تراث مسرحي في كازينو العائلات بطنطا

تراث مسرحي في كازينو العائلات بطنطا

العدد 791 صدر بتاريخ 24أكتوبر2022

عندما انفصل الشيخ سلامة حجازي عن فرقة إسكندر فرح عام 1905، كوّن إسكندر فرقة أخرى بطلها الشيخ أحمد الشامي ليكون بديلاً عن سلامة حجازي! وهكذا مثّل الشامي كلاسيكيات النصوص المسرحية الخاصة بفرقة إسكندر فرح، التي كان يعرضها الشيخ سلامة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومنها مسرحية «عواطف البنين»، التي حنّ إليها الشامي، فقام بعرضها في كازينو العائلات بطنطا، فكتب عنها «ابن الحقيقة» كلمة، نشرها في جريدة «الممتاز» أواخر يونية 1928، تحت عنوان «عواطف البنين على مسرح العائلات»، قال فيها:
كانت هذه الرواية ختام الروايات التي مثلتها فرقة الشامي على مسرح العائلات في الأسبوع الماضي. وهو ختام لا بأس به إذا تبينا بحق مغزى هذه الرواية؟ فهي تعطينا فكرة صحيحة عن مبلغ اعتزاز البنت بأمها، وتفضيلها على نفسها حيث تقبل تعريض نفسها للمحاكمة على جريمة الزنا، وتنتهي المحاكمة بتطليقها من زوجها وإبعادها عن وحيدتها في سبيل الاحتفاظ بكرامة أمها! ثم بالتالي ترين كيف أن محبة المرأة لبنتها تربو على محبتها لأمها، فلا تفكر في إفشاء سر الأم إلا وحياة البنت معرضة للخطر. هذا إلى ما في الرواية من مواقف يصح بحق أن تسمى من أجلها «عواطف البنين». ولسنا نزيد على هذا في شرح رواية وإنما نشير فقط إلى مبلغ ما قام به كل ممثل في دوره فيها. «روز الصافي»: كانت هذه في رواية الأحد كما هي في كل الروايات موفقة في دورها قادرة على إبراز عواطفها في نبرات صوت متمشية مع الظروف والمناسبات. وفي حركات عادية لا تكلف فيها ولا اصطناع. وفي هذا ما يدعونا إلى الإعجاب بها في دور بنت الكونت إعجاباً بلغ حد الوصف، ولكنا نستميحها عذراً في أن نطلب منها ضبط عواطفها قليلاً حتى لا تتهيج أعصابها عند المفاجآت البسيطة تحركاً يزيد على المطلوب لذلك الموقف. وإن كان موقفها كبنت صغيرة يغفر لها هذا الذنب الصغير. «زاهية سامي»: أما زاهية التي قامت بدور الكونتيسة فلا تقل عن زميلتها في الإجادة وإن كان مقامها من الرواية في الدرجة الثانية من روز. ولكن تناوب عدة مواقف أظهرت فيها زاهية ما يجب أن يظهره الممثل من عواطف وتموجات نفسية. «توفيق»: أما توفيق فقد أجاد تمثيل الموت على النحو الطبيعي في حالة كهذه ولعل هذه أولى المرات التي نشهد فيها توفيق يموت (كويس). «مصطفى سامي»: هذا قام بدور المستر «دراك» الذي أنقذ حياة الفتاة الصغيرة من الغرق. وبفضله وعلى يديه التأم شعث الرواية فاجتمعت الفتاة على أبويها ونجت من أزمتها. أما الباقون فكانت مواقفهم عادية إذا استثنينا الشيخ أحمد القائم بدور الكونت، فهو للفرقة بمثابة القلب للجسد.
