مسرحية مراتي في الجهادية!!

مسرحية مراتي في الجهادية!!

العدد 843 صدر بتاريخ 23أكتوبر2023

العمل الثاني الذي قدمته «فرقة أمين صدقي» كان مسرحية «مراتي في الجهادية»، ولعل هذه المسرحية محسوبة على مقتبسها أمين صدقي –صاحب الفرقة– أكثر من الريحاني بطلها، وقدمتها الفرقة في يناير 1926 وأعلنت عنها جريدة «السياسة» قائلة: «حياة جديدة للتمثيل الفودفيلي الراقي تجعل المتفرج لا يفتر عن ثغر بسام من كثرة الضحك والابتهاج، مملوءة بالمفاجآت والمدهشات والمغاني والرقص والطرب، وضعها بقلمه السيال الكاتب النابغة الروائي الذائع الصيت الأستاذ القدير أمين صدقي. ولا عجب إذا رأينا الإقبال عظيما على مشاهدة هذه الرواية، ففيها من جمال الطرب وكثرة الضحك ما يجعل المتفرج ينسى نفسه أمام هذه المشاهدة الجميلة.
الرواية الجديدة الثانية «مراتي في الجهادية» يفتتح بتمثيلها لأول مرة باستعداد مدهش ابتداء من يوم الخميس 7 يناير والأيام التالية. أبطالها من فطاحل الممثلين والممثلات في مقدمتهم بطل الفودفيل الأستاذ نجيب الريحاني. تقوم بدور المغاني والطرب في مواقفها التمثيلية الموسيقية الحسناء ربة الصوت الساحر السيدة فتحية أحمد. وتدهش المتفرجين زهرة الممثلات عروس المسرح الكوميدي الجميلة الست بديعة مصابني. وضع الألحان الموسيقي البارع والمغني المشهور محمد عبد الوهاب».
أما جريدة «الأهرام» فأعلنت عن المسرحية ببعض الجمل والأوصاف من أدوار الممثلين، مثل: أن الممثلين من فرسان الكوميديا وفي مقدمتهم «نجيب أفندي الريحاني» في دور ميشونيه باشجاويش في الجيش وعامل تليفون في مصلحة ثانية، أما دور «كليريت» فتقوم به زهرة الكوميديا الرشيقة الحسناء «بديعة مصابني» كونها ممثلة ومعاكسة ومبارزة ولاعبة بالشيش وعسكري في الجيش وأكثر من ذلك مطربة! وقالت الجريدة عن فتحية أحمد في إعلانها: «هلموا واسمعوا الصوت الساحر من البلبلة المفردة الموسيقية العظيمة الست «فتحية أحمد» في دور صاحبة مصنع برانيط وعاشقة تنشد في جميع أدوار الرواية ولها مواقف غرامية مدهشة».
وقد جدت في جريدة «الأهرام» أيضا مقالة منشورة حول العرض، قارن فيها كاتبها بين أهمية المؤلف المسرحي وأهمية الممثل، ولعلها مقالة مبكرة حول فكرة العنصر المهم في العرض المسرحي المؤلف أم الممثل!! لهذا السبب أردت أن أنقل لكم فكر النقاد في هذا الوقت عن هذه القضية، حيث قال كاتب المقالة: «... أتكلم عن حقيقة واقعة بعيدا عن الأغراض لافتا نظر الجمهور إلى ما يدور بداخل دور مسارح التمثيل من المبارزة التي تقع بين أبطاله الآن، وهناك يشاهد التفوق المقرون بالإعجاب والنبوغ المسرحي الصحيح وليس الممثل فقط هو الذي له الصولة في الميدان بل والمؤلف، لأن المؤلف روح الممثل وعبقريته، ولسانه الناطق ويده المحركة. المؤلف هو الذي يغذي الأرواح بألبان الفضيلة ويعالجها بالحكم الغالية ويحليها بنفائس الدرر القيمة .. المؤلف أولا والممثل ثانيا. فإذا كان الأول من أصحاب الأقلام التي تبعث في النفوس ارتياحا يستخرج بها من بين خبايا القلوب ما يجلب الفرح والابتهاج والضحك والطرب والسرور للمتفرج، فإنه يكون قام بجهوده! والعظيم هو الممثل الذي يخرج من معاركة التمثيلية فائزا منصورا وبذلك يُعدّ في حُكم الفنانين الذين يُشار إليهم