العدد 833 صدر بتاريخ 14أغسطس2023
(إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع قارئي مفاده هو أن ما يهمنا بحق هو التطور المنطقي للفكرة حتى وإن كانت الفكرة ذاتها منافية للعقل، فالفكرة هي نقطة الانطلاق التي يلزمها عرض منطقي وواقعي) جوزيه ساراماغو .
هكذا كانت انطلاقات ساراماغو الفكرية دائما، فهي انطلاقات مستحيلة على أرض الواقع، لكنها تأخذنا لعوالم خيالية تناقش جوهر حياتنا المفعمة بالاضطراب، فهي تحرك فينا الساكن وتحاول جاهدة البحث عن ردود أفعالنا ومدى إيماننا بذواتنا وبما ترسخ في وجداننا وأصبح معتقدات صارمة لا تقبل المناقشة، وبهذا يصنع ساراماغو عوالم مغايرة ويضعنا في اختبارات متتالية وأسئلة فلسفية معقدة وهو ما نجده في روايته (انقطاعات الموت) والتي أعدتها دراميا الكاتبة إسراء محبوب للعرض ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته ال 16 تحت عنوان (موت معلق) من إخراج: كريم الريفي على خشبة مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون ومن تقديم طلبة المعهد .
إذ تتعرض إحدى البلاد لموت معلق حيث يكتسب الجميع الخلود فلا يموتون، هذا الخلود الذي طالما سعى إليه الإنسان وأعمل فيه فكره، بعد أن حرم منه بنزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض ليكتسبا الموت هما وذريتهم إلى الأبد، لتأتي جميع الأديان لتلوح بالخلود هناك في العالم الآخر بعد أن نموت جميعا ونحاسب فنصبح إما في جنة الخلود أو في جهنم خالدين، فالخلود موجود لكن ليس في عالمنا الأرضي المؤقت ولكن في عالم ما بعد الموت والحساب، وقد كان هذا أيضا الشغل الشاغل لمعتقدات المصريين القدماء، فهناك خلود بعد الموت وحتما سيأتي ولكن بعد موت طال أو قصر .
تبدأ المسرحية بسؤال وجودي: هل الموت نعمة أم نقمة ؟؟ لتدور في إطار التساؤل الفكري والذي يفجره انصراف الناس عن الكنيسة والإيمان بعد أن انتهت بالنسبة لهم أسطورة الموت والخلود، ويحاول القسيس في الكنيسة مساعدة الناس على اكتشاف حكمة الله من وراء اختفاء الموت من بلدتهم، لكنهم لا يدركون ذلك بل تنتشر في البلدة كل أشكال الرذيلة بعد أن شعروا أنهم غير معرضين للحساب لأنهم خالدون وهو ما يضع القسيس في مأزق نفسي مع الجميع في تفسير ما يحدث، فنجد ايزابيل الراهبة النقية التي تركت كل شيء من أجل العبادة ليأتي حدث اختفاء الموت ليضعها في امتحان نفسي عندما تشعر بالحب تجاه زوج أختها لويزا وتقع في الخطيئة والشقاء، كما يشعر الطبيب والد لورا الفتاة المريضة بعذاب نفسي متسائلا: ما الحكمة في أن تتعذب طفلة دون أن تموت أو تعيش سعيدة ؟؟.
من هنا تحدث حالة من البلبلة الفكرية في هذه المدينة وما حولها، ففي حين تأتي حشود من البلاد المجاورة حولها كي تدخل هذه المدينة الخالدة رغبة في الخلود، يشعر أهل البلدة بأزمة كبرى بعد أن اختفى الموت وعانى المرضى من أمراضهم بلا نهاية، وعانت أسرهم من شقاء وثقل رعايتهم، وهو ما يتجسد في والد ايزابيل ولويزا الرجل العجوز الذي يعاني المرض العضال بلا انتهاء وتقوم لويزا ابنته - التي تشعر بالظلم لأنه لا يحبها بقدر أختها – برعايته في ضيق وألم، وعندما تأتي الراهبة ايزابيل لزيارة والدها المريض وهي حزينة ومشفقة عليه من الألم المستمر يخبر الجميع بأنه حلم بالشجرة التي يجب أن يموت ويدفن عندها، وتجد لويزا في هذا راحة لها لكن زوجها مساعد طبيب البلدة يحذرها من معرفة الجيران بهذا الأمر لأن الشرطة قد أغلقت الحدود فلا يدخل ولا يخرج أحد من البلدة، لكنهم رغم ذلك يتحايلون على الموقف دون إخبار أحد ويموت الأب بالفعل ويدفن بمعرفة حفار القبور الذي يعرف سر الشجرة التي تذكرنا بالشجرة التي أكل منها آدم وحواء في الجنة قبل نزولهما إلى الأرض ليصبحا غير خالدين، فكأن الشجرة الأرضية هنا تقوم بنفس الدور، وهو ما يجعل حفار القبور بمساعدة مساعد الطبيب يستغل هذا في الحصول على الأموال من أهل المرضى أصحاب الموت المعلق حيث لا يستطيعون الموت رغم مرضهم العضال، في مقابل خروج هؤلاء المرضى من البلدة إلى الشجرة فيموتون ويدفنون، وتساعد لويزا زوجها في ذلك وهي ممرضة طبيب البلدة والذي تعاني ابنته من مرض عضال مثلما عانت أمها المتوفية بنفس المرض .