نجاح مسرحية «عواطف البنين» أغرى الشيخ الشامي لتمثيل «عائدة» بعد أسبوع، فكتب «ابن الحقيقة» كلمة عنها بعنوان «رواية عائدة على مسرح العائلات»، انتقد فيها الموضوع والممثلين، قائلاً: تتلخص الرواية في أن أغارت مصر على الحبشة وانتصرت عليها ووقع في الأسر ملك الحبشة وابنته عائدة. وقد وقعت عائدة في أسر آخر هو غرامها وافتتانها بالقائد الظافر «رداميس» فلم يجد الملك مكافأة على ذلك الانتصار غير أن يهبه يد كريمته التي كانت مولعة بغرامه أيضاً. ولكنه رفض لأن قلبه كان ولا يزال معلقاً بحب عائدة الحبشية. وسعى في إفلاتها ووالدها من عناء الأسر وعوقب من أجل هذا بالقتل، ولم تُجدِ لديه النصائح التي بذلت في سبيل حمله على تغيير مسلكه وإقناعه بأن يقبل يد كريمة الملك ويرتضيها زوجاً، ولما أصر على ذلك نُفذ فيه الحكم بالقتل. ولم تجد عائدة عند نفسها القوة لمرافقة والدها إلى بلدها وترك حبيبها يعذب من أجلها فعادت وماتت وإياه، وقد علمت بنت الملك بقتل حبيبها فزارت رمسة وقضت نحبها. وانتهت الرواية بموت رداميس وعاشقتيه. والمغزى الذي أراد المؤلف أن يلبس الرواية ثوبه هو فعل الحب بالنفس. وكيف يؤثر رداميس القتل على ترك حب عائدة أو مغالطة ضميره بإقناعه بحب بنت ملك بلاده وولي نعمته وكيف تعود عائدة بعد إفلاتها من الأسر إلى حيث تقابل رداميس فتموت معه، وكيف أن بنت ملك مصر لم يغير من نفسها ميل حبيبها لغيرها فماتت على قبره وهكذا انتهت الموقعة الغرامية (بمحزنة) لا يمكن فهمها ولا كيفية حصولها كما سنتبين ذلك بعد. «عيب التأليف»: وقع المؤلف في عيب فاضح عندما التزم قاعدة السجع المملة التي أزالت بهجة الرواية وأضاعت رونقها وبهاءها فكانت ثقيلة على الأسماع لأقصى حد. وفي عيب أبشع منه عندما ختم الرواية على تلك المأساة غير المفهومة فكيف استطاعت عائدة أن تتقابل مع رداميس وهو ميت، وكيف استطاع الميت أن يتكلم؟! وكان أولى بالمؤلف أن يختار طريقة لنهاية الرواية غير هذه التي استوجبت سخط الجمهور وأثارت غضبه فلم تلق الفرقة تصفيق الاستحسان حتى ولا من باعة اللب. وبلغ سقوطها مبلغاً لم تصادفه في رواية قبلها. «عيب التمثيل» وقد وقعت عيوب جمة في التمثيل منها عدم إصلاح (المكياج) لأهالي الحبشة حتى كنت ترى وجه عايدة خليطاً من الحمرة المشوهة وإذا أدارت (قفاها) لمحت بياض جسمها الشفاف بادياً للعين! فقد مسخت إذن عائدة وكانت إلى (البرصاء) أقرب منها إلى الحبشية. وحتى كان ملك الحبشة عبارة عن قرد مشوه الخلقة وكانت موشحات الرواية قريبة الشبه بالأناشيد التي ترتل أمام الموتى. كما كان فتور الجند عند القبض على رداميس متلبساً بجريمة خيانة وطنه في منتهى الفتور، وموقفه هو أيضاً وقد زاد على ذلك في الفتور والضعف موقف رداميس بحضرة الملك وبحضرة بنت الملك عند مناقشته على جريمته. «مطرب الفرقة»: نقسم أنه لولا ما قام به عبد السلام أفندي موسى بين الفصول من مقطوعاته الغنائية اللذيذة بصوته الشجي الرخيم لكانت الليلة من أسوأ الليالي. ولكن عبد السلام أفندي قد استشعر بأن في الرواية فتوراً فأجهد نفسه أيما إجهاد في استجلاب رضاء الجمهور فكان يلبي الطلبات ويجيد التوقيعات الغنائية في أسلوب عذب مقبول للأسماع مساغ للأذواق فاستطاع أن يجعل لليلة رونقاً ويلبسها بهاء وجلالاً فلقد بلغ هذا الشاب من رقة الصوت وعذوبة اللفظ وحسن التوقيع مبلغاً نعتقد معه أن سيكون له شأو عظيم في عالم الغناء. [توقيع] ابن الحقيقة.
مسرحية إنصاف
اقتنع الشيخ الشامي بأن كلاسيكيات القرن التاسع عشر غير مناسبة للجمهور الطنطاوي حالياً، لذلك عاد إلى مسرحياته العصرية، التي أعلنت عن إحداها جريدة «الممتاز» أواخر يونية 1928، قائلة: «اليوم المشهود بكازينو العائلات، السبت 30 يونية سنة 1928 ابتداء من 7 مساء، تمثل فرقة الأستاذ الشيخ أحمد الشامي الرواية الخالدة الجديدة «إنصاف» ما ذنبها وما جنت؟ مصرية أربعة فصول تضحك وتبكي في وقت واحد، يخصص إيرادها تنشيطاً ومكافأة إلى الممثل المحبوب توفيق أفندي إسماعيل».
