العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023
صدر مؤخرا كتاب (الكتابة النصية للجسد.. دراسة في فنون الأداء المسرحي)
عن مؤسسة دار الصادق الثقافية
العراق - بابل للأستاذ الدكتور نشأت مبارك عميد كلية الفنون الجميلة - جامعة الموصل
ويتناول الكتاب فكرة أن الممثل يظل العلامة الأهم بين العلامات الثابتة أو المتحركة في العرض المسرحي، وبرغم مرور السنوات وتغيُر وتبدّل الرؤى الإخراجية في المسرح العالمي وظهور المدارس والأساليب الإخراجية المستحدثة، فإن هذه العلامة –الممثل- حافظت على وجودها الساحر وبقيت متصدرة المشهد في العرض المسرحي.
وفي إطلالة سريعة على رؤى المخرجين المسرحيين العالميين، سنجد أن الممثل بقي أسيرًا لتوجهاتهم، إلا أن هذا الأسر قد تباين في حجمه ودوره من مخرج إلى آخر، فمنهم من ضيَّق على الممثل في عمله وألزمه إلزامًا قسريًّا أن يمتثل لتوجهاته ورؤاه، وأن لا ينفك عن قيده. ومنهم –أي المخرجين- من نأى بنفسه إلى الجانب المعاكس لما وقف عليه المخرجون أصحاب القيود، بأن منح الممثل حرية التنفس والتعبير عن شخصيته الدرامية بما يمتلكه من خزين وجداني وقابليات فنية واجتهادات ذاتية. وهناك طرف ثالث وقف في متوسط الطريق، فأخذ من الطرفين وتأثر بهما إلا أنه شقَّ لنفسه مسارًا إبداعيًّا مغايرًا.
والحال، أن الممثل يبقى هو الكل المتكامل الذي يعوَّل عليه في العرض المسرحي، خصوصًا وأن الأساليب الإخراجية الحديثة منحت الممثل مسئولية أكبر في تواصلية العرض المسرحي بعد أن كانت عناصر العرض (الممثل، المنظر، الإضاءة، الاكسسوارات.. وغيرها) تتجمع في واحدية كلية؛ لتمرير غايات المؤلف المسرحي ورؤى المخرج، وهذه المسئولية الجديدة تنبثق من الممثل نفسه، من كيانه المادي (الجسد) والمعنوي (التعبير). وخصوصًا بعدما أثبتت الرؤى الحداثوية أن الملفوظ الجسدي (العلاماتي) يساوي أو يقابل في قيمته الملفوظ اللساني (الكلمات)، خصوصًا مع انبثاق علم العلامات الذي شاع في القرن العشرين وهيأ الطريق أمام المتلقين لمغادرة أسر الملفوظ اللساني الضيق إلى الملفوظ النصي العلاماتي الذي يمنح المتلقين دفق التلقي والتواصل.
إن الاهتمام بالجسد بوصفه لغة، جعل المخرجين يتطلعون إلى تهذيبه تهذيبًا فنيًّا عن طريق التدريب الممنهج ووضع التمرينات الخاصة بزيادة فاعليته وتنشيط دوره في الفضاء المسرحي. ولذلك جدَّ المخرجون برفع مستويات الجسد وعدوه صاحب الجذوة والشرارة والباعث القوي في تفعيل العرض المسرحي، وبنظرهم هذا لا يمكن أن يتم من دون الاهتمام بأنماط التدريب القادرة على تطويع أجساد الممثلين وجعلها قادرة على فعل كل شيء مما يستلزم الإعداد المستمر.
فالمخرجون المعاصرون وجدوا أن جسد الممثل كي يأخذ طريقه إلى مبتغاهم وينفذ ما يريدون منه، عليهم أن يتعاملوا معه بهدوء وسكينة حتى يتسنى له أن يعبر عن ذاته بأشكال متنوعة وشديدة الاختلاف وفي كل المواقف المرسومة للممثلين. وحتى يزيد هؤلاء المخرجون من دفق الممثل وجسده داخل فضاء العرض، حاولوا تأسيس روابط بين جسد الممثل وعناصر العرض الأخرى ضمن فضاء السينوغرافيا، وهذا ما منح الممثل مسئولية مضافة إلى مسئوليته اللابسة للباس الشخصية الممثَّلة، فالمسرح الحديث يلزم الممثل أن يعتني بجسده بوصفه علامة باثة لدلالات عديدة ومتغيرة أو ثابتة، وأن ينتبه الجسد لكينونته وماهيته من جهة، وأن ينتبه إلى تفعيل نسق الروابط التي تربطه بعناصر العرض الأخرى، وهذه مسئولية مضافة أضيفت إلى وظائفه التي اعتدنا عليها.
وكلما أوغلنا في تقدمنا نحو الحاضر كلما عكس لنا جسد الممثل صورة الاستحداث الذي هيَّمن على البشرية، فأصبح جسد الممثل دالًا على الاضطرابات الاجتماعية والعادات والتقاليد أو الفنون الأخرى، ويُعبِّر عنها عبر حركات تفاعل معها الجمهور، ووصل هذا التفاعل إلى حد التماهي بين الممثل (الباث) والمتلقي (المستقبل).
إن الجسد بهذا المنوال، وهذه الأهمية، نبَّه العديد من الباحثين إلى أن يولوه مقامًا عاليًا، وأن يتخذوه موضوعًا لهم في دراساتهم البحثية والأكاديمية، وأن يسلطوا الأضواء عليه سواء في الجانب التنظيري أو التطبيقي. فظهرت إلى الوجود العديد من الدراسات المهمة التي درست الممثل وجسده، ووضعت لهذا الهدف القوانين والمرتكزات والقواعد.
ويُعد الكتاب من الدراسات المتميزة للأستاذ الدكتور نشأت مبارك صليوا، الذي يُعد في أصله أطروحة دكتوراه بجامعة بابل – كلية الفنون الجميلة، التي نوقشت من لجنة موقَّرة في سنة 2012 وحملت عنوانًا رئيسًا (الأداء النصي للجسد في منظومة العرض المسرحي العراقي) حاول فيها الدكتور نشأت أن يغور في متن عمل الممثل وجسده، وأن يستشرف كل التنظيرات الخاصة بهذا الموضوع، وأن يستعرضها ويناقشها، يتفق معها في مرات ويتقاطع معها في مرات أخرى، وغايته في ذلك الوصول إلى أسمى النتائج البحثية التي توصل إليها مع مرتبة الشرف.
ويشتمل هذا الإصدار على مقدمة وتمهيد وخمسة فصول.
وكان عنوان الفصل الأول «الجسد في الفكر الفلسفي والإنثوغرافي»، والفصل الثاني بعنوان «الأداء النصي للجسد في الخطاب المسرحي»، وتناول الفصل الثالث «جماليات هندسة السينوغرافيا في الاتجاهات المسرحية المعاصرة»، وعنون الرابع بـ»تحليل العينة»، وتضمن الفصل الخامس «الخاتمة والمصادر والملاحق والصور».
جدير بالذكر أن الأستاذ الدكتور نشأت مبارك هو عميد كلية الفنون الجميلة - جامعة الموصل، من مواليد 1978 حاصل على “بكالوريوس فنون مسرحية قسم التمثيل، ماجستير فنون مسرحية اختصاص التمثيل المسرحي، دكتوراه فنون مسرحية فلسفة التمثيل المسرحي”.
صدر له كتاب “أساليب الأداء التمثيلي عبر العصور”، أشرف وناقش العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات العراقية، ونشر العديد من البحوث والدراسات في المستوعبات العالمية والمجلات العربية والمحلية.