دراسات الدراما والأداء (2)

دراسات الدراما  والأداء (2)

العدد 797 صدر بتاريخ 5ديسمبر2022

 وعلي الرغم من أن نموذج لويس ربما يقترح أن تطورات التغير الاجتماعي يمكن أن تتأصل في المفاهيم والأفكار , فانه يؤكد أن العكس هو الصحيح : في الممارسة الثقافية , تتأصل عمليات التغير مبدئيا في التجربة المتجسدة . والاعتماد علي مفهوم ميرلوبونتي لمخطط الجسم , حيث تتطور الشخصية من خلال التزاوج بين الخبرة الإدراكية والمتجسدة بمرور الزمن , يقترح لويس أنه يتم التفاوض علي  الأداء الثقافي وتغيراته خلال ممارسات اللعب من خلال ذاتية مشتركة علي أساس الخبرة بين الجسدية . وبالتالي يتطور أداء الذات الاجتماعي منذ الولادة من خلال أنماط متماسكة للوجود باعتباره “ وجودا مع الآخرين ووجودا بدونهم “ .
 وفي الفصل الأخير من الكتاب , يقدم لويس تأملات أوسع في مجال دراسات الأداء , علاوة علي رؤية للصيغة البيئية للأداء الثقافي الذي يتصور أنه يستطيع أن يساهم في بقاء البشر علي المدى الطويل والكائنات المصاحبة لنا في هذا الكوكب الهش . من الأمور المركزية في نقده لمنهجيات ما بعد البنيوية تحليل فيليب أوسلاندر للحيوية Liveness , اذ يجادل لويس بأن اقتراح فيليب أوسلاندر بأن الحي والوسيط اللذان لا يقومان الاختلاف الأنطولوجي , يقومان علي خلل منهجي . وحجة أوسلاندر بأنه لم تكن هناك عروض حية قبل ابتكار وسائط التسجيل لأن مصطلح حي الذي لم يكن موجودا يقوم علي تصنيف خاطئ : المفاهيم واللغة يتبعان التجارب , فضلا عن العكس . وبدلا من ذلك يجادل لويس بأن التمييز بين الحي والوسيط هو في الحقيقة مسألة درجة التوسيط . فكل شيء نفهمه يتم توسيطه فعلا , علي الأقل بواسطة حواسنا , ولكن بعض العروض يتم توسيطها بدرجة أكبر من عروض أخرى , وأحيانا من خلال وسائل تكنولوجية .
 وتقدم ملحوظة الفصل تأملا للثقافة المعاصرة في المجتمعات الغربية . فإذا عرفنا الثقافة بأنها عوالم حياة الإنسان , حيث يتم مشاركة الممارسات علي نطاق واسع بين مجموعات صغيرة من الناس , إذ يجب أن نفهم أغلب المجتمعات المعاصرة علي أنها “ شبيهة بالثقافة culture-like” , بدلا من فهمها علي أنها “ثقافية” بالمعنى الصحيح للكلمة . ويجادل لويس بأن ثقافات المستهلكين الفردية والمجزأة , ولم يتبق سوى عدد قليل جدا من الممارسات المشتركة , ويقترح أن كلا من برامج تليفزيون الواقع وفن الأداء هي أعراض لهذه الحالة . ولأن كلى الشكلين يميلان الى طمس الحدود بين الأحداث العادية والأحداث الخاصة , فانهما يشاركان في زوال الأحداث الخاصة الملائمة كمجال يكن أن تتطور فيه الممارسات الثقافية المشتركة . ويبدو هذا المنظور غريبا نوعا ما عند تحليله بمصطلحات لويس . وعلي مدار الكتاب هناك مراجع للنزعة الفردية وتجانس ميول ثقافة المستهلك . وبتأمل هذا , يبدو مدهشا أن لويس لا يبدو أنه يتأمل الاعتقاد السائد في النزعة الرأسمالية الليبرالية الجديدة وتركيزها علي الفرد علي مدار المجتمعات الغربية المعاصرة باعتبارها الممارسة الأوسع مشاركة بمعنى التعريف المذكور آنفا للثقافة. ففي داخل هذه الثقافة يعمل تليفزيون الحقيقة باعتباره أقصى التعزيز , الذي يقترح انه لا يوجد شيء فيما وراء رتابة النزعة الاستهلاكية العادية . وعلي نفس الخط الفكري , فان ممارسات فن الأداء التي تمزج باستمرار مفاهيم الأداء العادية والأداء الخاص بطرق متنوعة , يمكنها أن تؤثر أيضا في تحييد التجانس المنطقي لتليفزيون الحقيقة وتوضح عشوائية تأطير تليفزيون الحقيقة لأنواع معينة من الأداء اليومي العادي باعتباره أداء مهما .