بالبنان. سأذكر لكم بطلا من أبطال المؤلفين .. أستاذا عبقريا يحلل المواضع تحليلا دقيقا نجح في رواياته نجاحا باهرا .. كلكم تعرفونه .. هذا المؤلف هو الأستاذ «أمين صدقي» الروائي المعروف. خبرني: ألم تتوجه أمس وأول أمس مع من توجه إلى مسرح تياترو «دار التمثيل العربي» لمشاهدة الرواية الجديدة الثانية التي أخرجها الأستاذ في ظرف أسبوع وأشبعها من المفاجآت المدهشة والمواقف العجيبة .. رواية «مراتي في الجهادية»!! أو لم تشاهد ذلك السيل العرم من عشاق التمثيل على هذه الدار لابتياع التذاكر حتى نفذت جميعها قبل الميعاد .. إذا كنت لم تشاهد أو لم تسمع بذلك فأنا أقول لك: الإقبال كان فوق حد الوصف حتى لم يكن موضع لقدم ومع وجود هذا الجمع الهائل كنت ترى السكون مخيما كأن على رؤوسهم الطير لا تسمع إلا أنفاسهم تتردد وجلهم من رجال الأدب وكرائم العقائل. كنت تشاهد علائم البشر تتدفق على وجوههم وأنظارهم متجهة إلى المسرح. ففي منتصف الساعة العاشرة رفعت الستار بين التصفيق والهتاف. روعة مدهشة في المنظر. مصنع برانيط على الزي الباريسي فتنة للناظرين. المدموزيلات يشتغلن في المصنع بخفة ورشاقة. مديرة المصنع فتاة حسناء في الرابعة والعشرين تدعى «برنيس» تعشق فتى محامٍ على وشك دخوله الجيش. تبث غرامها إلى وكيلتها وهي كالمذهولة تبحث عنه في كل مكان تنشد قطعة غرامية هي الطرب تناجي بها الحبيب فكأنها البلبل يغرد في وقت السحر ليشهد العالم على اليقظة. ولا تسل عن نصيبها في التصفيق الحاد الذي يشبه قعقعة الرعد وفخامته فقد استعيد هذا اللحن مرارا من صاحبته المطربة الساحرة السيدة «فتحية أحمد»، التي لها في جميع أدوار الرواية ألحان ومواقف غاية في الإبداع. ففي جميع فصول الرواية مدهشات وعجائب فمنذ رفع الستارة إلى نهايتها وأنت لا تتوقف عن الضحك ولا تشعر بالوقت وخصوصا من صاحب دور الباشجاويش «ميشونيه» أستاذ المضحكين «نجيب أفندي الريحاني» ونجمة الكوميديا الرشيقة الحسناء ذات المواقف الخلابة في دور «كليريت» زوجة المحامي الست «بديعة مصابني» تشاهدها في الرواية مصارعة و مشاكسة ومبارزة ولاعبة بالشيش ونفر عسكري في الجيش. والحق يقال إن محور الرواية يدور حول هذه الحسناء فكم وكم صفق لها الجمهور وحياها. أما أنتم يا فرسان الكوميديا يا أبطال هذه الرواية فإني أحي فيكم البراءة والتفوق والنبوغ فقد أظهرتم مجهودا فنيا عظيما. أما الأستاذ محمد أفندي عبد الوهاب المغني المشهور فقد وضع الألحان للسيدة فتحية أحمد بطريقة فنية عظيمة تجعل السامع لا يتمالك نفسه من الطرب».
وجدير بالذكر أن أهم نقاد المسرح في تلك الفترة، كان «محمد عبد المجيد حلمي»، وقد كتب مقالة نقدية عن العرض في جريدة «كوكب الشرق»، وقسمها إلى أربعة أجزاء، نشرها في أربعة أيام متتالية خلال أربعة أعداد من الجريدة!! وأسلوبه هذا كان فريدا في النقد المسرحي، حيث كان لا يترك شاردة أو واردة إلا وكتب عنها .. لذلك سأنقل لكم أغلب ما كتبه عن مسرحية «مراتي في الجهادية» لنتعرف عن أسلوب الناقد من جهة، ومن جهة أخرى نتعرف على تفاصيل وخفايا وأسرار هذا العرض المسرحي، الذي كان مثالا حيّا للمنافسة المسرحية بين فرقتين!! ولا تظن أنني أقصد المنافسة بين الريحاني والكسار .. لا .. بل المنافسة بين أمين صدقي والكسار!!
