قبل الخروج عرض مغاير يحلم بالخروج

قبل الخروج  عرض مغاير يحلم بالخروج

العدد 829 صدر بتاريخ 17يوليو2023

قدمت فرقة مسرح الشباب التابعة للبيت الفني للمسرح على مسرح أوبرا ملك العرض المسرحي قبل الخروج برؤية درامية وإخراج للمخرج (هاني السيد)عن بعض النصوص للمؤلف (محمد زناتي) وهذه النصوص (امرأة البرواز، امرأة الصندوق، المربع) وقام بتقديم العمل بتقنية المسرح داخل المسرح، وقام بالمزج بين عوالم مختلفة لثلاثة شخصيات (ممثلين) جمع بينهم حب التمثيل على خشبة المسرح وقد تم استدعاء تلك الشخصيات من قبل مخرج ما، هذا المخرج لا يظهر مطلقا في العرض؛ لكن رمز لوجوده في العرض بكشاف إضاءة معلق، موضوع بجوار حائط في صالة العرض بجوار الصف الثاني لمقاعد الجمهور، فهذا المخرج هو الشخصية الغائبة بالجسد، الحاضرة بالتعبير الضوئي، وقد قام المخرج بعمل كولاج وربط بين هذه النصوص برؤية درامية طوعها في شكل عرض مسرحي قائم على فكرة تمرد الإنسان، حيث تتمرد الشخصيات الثلاثة التي استدعاها المخرج على واقعها التي تعيشه، فلكل منهم تصوره الخاص لحياته في المستقبل، ويحلم كل منهم بشيء ما يحقق له حياة افضل. 
قدم لنا المخرج ثلاث حكايات أبطالها الثلاث شخصيات التي استدعاها المخرج.
 من خلال العرض نتعرف على حالة تلك الشخصيات وماذا حدث لها قبل الخروج وهل حققت ما تحلم به.

الحكاية الأولي: امرأة البرواز (شريهان قطب) 
هي ممثلة شابة ناشئة متمردة، تتمرد على مخرج عرض مسرحي وهي تريد في بداية حياتها الفنية أن تلعب دور أنتيجون، التي تعتبر من أشهر الشخصيات النسائية المتمردة في تاريخ المسرح العالمي، والتي عبرت عن الثورة النسائية ضد القهر، ولذلك اختارت أن تجسد هذه الشخصية التي ترمز للتمرد والثورة، فامرأة البرواز متمردة على واقع فرضه عليها المخرج والذي أسند لها دور أم لطفل يؤدي دورة رجل كبير (ممدوح الميري) وهي متزوجة من زوج (محمد عبد الوهاب) يقهرها دائماً ولهذا الطفل جد (إبراهيم البيه) وجدة (إيمان الغنيمي) الجد والجدة منحرفان أخلاقياً، فكل منهما يقيم علاقات جنسية غير شرعية ويعتبران ذلك مسألة عادية، ونرى الابن الذي يقوم بدور الزوج لا يستنكر ذلك؛ لدرجة الظهور الدائم لعشيق الأم (عادل دياب) في وجود العائلة والجيران (أحمد طارق - محمد أبو حفيظه – حسن البرنس – ديمه إبراهيم) فالأم تجلس وسط الزوج والعشيق، ونرى تمرد هذه الممثلة الناشئة ورفضها قبول الاشتراك بالتمثيل في هذه المسرحية الهزلية، على الرغم من محاولات الفرقة باقناعها بالتمثيل معهم.