ويحاول هذا الطبيب أن يجري أبحاثا على الموتى المعلقين حتى يستطيع اكتشاف علاج لابنته عن طريق تشريحهم فيبتزه مساعده بعد أن واجهه الطبيب بجريمة خروج الموتى من المستشفى وموتهم ودفنهم مقابل المال، ويخبره المساعد عن نيته في إبلاغ الشرطة عن جريمته إذا وشى به، فيضطر الطبيب للتراجع بل ويتعاون مع حفار القبور بعد أن يئس من علاج ابنته من أجل أن تموت هناك خارج البلدة حتى ترتاح من آلامها وهو ما يحدث في نهاية المسرحية بالفعل .
أما لويزا زوجة مساعد الطبيب فهي تشعر بالحقد على أختها ايزابيل لأن أباهما قد أحب ايزابيل أكثر منها لهذا فهي حانقة عليها وترفض وجودها وتتمنى أن تعود للكنيسة مرة أخرى، تلك الكنيسة التي شعر الجميع ومنهم ايزابيل بهشاشة أفكارها إزاء خلود تسبب في شقاء البلدة وليس إسعادهم كما كان يعتقد الجميع، فعندما تموت لورا ابنة الطبيب على يد حفار القبور ويدفنها ينتحر الطبيب يائسا، في حين يضحك حفار القبور الذي يرى أن البشر أجمل حين يموتون، هذه الأفكار التي لم تواتيه إلا بعد أن رأى أمه في طفولته وهي تقتل أباه مما خلق بداخله شغفا بالموت، ليدفن بعدها أمه التي مات كل أبنائها وجنت وأصبحت حالتها ميئوس منها، أما القسيس فهو يتوسل إلى الله كي يغيثه من شقاء الخلود الذي أصاب الناس فانصرفوا عن عبادة الله والإيمان بقدرته، ليفاجأ الجميع بعودة الموت مرة أخرى كنجاة للبشر وللبلدة من الخطايا التي ارتكبوها بعد أن أدرك الجميع حكمة الله في الكون عندما أنزل الموت رحمة للبشرية .
هذا الإطار الفكري والدرامي الذي سيطر على أحداث المسرحية تخلله مشاهد كوميدية رغبة في التخفيف من توتر الأحداث من جهة والشخصيات من جهة أخرى لتشكل عناصر العرض المسرحي موت مؤقت تكاملا فنيا عبر الأداء الدرامي الذي قدمه كل من (مريم كامل، وحازم السعيد، محمد يسري، وميرنا الجوهري، وشروق إبراهيم، وزياد هاني، وجورج أشرف، ومحمد شحاته، ومصطفى عبد المنعم، وتغريد عبد الرحمن) والديكور الذي جاء معبرا عن ذلك التقابل بين الكنيسة ذات المستوى الأعلى والبلدة ذات المستوى الأدنى، والشجرة خارج البلدة مع تشكيلات رمزية لمصمم الديكور سامح محمد وتنفيذ الديكور لتقى مجدي والإضاءة لوليد درويش والتي جاءت موحية عن حالة الشقاء والصراع الفكري والنفسي عن طريق البؤر الضوئية من جهة والإنارة من جهة أخرى، والموسيقى لأحمد حسني التي جاءت موحية لكنها كانت أعلى قليلا من الحوار الدرامي في بعض الأحيان لكنها عبرت عن أجواء العمل، وكذلك الأشعار لأحمد سمير التي تكاملت مع النص الدرامي بشكل مؤثر ومعبر، والاستعراضات لمحمد البحيري التي تكاملت مع الإيقاع البصري للعرض وأكدت على الفكرة التي استطاعت المعدة إسراء محبوب تقديمها في صورة درامية رائعة عبر التشكيل السمعي والبصري والرؤية الفنية المتكاملة للمخرج كريم الريفي لرواية تعد من أهم و أقوى روايات الأديب جوزيه ساراماغو .