كتب الناقد «ابن الحقيقية» كلمة - عن مسرحية «إنصاف» بعد عرضها - في جريدة «الممتاز» أوائل يوليو 1928، تحت عنوان «رواية أنصاف على مسرح العائلات»، قال فيها: تتلخص الرواية في قيام إحدى السيدات الطيبات القلب بالإشراف على تربية «صدقي» حتى بلغ الرشد. وتبنته ووقفت عليه أملاكها. أما اخته «إنصاف» فقد أخذت تغالب الأيام والأيام تغالبها واتخذت من عملها اليدوي درعاً تقي به عن نفسها غائلة التهتك والابتذال، حتى راقت في عين جمال أفندي فاختارها حليلة له، رغم إرادة أبيه ومقاومته. اتصل صدقي بمنزل جمال وشريكه كامل بك فعقلت به نفس رتيبة زوجة كامل بك وشغفها حباً ولكنه كان حفيظاً على كرامة صديقه زوجها فأبت نفسه أن يدنس شرفه فظنت به الظنون فنصبت شراك الفضيحة لهما واستكتبت إنصافا خطاب غرام إلى صدقي واخفته على غير علم منها وألقته إلى زوجها فكان الصاعقة وقعاً على نفسه وغضب على إنصاف كما حنق على صدقي واعتزم الانتقام. علم «صدقي» من تحرياته الأولية أن إنصافاً هذه هي أخته التي يتحرى عن معرفة مقرها، فهام على وجهه وجن جنونه لاتهامه بالخيانة من صديق ضد أخت شقيقه. وكشف هذا الجنون ما خبأته الأقدار، فباح لسره منذ قيض له الحظ وجود الطبيب الذي كان وصياً عليه وعلى أخته وأطلعه على حقيقة نسبه وبهذا أمكن إقناع جمال ببراءة إنصاف وبعلاقتها بصدقي بك ورضى خميس بك أبو جمال عن تلك الزوجة منذ تأكد يسارها ورخاءها وانتهت الرواية على ذلك. ومغزى الرواية يتمثل في: كيف تؤثر الزوجة العفيفة اختيار طريق العمل عن التدنس وكيف يكون سلوكها في منزل الزوجية واخلاصها لزوجها كما في دور إنصاف. وكيف يسعى البلهاء من الناس وراء المادة ويعتبرونها أساساً لبناء هيكل الحياة ويفضلونها على الفضيلة وكيف تتغير وجهة نظرهم بتغير الأحوال المالية كما كانت حالة خميس بك. وكيف يكون افتتان الزوجة الخليعة واستهتارها بزوجها وإيثار غيره عليه وحقدها على الزوجة الفاضلة ونصب حبائل الإيقاع لها كما كانت رتيبة هانم. وكيف يكون الزوج (المغفل) المخدوع بزوجته واستسلامه لها لأقصى درجة مساعدتها على نيل شهواتها وقضاء مأربها كما في دور كمال بك زوج رتيبة هانم. وكيف تكون محافظة الصديق على كرامة صديقه وعدم انصياعه لداعي الموبقات ودافع الشهوات كما كان صدقي، وتلك هي الفكرة التي أراد المؤلف أن يخاطب بها الجمهور. وبالنسبة لأشخاص الرواية، فقد وزعت فرقة الشامي أدوار الرواية على أفرادها فكان هذا التوزيع كالآتي: الشيخ أحمد أعطى دور جمال، وبديهي أن يأخذه لنفسه لأنه دور البطل، والشيخ يحرص على البطولة. شخصية «روز» أعطيت لإنصاف فكانت موفقه في موقف الدفاع عن الشرف ومؤدبة بحضرة حميها وتنقلت مع دورها تمكناً لا بأس به. «زاهية» عرفت كيف تحسن القيام بدور الخلاعة ونصب حبائل الوقيعة لإنصاف عندما رابها سلوك صدقي معها كيف تؤثر في إقناع جمال بسوء سلوك إنصاف. أما «أحمد بيومي» فقد مثّل بحق دور خميس بك ولعله الأول في رواية إنصاف الذي استطاع أن ينتقل بعواطف الجمهور ويرغمهم على أحاديثه الفطرية البعيدة عن التكلف. أما «مصطفى الشريف» فلم يبق واحد من الحضور حتى أمن على قدرة هذا الشاب ونبوغه في فنه وبصفة خاصة في الأدوار الهزلية التي يجيدها بطبعه. أما «توفيق إسماعيل» فكانت مواقفه في الرواية متعددة، فكانت محاورته مع اخته غاية