الحكاية الثانية: رجل خيال الظل (أحمد صبري غباشي)
هو شخص يقبع خلف ستارة بيضاء ويحرك بعض العرائس، وهذه الستارة تمثل شاشة عرض لعرائس خيال الظل، هذا الشخص يتمنى أن يجئ يوماً ما يظهر فيه للجمهور ويمثل أمامه دور هاملت، ونقول أن اختياره  لهذه الشخصية للتعبير عما بداخله  فهو لديه مشكلة تخصه بأن يكون أو لا يكون، ويتضح خلال احداث العرض أن هذا الرجل يعاني من شيء ما في حياته وذادت معاناته عندما إمتهن هذه المهنة، فهذه الستارة وتلك الدمى اختزلت أدائه وسرقت تعبيراته الصوتية والجسدية، فعندما تخيل في لحظة ما فرصة ظهوره على المسرح لتجسيد شخصية هاملت؛ لم يستطع تحقيق حلمه فهو شخصية مهزومة، سيطرت عليه معاناته، ونجد على سبيل المثال انه يتغزل في دمية صنعها على شكل فتاة، هذا الرجل يعاني من القهر والكبت الجنسي.

الحكاية الثالثة: امرأة الصندوق (لمياء جعفر)
هي ممثلة كبيرة في السن قررت أن تغادر المدينة التي عاشت فيها عمراً طويلاً كممثلة لم تتمرد طوال حياتها رغم أنها ممثلة تم حصارها في أداء دور واحد متكرر في كل أعمالها، وفي لحظة ما قررت التمرد على الماضي وقررت أن تخرج من المدينة إلى مكان أخر فذهبت لتستقل القطار حاملة في يدها صندوق صغير، وفي محطة القطار نجد ناظر المحطة (محمد عبد الوهاب) يريد أن يفتش الصندوق، هذا الصندوق يمثل صندوق ذكرياتها، ملئ بالألآم والأحلام وغير ذلك، ومن الطبيعي أنه لا يستطيع أحداً مهما كان، ومهما مَاْرَسَ عليها من ضغوط أن يفتح الصندوق ويطلع على المحفوظ  بداخله، فهي الوحيدة القادرة على فتحة والبوح بأسرارها، وقد حملت الممثلة صندوق صغير بالفعل وعبرت بالحوار على صعوبة فتحة بكل الوسائل الممكنة لسهولة فهم المتلقي للحكاية.
قدم لنا المخرج رؤيته الدرامية بحبكة إستاتيكية وصراع ينبع من اغوار النفس البشرية للشخصيات، والذي ينتج من طرح مشكلة شخصية مشتركة وهي الحب الحقيقي لمهنة التمثيل وتحقيق الذات؛ لكن تصطدم تلك الشخصيات بالواقع الأليم المر، وقد أثر ذلك على سير الأحداث ودفعها للأمام، ومثال لذلك نجد امرأة البرواز في صراع نفسي لتحقيق حلمها وتجسيد دور أنتيجون، لكن هذا الصراع يوضح لنا أحداث أخري تظهر صراعاً أخر بينها وبين المخرج والفرقة المسرحية التي تقوم بأداء أدوار أسرتها وجيرانها فنجد زوجها في الحكاية يقهرها عندما يعطيه والده وشاح كريون فيرتديه ويقوم بدور كريون الذي قهر أنتيجون ويقول «إن الحديد الأكثر صلابة هو الذي سرعان ما ينكسر .. وهذا كثيرٌ على عَبْدَةٌ أو أسيرةٌ في مدينتي» وفي مشاهد أخرى عبثية يسخر منها أمام الجميع ويؤدي ذلك في النهاية لقهرها وتحطيم حلمها، فهذا العرض يمزح بين المعقول والا معقول.
