحية من قبل أغلب النقاد، وجدنا مقالة كتبها «حسن كمال الجركسي» هاجم فيها العرض وذكر أمراً غريباً لم يسبق له مثيل، وهو وجود رقصة – أو استعراض أو مشهد .. إلخ – قامت فيه الراقصات مع بديعة مصابني بالإعلان عن «بودرة» [مكياج حريمي]، وأسطوانات «أوديون» لأغاني أم كلثوم وذلك أثناء التمثيل!! ولأهمية هذه المقالة سنذكرها بألفاظها، حيث قال عنها الجركسي:
كان حتماً عليّ أن أضحك على نجيب الريحاني الذي يضحك على عقول المصريين برواياته!! قيل لي هيا بنا نشاهد رواية «مصر في سنة 1929». فقلت الاسم غير جذاب، ومصر في سنة 1929 كلنا نعرفها ونحن أدرى من الريحاني بها، لأن المفروض عليه أن يكون في يد «بديعة مصابني» ينزل معها صباحاً إلى البروفة ويذهب إلى الغداء ثم إلى الماتينيه فالسواريه. ثم يركب الأوتوموبيل وهي تشتغل شوفير وهو يلاطفها وينافق ويظهر كل حب وإخلاص حتى لا تصرعه بديعة. ومعنى هذا أن نجيب تصفه بما تصف به الناس الطيبين فتقول عليه من بيته للتياترو!! أجبرني الأصدقاء على الذهاب إلى مسرح الريحاني ورفعت الستار عن فيلم سينماتوغراف يتكلم وأشخاص حقيقيين فوجدت موضوعاً ولا موضوع، وتمثيلاً ولا تمثيل!! ليس هذا طعناً يا سادة! أما عن اسم الرواية فلا يطابق الواقعة، وأما إذا تسامحنا وقلنا إنها رواية فهذا من باب التمشي مع نجيب مع أنه يدعى أن موضوعه رواية، وعلى ذلك أقول إن مصر في سنة 1929 ليست رواية ذات موضوع، إنما هي مجموعة حوادث ومشاهدات خارجية لها أثر في الحياة العامة جيء بطرف من كل موضوع، ولو أنصف لأسماها «شنتكلير»! وبالرغم من كل هذا، هل أي طرف من أطراف المواضيع المذكورة له نهاية؟! وأقرب وصف له أنه مثل خيوط الحاوي الأفرنجي الذي يخرجها من فيه، فهذه فتلة حمراء وتلك خضراء .. إلخ الألوان جميعها. وحقيقة أنت تشاهد ألواناً تخرج من فم الحاوي! ولكن بربك يا سيدي هل فم الحاوي نافذ على مغازل لانكشير أو على مصبغة حرير .. طبعاً لا! كذلك مواضيع الرواية المذكورة، مع التسامح! فقد خيل إليّ عند رؤية التمثيل أن مؤلفها «بديع أو نجيب» من كبار الحشاشين والمنزولجية وأصحاب الكيوف، فشربوا كل تعامير البيان التي لا يجيد تكريسها غير أمثال المعلم عترة زمانه أو الحاج عبد الحميد! وأرسلوا إلى أبو هنيدي فجاءوا بحلة منزول غمسوا بها قفص عيش سخن، ثم جاءوا بزلعة مُلئت «ويسكي» من أي صنف وأظنه من «خمارة السبعة أبواب» وبعد أن شربوا وأكلوا المنزول، وانتهت تربة الحشيش أخرج أحدهم سكرية ملئت كوكايين فاستنشقوا منها ملعقة فأخرى حتى لحسوها نهائياً! وهنا ارتفع صوت نجيب مقهقهاً وفكر في نكتة وآيس وقالها فضحك، وقال آخر حكاية والثالث حكاية حتى أصبح الوعاء مملوءاً بأنواع اليميش المختلفة أو يمكن لمثلي أن يجازف ويقول ما قاله مؤلف مصري معروف بخفة روحه وحُسن أسلوبه ومقالته، ويقدره نجيب شخصياً وكان يجلس في الصف الرابع مع اثنين لا أعرفهما فكان يضحك في الفصل الأول حتى بكى، وأخرج منديله وهو يشتم نجيب الريحاني، ثم توعده بأن سيصعد إليه ويقبله! وفعلاً صعد إلى المسرح ولا أدري إن كان قبله أو عدل. ويسرني أن أقول إني دنوت من هذا الشاب الظريف وقلت له أراك مسروراً من رواية نجيب قال جداً، و أجاهر بأن لي عشر سنين لم أضحك من رواية ولا تمثيل، ولكني الليلة أُرغمت على الضحك!! فقلت: وهل ترى في الرواية موضوعاً؟ قال فيها مواضيع! قلت وكيف ذلك؟ قال: إنها مجموعة أفكار وتخاريف مدهشة جمعت إلى بعضها كما يجمع البستاني من كل شجرة وردة، فيقدمها إليك باقة جميلة تسر لرؤيتها وتكون عندك موضع الشم والتقبيل. ولهذا سأصعد وأقبل نجيب الريحاني!!