الاتقان، كما كان جنونه مطبقاً حتى ليخال إليك أن مجنوناً حقيقياً يقف على المسرح، وعندما عاد لرشده كان موفقاً أيضاً في طريقة تعقله تدريجياً. و«مرجريت» تم وضعها في دور «حورية» وهو لا يتفق مع مشربها التمثيلي فخلطت فيه بين المجون والخلاعة مما لا يليق بامرأة مسنة مثلها. ولعلها كانت بين الكواليس في إشارتها الخاصة أكثر تأدباً واحتشاماً منها على المسرح وفي دور حورية. ولعل السبب في هذا راجع إلى حداثة عهدها في التمثيل الأدبي وعلى أي حال فقد استطاعت أن تضحك الجمهور ولو على شكلها. «مصطفى سامي»: أخذ دور رجب أغا ولا محل للدور في الرواية إلا أن يكون الحشو والرغبة في الثرثرة وسماع اللهجات المبتذلة. «عبد السلام موسى»: قام وهو مطرب الفرقة بدور الدكتور الذي كانت له اليد الطولي في اجتماع إنصاف بأخيها ووقوفهما على حقيقة أمرهما وحصولها على تركتهما، وقد أجاد القيام بدوره برجل طبيب مسن ولكن فات المؤلف أن يضع على لسان إنصاف أية عبارة تشف عن تقديرها لجميله وعرفاناً لصنيعه واكتفت بأن تلقي نفسها في أحضان جمال أفندي، وتترك الدكتور مندهشاً في موقفه لا يبدي حراكاً وهو خطأ وقع فيه المؤلف أو هو احتفاظ مطلق بإنصاف حتى لا تغدق عبارتها المنسجمة على أحد سواه. وبالجملة كانت الرواية في تأليفها متوسطة لم يشبها غير الحشو الذي طرأ عليها والتفكك الذي ختمت به وكانت في تمثيلها مما لا يخرج عن حد التوسط أيضاً. [توقيع] ابن الحقيقة.
وبعد أيام عرضت الفرقة مسرحية «صوت الشعب» على مسرح كازينو العائلات، وتدور أحداثها حول ملكة بريطانيا التي أحبت رجلاً إيطالياً شريداً استطاع أن يصل إلى أعماق قلبها فملك عليها شعورها وعواطفها وراح يستغل ضعفها وغرامها في سبيل تنفيذ مشاريعه الجهنمية وانتقاماته المريعة وهي منساقة وراء تأوهاته الحارة وغرامه الكاذب بينما هو يحب فتاة أخرى! ومثلها كل من: توفيق إسماعيل، وروز، وزاهية سامي. وفي أواخر يوليو عرضت الفرقة على مسرح كازينو العائلات مسرحية «شهداء الغرام» في ليلة خصوصية خيرية لصاحبها محمد منيب، ووزعت التذاكر على يانصيب سيفوز فيه الفائز بموتوسيكل ماركة «B.S.A».
وكتبت جريدة «الممتاز» كلمة هجومية بعنوان «نكبة التمثيل في طنطا الشيخ أحمد الشامي»، هاجمت فيه الشيخ الشامي كونه ممثلاً رجعياً عتيقاً، وسخرت من أدائه وملابسه وموضوعاته ومسرحياته، كونه من العصور البائدة!! وهذه الكلمة كانت ذات أثر سلبي على الشيخ الذي ترك طنطا عامين، ثم عاد إليها عام 1931 وأعلنت عن هذه العودة جريدة «المدينة» في أغسطس 1931، قائلة تحت عنوان «فرقة الشيخ أحمد الشامي بطنطا»: «تمثل فرقة الشيخ أحمد الشامي وأخيه مصطفى أفندي سامي في مساء الأحد 2 أغسطس الساعة 8 مساء بتياترو الباتيناج بشارع عباس (الفرير) رواية «الجريحة» لأول مرة، وهي رواية من النوع الكوميدي الراقي الجميل ويتخلل فصول الرواية قطع غنائية ومنلوجات أدبية من أشهر الممثلين والممثلات. فهلموا جميعكم لحجز محلاتكم قبل نفاذ التذاكر معتدلة الأثمان».
هذا هو آخر خبر ينتمي إلى عام 1931، بوصفه آخر الأعوام الخمسين، التي تحدثنا عما وجدناه فيها منذ عام 1881 متعلقاً بالعروض المسرحية التي أقيمت في طنطا! وأتمنى أن أجد مستقبلاً من شباب وكُتّاب وباحثي طنطا من يُكمل مشوار تاريخ المسرح في طنطا بعد عام 1931.


سيد علي إسماعيل