عبرت الملابس (ديكور وملابس: محمد هاشم) عن ابعاد الشخصيات والتمثيل داخل التمثيل فنجد رجل الظل يرتدي العفريتة التي يرتديها العمال عندما كان يجلس منهمكا في عملة، لكنة عندما يتخيل أنه يمثل دور هاملت نجده يرتدي حرملة سوداء على ملابسه، كذلك ترتدي امرأة البرواز ملابس إغريقية لتعيش في شخصية أنتيجون، وترتدي امرأة الصندوق ملابس توحي بأبعاد تراثية للشخصية لتعبر عن تقدم العمر وتاريخها القديم الذي يثير المتلقي للتعرف عليه وبيدها طرحة تضعها احيانا على رأسها حسب الموقف الدرامي اما باقي الممثلين فهي ملابس مناسبة ومعبرة عن كل شخصية، وكذلك ملابس ناظر المحطة
عندما نتحدث عن طريقة تنفذ المخرج لرؤيته البصرية نقول إنه جَزَّءَ خشبة المسرح إلى جزئيين، وكان الجزء علي يسار المسرح يعادل ثلثين مساحة الخشبة وعرض فيها حكاية امرأة البرواز، فهي منطقة التمثيل للفرقة المسرحية والثلث الباقي فيها حكاية امرأة الصندوق، فكان يمثل مكان الانتظار في محطة القطار وقد أضاف جزء ثالث لخشبة المسرح بوجود برتكبل على يسار خشبة المسرح يمتد من البداية إلى منتصف الخشبة عند سلالم صعود وهبوط الممثلين بارتفاع يقل 40 سم تقريباً عن خشبة المسرح، ويمثل المكان العالم الخاص برجل الظل، وفي لحظات قليلة دمج المخرج بين أجزاء المسرح الثلاث وهذه الأماكن تمثل المعادل الموضوعي للعالم، وقد شكل الفراغ المسرحي أماكن كثيرة بحركة الممثلين وتغير الملابس، ودخول أو خروج بعض قطع من الديكور من وإلى خشبة المسرح مثل حركة بلكونة الجيران وبعض البوفات الخشبية اوتغير أماكن لبعض قطع الديكور والإكسسوار مثل بانوهات لخيال الظل وتحريكها من منتصف جانب يمين المسرح ووضعها في منتصف المسرح (في الجزء المخصص لامرأة البرواز) وشنط السفر والتي تعبر عن وجود عدد من الركاب في انتظار القطار.
أما بالنسبة للموسيقى (محمد قابيل) عبرت عن المواقف الدرامية لخدمة العرض، وكانت الآلات الوترية هي المسيطرة في معظم موسيقى العرض فمثلاً نسمع صوت يظهر بوضوح للكمان ويبطنها صوت بيانو والتي تعبر عن الشعور الطفولي لرجل الظل عندما يقوم برسم بعض الدوائر بالطباشير على خشبة المسرح، ونسمع صوت لنفس الآلات ولكن بحالة مختلفة معبرة عن حالة الانهزام لرجل الظل الذي لا يستطيع أداء دور هاملت ، وكذلك حالة الانهيار واليأس لدى ناظر المحطة عندما ييأس من فتح الصندوق في حكاية امرأة الصندوق ويقول لها (هذا المغلق يتحدى سلطة نفاذي إلى الأشياء وتفتيشها)، وفي نفس حكاية امرأة الصندوق نسمع موسيقى  بأداء أخر لنفس الآلات للتعبير عن الصراع بين ناظر المحطة وامرأة الصندوق عندما أراد أن ينزع منها الصندوق بالقوة، كما نسمع موسيقى تعبر عن العبث للعائلة والجيران في حكاية امرأة البرواز فنسمع ألآت النفخ والإيقاع. 