بدأ الناقد مقالته بتمهيد للموضوع، عن اشتداد المنافسة بين الفرق التمثيلية في هذه الفترة لدرجة خروجها من طور المنافسة إلى طور المضاربة القوية بكل وجوهها ووسائلها، قائلا: كانت حركة المنافسة .. حركة مباركة، فهي في الغالب تؤدي إلى ترقية التمثيل أو على الأقل بعثه إلى مدار حركة النهضة القوية، تدور به صعدا إلى مراقي الكمال. وكان أهم حادث في عالم التمثيل هذا العام انفصال أمين أفندي صدقي عن علي أفندي الكسار. وفي الواقع كان هذا الانفصال لازما لمصلحة كل منهما، ونريد أن نبحث في تأثير هذا الانفصال على المسرح من كل وجوهه! فمما لا شك فيه أن هناك منافسة بين فرقتي الماجستيك ودار التمثيل العربي وكان من نتائج تلك المنافسة هذه الرواية الأخيرة. وقبل أن أعمد إلى الشرح والمقارنة أريد أن أصف مركز الفرقتين في كلمة: فرقة أمين صدقي معتدة بمكانتها لأنها تجمع عددا من الممثلين الذين لهم مكانة في عالم الكوميدي، ثم فيها مطربة يقولون إنها ملكة الإنشاد في مصر. ثم لا ننسى نفسية أمين صدقي نفسه ففيها شيء كثير من الغرور، وأستغفر الله له ولي!! أما فرقة علي الكسار ففيها أيضا عدد من الممثلين المعروفين، وفيها مطرب له هو الآخر مكانة ممتازة، ولكنها تعمل بهدوء لاحتلال مكانتها والمحافظة على سمعتها، فهي تجاهد بكل تواضع على اسم رئيسها في شيء من الغرور. هذا الموقف الذي يضع كل فرقة في ناحية من النواحي هو الذي تتولد منه المنافسة وهو الذي جر إلى الموقف الأخير. ففرقة أمين صدقي جامدة، وفرقة الكسار متحركة .. إحداهما معتمدة على مكانتها لا تهتم لغيرها، والأخرى تريد أن تبرهن للأولى على فساد زعمها ونظريتها .. وجاء الوقت الذي تمكن فيه المقارنة بين الفرقتين:
وهنا كشف الناقد عن أمر غريب قائلا: أخذت فرقة أمين صدقي ونجيب الريحاني تستعد لإخراج رواية «مراتي في الجهادية»، وهي رواية كانت السيدة منيرة المهدية تستعد لإخراجها أيضا، فأسرع علي أفندي الكسار وطلب من السيدة منيرة أن تهمل الرواية لأن فرقة أخرى ستخرجها فوافقت السيدة منيرة، واستأذنها علي الكسار في إخراج الرواية إذا استطاع فسمحت له، فسارع إلى الحصول على الأصل الفرنسي، وفي ثلاثة أيام متقطعة أنجز الرواية وبدأ العمل فيها. وفي مدى أسبوع انتهت وبُدئ تمثيلها أمام الجمهور باسم «28 يوم»، والسؤال الآن: هل كان مسرح الماجستيك يعمد إلى هذا العمل المرهق لولا حب المنافسة، والغريزة الفطرية التي تدفع كل إنسان إلى التغلب على منافسه!! رأيت أنا في هذا العمد - لأول وهلة - شيئا من المخاطرة، فلا يصح أن يجازف المرء بمركزه ومكانته عند الجمهور بعمل في حد ذاته لا يدل على شيء ما، ولكنه قد يرفع فرقة ويخفض الأخرى. ومن الذي يجازف؟ عندما اعترضت كان جواب علي أفندي الكسار: أن أمين صدقي يقول إن علي الكسار لا يستطيع أن يعمل شيئا بدوني، وأنا أريد أن أبرهن له على فساد رأيه، وهذه فرصة أهاجمه عندها في صميم عمله لأبرهن له أنه لا يصلح بدوني .. وفوق هذا فهي فرصة أيضا تمكنني من أن أعرض على الجمهور مجهودي بجانب مجهوده ليحكم لأحد منا على الآخر! ولم أجد عند ذلك مجالا للاعتراض، وها قد ظهرت الروايتان .. هي رواية واحدة اقتبسها أمين أفندي صدقي باسم «مراتي في الجهادية» وأخرجها مسرح الماجستيك باسم «28 يوم»، بماذا يحكم الجمهور؟ ولمن تكون الغلبة؟! هذا ما نتركه الآن لنلقي نظرة على الروايتين إجمالا.