     وفي خاتمة الكتاب , يدعو لويس الى تناول بيئي للأداء الثقافي الذي يبني علي نظرية بيلوجية فعالة تقترح أن البيئة والكائنات يحددان كل منهما الآخر بشكل متبادل . وتبعا لذلك , من الضروري المشاركة المتعمقة وإعادة الاتصال بين الناس في موطنهم من أجل بناء ثقافة مستدامة . ويمكن أن تكون أحد طرق انجاز هذا من خلال الممارسات الطقسية التي تركز علي الإصلاح , حيث تتطور عوالم الحياة المستدامة من خلال المشاركة في العمليات التفاعلية المشتركة بالاشتراك مع البيئة . لأن الممارسات الطقسية ركزت فقط علي الإصلاح توظف بشكل ملائم في المجتمعات الأصغر حجما , فان لويس يحث علي تأمل كيفية تطبيق تقنيات الاتصال لاعادة انشاء المجتمعات الثقافة الأصغر , بدلا من السعي وراء ثقافة عولمية .
     وقد نشر كتاب ميجيل سيكارت “ اللعب مهم Play Matters “ (2014) كجزء من سلسلة MIT الجديدة “ التفكير المرح “ , والتي تركز دراسة الألعاب والثقافة ( الكمبيوتر بشكل أساسي ) . وتستهدف هذه السلسلة الجمهور ذا الخلفيات الأكاديمية وغير الأكاديمية ولذلك بذل سيكارت جهدا لدمج عرض الأفكار الأصيلة التي بُحثت بشكل شامل مع اطار سياقي يسهل الوصول إليه ولا يفترض معرفة مسبقة بالمجال من قبل . وفضلا عن أن كتاب سيكارت عن الألعاب في حد ذاتها , فانه يختص بمفهوم اللعب في علاقته بكل من الفعاليات العادية وموقف اللعب الشكلي . ويجادل سيكارت أنه بالرغم من أن الألعاب – ولاسيما ألعاب الفيديو – حاضرة في الثقافة المعاصرة , وليست مهمة في ذاتها . فالملائم هو أن الناس يلعبون – في الألعاب , ولكن أيضا في مواقف أقل شكلية . وترديدا لأصداء لتأملات لويس حول اللعب , يتأمل سيكارت اللعب والمرح باعتبارهما المقومان   الضروريان للتطور الثقافي والتغير . وعلي الغم من عدم تعريفه صراحة هكذا , يتبع سيكارت أيضا منهجا بنيويا في تحليله لسمات ومعاني واستخدامات اللعب والمرح .
     وبتمييز استحالة تحديد تعريف شامل للعب , يبدأ الفصل الأول بقائمة لخصائص اللعب : اللعب سياقي , اذ أن قواعده ومعانيه تعتمد علي الإطار الثقافي الأوسع الذي يحدث فيه ؛ وهو في نفس الوقت آلي autotellic لأن له أهدافه وأغراضه , بالإضافة الى مجموعة من القواعد ومدة ؛ اللعب حوازي ومعطل في قدرته علي التأثير وأحيانا تحويل وتعطيل البيئة التي يحدث فيها , اللعب كرنفالي , من خلال تفاوضه بين الإبداع والتعطيل , وغالبا ما يكون مصحوبا بالضحك , واللعب ابداعي وشخصي من خلال تيسيره لتعبير اللاعبين عن أنفسهم في علاقتهم بالقواعد .
      تستخدم قائمة الخصائص الواسعة هذه كأساس للتمييز بين اللعب والمرح . ففي حين أن الأول نشاط تلقائي , يتميز الأخير بأنه طريقة للمشاركة في سياقات وأشياء معينة مماثلة للعب لكنها تحترم أهداف وأغراض هذا الشيء أو السياق . ويشير سيكارت إلى أمثلة تصميم المرح علي صفحات مستخدم الكمبيوتر , مثل نوافذ برامج  الانكماش المتحركة  في نظام تشغيل Mac OS X  , وأنشطة الحياة العادية مثل المغازلة flirting . وبالتالي , فان المرح , بعكس اللعب , الذي هو نشاط تلقائي , فانه موقف تجاه الفعاليات التي ليست في ذاتها لعب . وبينما يترك سيكارت هذين التصنيفين منفصلين بوضوح , فمن المهم أن نفكر خلال هذا الانقسام في السيناريوهات حيث يمكن أن يصبح التمييز أقل وضوحا في تجربة الذات , عندما نتأمل اللعب مثلا في لعبة الفيديو “ محاكاة الطيران “ في علاقتها بمرح بيئة لعبة الطائرة بدون طيار في قاعدة كريش في نيفادا بالولايات المتحدة الأمريكية .