تميزت الإضاءة (أبو بكر الشريف) بالتركيز على اللوحات الثابتة وكأنها إضاءة سينمائية وذلك للتركيز على أن هذا عرض تمثيلي في الأساس، كما أن فكرة وجود كشاف يعبر عن وجود المخرج اعطي للعرض بعد درامي بوجود شخص يتحدث معه الممثلين، وكذلك الكشاف المضيء في عمق المسرح وإضافة بعض قطع الديكور في عمق المسرح ليعطي صورة جمالية بالوان مختلفة وتم استخدام اللون الأصفر والازرق في معظم فترات العرض، ومزج بين الشخصيات في الحكايات الثلاث بالظل والنور ليؤكد على وحدة العرض فنجد على سبيل المثال تركيز الإضاءة على رجل خيال الظل وهو يتحدث وفي الخلفية يسلط ضوء خافت على امرأة البرواز كأنها طيف، وتزداد شدة الإضاءة أو تقل على حسب أهمية الحوار والتعبير النفسي للممثل في المشهد الواحد ومدي لفت نظر الجمهور للموقف، واستخدم الشريف أكثر من مصدر للإضاءة، مثل استخدامه لدش إضاءة على الممثلين ومصدر من كشاف موجود أعلى مقاعد جلوس المتلقي  في مشهد الصراع بين ناظر المحطة وامرأة الصندوق فنلاحظ وهج ضوئي على أحدهم ويقل على الأخر، ثم يحدث العكس، ليعبر عن من سيفوز منهم بالاحتفاظ بالصندوق،
مزج المخرج بين العديد من الأساليب المسرحية منها الواقعي والعبثي وتكنيك كشف اللعبة المسرحية، فقد استخدام الأسلوب المناسب لكل حكاية او مسرحية من الحكايات الثلاثة، فكان الأداء الواقعي مع رجل الظل، وأداء المبالغة في حكاية سيدة البرواز حيث أنه تشخيص داخل التشخيص، وكذلك الأداء المقولب لبعض الشخصيات النمطية، ويتضح ذلك أيضا من أسماء الشخصيات (الزوجة، الجد، الجدة، العشيق، الجيران... وهكذا) وهي من سمات التعبيرية، وكذلك ما بعد الحداثة، فالعرض بشكل عام  به تناص في مشهدي هاملت وأنتيجون، وكذلك العرض مستلهم من عدة نصوص والشخصيات قاهرة وأخري مهزومة والعرض به سخرية، كما نرى مشهد يوضح انغماس الإنسان في عوالم فاسدة زائفة ويحفز العرض على الخروج من هذه العوالم، ولذلك يتفاعل المتلقي مع العرض الذي  يحثه على الوقوف ضد هذا الفعل الذي قدم بطريقة هزلية. 
أشرك المخرج المتلقي في اللعبة المسرحية بإضاءة كشاف في عمق يمين المسرح في وجه المتلقي وصعود أنتيجون من صالة جلوس المتلقي إلى خشبة المسرح، ويؤكد على ذلك صراحة من خلال كلمات على لسان رجل الظل «هذه المقاعد ليست بريئة من ما أنا فيه”.
وفي نهاية المطاف أستطيع القول بأنني شاهدت هذا العرض ثلاث مرات، وشاهدت تطوراً وإجراء بعض التعديلات ولكن من وجهة نظرنا أقول إن العرض يحتمل الكثير من التفسيرات وينتمي إلى حد كبير إلى ما يمكن تسميته بعروض ما بعد الحداثة التي تحتاج إلى مشاهد قادر على تفكيك العرض وخلق رؤية خاصة به، فكل ما يشاهده ما هو إلا علامات دالة وعليه أن يفسرها، فهو عرض يبحث عن جمهوره،  حيث أنه يوجد أكثر من مستوى تلقي، ولذلك ومن وجهة نظرنا أرجو من المخرج أن يهتم في عروضه القادمة ان يقدم لنا أشكالاً فنية أخرى تجذب شرائح كثيرة من الجمهور.
تنافس كل الممثلين في تقديم وجبة شهية من الأداء التمثيلي استمتعت بها، فلا أستطيع أن أفضل أحدهما على الأخر فالجميع تميزوا، ولذلك أوجه لهم جميعاً التحية، وكذلك التحية واجبة للمؤلف محمد زناتي والمخرج المتمكن هاني السيد ومدير مسرح الشباب الفنان سامح بسيوني وكل من ساهم في خروج هذا العرض للنور.


جمال الفيشاوي