بعد هذه المقدمة الغريبة، تحدث الجركسي عن التمثيل، قائلاً: الموضوع لا يحتاج إلى تفضيل شخص على آخر، لأني تخيلت أن كل ممثل ألّفَ القطعة التي يمثلها، أو ألف دوره، لأني لم أشاهد على ممثل عدم الإجادة، بل الطبيعة كان نصيب لها عظيم من التجلي والانسجام. أما ما آلمني أن أرى إعلانين في رواية خفيفة الروح مثل رواية نجيب: فهناك إعلان عن «بودرة»، ثم إعلان عن «أسطوانات أوديون». ولو كان نجيب موافقاً على هذه الطريقة فمن المستحسن أن يُمثل على بساط يفرشه أمام القهاوي، ويسرح هو وبديعة!! إخص على كدة، وعلى التمثيل الذي يستخدم في مثل هذه الأغراض! لو كانت أسطوانات أوديون تستحق إقبال الجمهور ما احتاجت إعلان نجيب عنها! والجراموفون تعلن عن أسطوانات أم كلثوم الآن، وقد مُلأت أم كلثوم عند أوديون فهل نجحت التعبئة؟! هذا موضوع غير الرواية إلا أن الذي أريده هو أن يكون المتفرجون في نظر نجيب غير مغفلين ولا يفكرون في غير نجيب، أما الإعلان فطريقة لا أقره عليها. وبدل استخدام بديعة في إعلان البودرة، والراقصات في إعلان أوديون، لدى الاثنين الستارة «السباريو» يعلنان عليها ويكتبان بالذهب والفضة والقصدير فهل يسمع نجيب مني هذا الرأي ويحافظ على مركزه عند الخاصة. وهذا ما انتظره!
وتطرق الجركسي بعد ذلك إلى موضوع المسرحية وقيمتها، قائلاً: الفصل الثاني ضعيف، أما الفصل الثالث فلم يكن فيه رمق!! وكان مثالاً للضعف والضحك على العقول. وخير لنجيب أن يستبدله بغيره أو يكتفي بفصلين وبس!! ويؤلمني أن أقول إن الفصل الأول كان قوياً جداً والثاني والثالث أقل منه، وهذا عيب الكُتّاب الذين يعتمد عليهم نجيب. وعلى العموم أنا معجب بالفصل الأول، وأحض كل متألم في حياته النهارية أن يذهب ليشاهد الفصل الأول ويمتع نفسه ببديعة وخفتها ورشاقتها وإجادتها.
كانت مسرحية «مصر في سنة 1929» آخر مسرحية في الموسم الشتوي، وهو الموسم الرئيسي للفرقة ولأية فرقة مسرحية أخرى. وفي أبريل 1929 بدأت الفرقة موسمها الصيفي، حيث انتقلت إلى بعض الأقاليم مثل «المنصورة» وعرضت مجموعة من العروض السابق عرضها - «الريبرتوار» - مثل: أبقى أغمزني، ومصر في سنة 1929. ثم انتقلت إلى تياترو «الفنتازيو» بالجيزة وعرضت فيه مسرحيات: علشان بوسة، وعلشان سواد عينيها، وأنا وأنت.


سيد علي إسماعيل