     يتم تحديد اللعب والمرح معا علي أنهما مكونان لما يسميه سيكارت “بيئة اللعب” التي هي صميم تكوين الثقافة . وفي داخل هذه البيئة, تأخذ لعب الأطفال المكان الرئيسي : فهي الأشياء المادية التي تسهل اللعب خلال تخصيص المساحة . بمعنى آخر , توظف لعب الأطفال كأدوات في بيئة اللعب . وبالمثل فان الأفنية هي ترتيبات معينة للمكان الذي يسهل اللعب ويؤثر فيه . وبناء علي هذا الفهم للعب الأطفال والأفنية , يرفض سيكارت مصطلح “ مصمم اللعبة “ ويقترح بديل له هو “مهندس اللعب” . و مصمم اللعب مثل مصمم المباني يبتكر أشياء وأماكن بإشارات دالة علي السلوك مفتوحة للمستخدمين للتعديل .
     وبتأمل مكان اللعب الأساسي في الثقافة , فان لهذه الممارسة المعمارية بعدا سياسيا مهما . سوف يسهل الشكل المحدد لبيئات اللعب المادية أنواعا معينة من اللعب بسهولة أكثر , وتقلل من احتمال حدوث أنواع أخرى , وبالتالي تؤثر في التغيير الثقافي . وفي نفس الوقت , يمكن أن يشكل البعد التلقائي في اللعب – للمفارقة – تحديا لبنيات القوة المسيطرة . وكمثال , يناقش سيكارت لعبة ميتاكتيل Metakettle , التي يلعبها غالبا المعترضون في المملكة المتحدة منذ 2009 .
     وهناك تداخلات وارتباطات مهمة بين عمل سيكارت وعمل لويس . في الإطار المنهجي للويس يأخذ اللعب مكانا بارزا في الممارسة الثقافية , باعتباره “ نوعا شارحا للتفاعل الإنساني “ . وهنا تتوسط الجوانب التخريبية والتملكية في اللعب في تطور وتحول الأحداث الخاصة والعادية والأدائية والتعود . وبالتالي , فان انشغال لويس باللعب يتطابق مع مفهوم سيكارت للعب باعتباره “ صنع للعالم “ وهناك أيضا تطابقات محتملة في منظورهما في تطبيق تقنيات المعلومات المعاصرة . اذ يصور نص سيكارت انتشار الفعالية التحولية للعب في كل مجالات الثقافة كطريق للوجود في العالم . وبهذا السيناريو الأخير , يأخذ الكمبيوتر المكان الرئيس في المجتمع المعاصر في أنه يساعد علي ابتكار عوالم اللعب الاستغراقية لدرجة أنه يصعب انجازها خارج مجال الحوسبة . فهل تستطيع هذه العوالم الموازية أن تنشئ المساحات الثقافية ذات النطاق الضيق الموجودة في ذهن لويس لتأسيس الطقوس التصحيحية .
     وفيما وراء مجالات التطابق المحتمل , فهناك مزيد من الاهتمامات الأساسية المشتركة بين المؤلفين رغم ذلك : يبدو أن كلاهما استثمر جيدا إعادة ترسيخ فكرة الإنسانية باعتبار أن الإنسان متميز عن الحيوانات الأخرى . ويؤكدا من خلال نصيهما أن طبيعة الإنسان أن يكون ثقافيا , وأن اللعب هو تجلي النزعة الإنسانية . ورغم ذلك , فإنهما لا يوضحون ما هي الأهمية الفعلية لهذا التمييز الجاد بين طبيعتي الإنسان والحيوان بالنظر إلى منظورات الأداء واللعب التي يطورانها , ولا يتعاملون مع أي نقد للتفرد البشري عند منظرات ما بعد الإنسانية مثل دوا هاراواي, وروزي بريدوتي و كاري وولف . إذ يبدو أن المنطلق الإنساني للانقسام الأساسي بين طبيعتي الإنسان والحيوان هو مسلمة . ففي حالة لويس فان هذا الحذف مستغربا, علي اعتبار أنه لا يوافق علي مجموعة كبيرة من المنظورات بعد الحداثية حول الأداء والأنثروبولوجيا علي مدار كتابه .