أمين صدقي رجل معروف في مصر يعمل في الواقع كثيرا، ويبحث في كل مكان، ويسمع من كل لسان ما يستطيع أن يخرج به رواية كاملة. كتبت كثيرا عن بعض رواياته، ولم أتعرض له، وكان من الحق عليّ أن أحلل نفسيته للقراء ليعرفوا ولو شيئا قليلا عن الكاتب الذي يرون له في كل حين رواية على المسرح: في عهد مضى غير بعيد ظهر في فرنسا كاتب قصص هو «جاي دي موبسان» الذي لا أظن أحدا في مصر لم يقرأ قصصه في الكوكب [يقصد جريدة كوكب الشرق] وغيره. ولعلني لا أخطئ كثيرا إذا وضعت أمين صدقي في درجة «جاي دي موبسان» ليس التشبيه كاملا من جميع الوجوه، فموبسان كان يعتذر لنفسه بأنه إنما يكتب على هذه الطريقة ليظهر صورة من الحياة خافية لم يجرؤ أحد على رسمها واضحة صريحة، وأن غرضه من ذلك هو تحليل نفسية المرأة من جميع الوجوه ليصل إلى قرارها بعظة أو عبرة. أما أمين أفندي صدقي ففيه ميل دائما إلى إيراد النساء في رواياته، لا ليحلل نفسيتهن - فإن طريقة الإيراد لا تدل على شيء من ذلك - وإنما ليستغل ناحية من نواحي نفسية الجمهور الملتهبة، فيعرض عليه النساء، وأوصاف النساء، وحركات النساء، وأعمالهن التي يصح عرضها والتي لا يصح، حتى الهمس بها في مجتمع صغير فضلا عن مسرح تجمع صالته المئات من الرجال والنساء، والشبان والفتيات .. إلخ. هذه الصفة هي الغالبة في عمل أمين أفندي صدقي، فلن تجد رواية من رواياته خالية من نكتة قد تشمئز منها النفوس، أو حركة يرصدها هو للممثلة تقشعر منها لأنها لا تتفق مع المألوف عند الناس. وقد يكفيني أن أقف عند هذا الحد من نفسية أمين صدقي لأنها هي التي تتعلق بعمله المسرحي فقط، والآن نقارن بين الروايتين ونسأل: ماذا حصل من تغيير أو تبديل في الروايتين حتى ظهرتا بهذه الصورة؟! هنالك تغييرات بسيطة لا قيمة لها سواء في المواقف أو في الكلام، وإنما نريد أن نبحث في دور البطل في الروايتين:كيف دخل علي أفندي الكسار في الرواية الفرنسية، وفي العسكرية الفرنسية مع أنه بربري!؟ وكيف تطور دور «ميشونيه» حتى أصبح البطل في الرواية فأخرجه نجيب أفندي الريحاني؟
يقول الناقد في هذه المقارنة:  «عثمان فيكونت دي فيفريل» في أصل القصة محام فرنسي يدخل الجندية، فلما وقع الاختيار على دور المحامي ليكون بطلا، وبما أنه لا يوجد محام فرنسي بربري، فقد وجدوا حلا لذلك فمسحوا شخصية المحامي، وقالوا إن «الكونت دي فيفريل»، ذهب إلى مصر فأحضر معه عثمان، ولما كان الكونت ليس له أولاد يرثونه فقد تبنى عثمان فأصبح فرنسيا، وصار يُدعى «عثمان فيكونت دي فيفريل». وبهذا التغيير وجدوا مخرجا أولا ومدخلا لشخصية البربري ثانيا. أما في رواية «مراتي في الجهادية» فقد سلكوا سبيلا أخر، وكان هذا السبيل وعرا يحتم عليهم أن يخرجوا قليلا عن نظام المؤلف، ليحدث تآلف بين مواقف الرواية. وقع الاختيار على «ميشونيه» ليكون بطلا للقصة، ولكن الدور بهيكله الذي رسمه المؤلف لا يعد تماما دور البطل، إذن فلا بد من إدخال تحسينات فيه، ذلك بأن يصبح دور ميشونيه مزدوجا. على هذه الفكرة مزجوا دور ميشونية بدور «جيبار» الضابط فأصبح الدوران شخصية واحدة ألقيت إلى نجيب الريحاني ليقوم بها، فماذا ترتب على هذا التغيير؟! أما في رواية «28 يوم» فإن إسناد شخصية «فيفريل» إلى علي الكسار، استدعت أن تكون تلك الشخصية هي شخصية البطل، وعلى هذا فلا بد من تدهور جميع الشخصيات الأخرى لتظهر البطولة. فكان دور ميشونيه يزاحم شخصية البطل، وعلى ذلك لا بد من «قصقصة» ميشونيه حتى يتضاءل، وهذا ما حصل بالضبط في رواية 28 يوم. أما في رواية «مراتي في الجهادية» فقد انمحت شخصية «جيبار» فلم يعد لها أثر واستدعى هذا الخلط بين الشخصيتين بعض الاضطراب في مواقف الرواية، اضطرابا أخفته مهارة الممثل وحذقه.


سيد علي إسماعيل