     ويبدو أن تيم انجولد أقل اهتماما بهذا التمييز الصارم في كتابه “ استلهام : الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والعمارة والفن “ (2013) . والمفهوم المطور في هذا العمل هو فهم للعالم المادي كمجال تفاعلي للقوى والمواد , فضلا عن المفهوم السائد عن البيئة والناس في وسطها , الذين يفرضون أشكالهم علي المادة في عملية أحادية الجانب . والفكرة الثانية التي تدور في الكتاب , والتي تجعله ملائما لدراسات الأداء , هو مفهوم يقوم علي ممارسة البحث في الأنثروبولوجيا التي تعتمد علي المقاربات المنهجية في ممارسة الفنون .
     يقترح انجولد بأن هناك فرق أساسي بين الاثنوجرافيا والأنثروبولوجيا . ففي الوقت الذي تهتم فيه الأولى بفحص العالم من خلال ملاحظة المصنوعات اليدوية والأداء والتوثيق , فلا بد أن تقوم الأخيرة علي الدراسة مع الناس وتأمل أن تعرف من خلالهم . وبناء علي هذا التمييز , يرسم توازيا بين هذين المجالين وتاريخ الفن وممارسة الفن علي التوالي . ويميل تاريخ الفن , مثل الاثنوجرافيا , الى تحليل الأعمال الفنية علي أساس ملاحظات من منظور المتفرج . وبدلا من ذلك , تتطور ممارسات الفن حول دراسة العالم من خلال الاستكشافات العملية لمواده وأشكاله وأفعاله . ولذلك , يقترح انجولد التحول الى المنهجيات في ممارسة الفن لتطوير طرق جديدة لأداء الأنثروبولوجيا .
     ويُستكشف هذان العنصران من خلال وصف لمسار الأنثروبولوجيا التي تقوم علي الممارسة والتي طورها انجولد ودرسها في جامعة أبردين , وعدد دراسات الحالة التي تعيد النظر في البحث في الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا من منظور المشاركة في عملية الصنع .  وفي هذه الدورة , حول العلوم الأربعة (الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والفن والعمارة) , كان مطلوبا من الطلال أن يستكشفوا المواد من خلال المشاركة المادية : وقد تضمنت الدراسة مهاما لجمع أشياء من مكان مختار في أسبوع واحد , ومواد من مكان آخر . وقد رُتبت هذه الأشياء لاحقا بطرق مختلفة : أشياء نوقشت في علاقتها بأفعال محتملة يتم أدائها معها , وكان مطلية علي أسطح صلبة بلاصق ورق الحائط . ومن خلال هذه العملية اليدوية ,التي يقترح انجولد أنها شبيهة بالممارسة الفنية , والصعوبات في التصنيف ( ماذا لو تأملنا الشيء علي أساس مادته؟) ودور المواجهات المجسدة في تحديد المادية (من المرجح أن تكون آثار الأفعال الجسمية حاضرة في تجليها ) احتلت الصدارة , والتي من المرجح ألا تظل معتبرة في الاستفسار الذي يقوده حصريا الاستفسار البصري والأمل النظري . وفي الوقت الذي يوفر فيه هذا المثال حالة مقنعة للمزج بين المشاركة اليدوية العملية في البحث الأنثروبولوجي , فانه يشير أيضا الى حدود سعي الكتاب لاستكشاف كيف يمكن تطبيق ممارسات الفن هنا : مقولة أن الطلاب ينشرون خليطا من المواد المخصصة في شكل أجزاء علي السطح الصلب كيفما أرادوا تشكل سلسلة مذهلة من الأعمال الفنية التي تقترح مفهوما ساذجا لمفهوم طبيعة الممارسة الفنية . وعلي الرغم من هذا , توفر دراسات الحالة ثروة من الاقتراحات للأداء الذي يقوم علي المشاركة في الممارسات والمصنوعات اليدوية الثقافية , التي ربما لها أهمية منهجية لممارسي الفنون .
................................................................................
نشرت هذه المقالة في The Year›s Work in Critical and Cultural Theory : 23  - 2015
دانييل بلوجر يعمل أستاذا للدراما وفنون الأداء في Royal Center school of Speech and drama، university of London  .


ترجمة أحمد عبد الفتاح