لـحــظــة حــــب.. أكاديمية فنون بداخل عرض مسرحى

لـحــظــة حــــب..  أكاديمية فنون بداخل عرض مسرحى

العدد 787 صدر بتاريخ 26سبتمبر2022

«أنا جايلك ومش فارقة معايا كتير، أكون عبدك أو السيد أنا جايلك»
«وأنا ملكك ومش فارقة أكون ملكة، أكون جارية مادمت معاك فى مملكتك ماهيش فارقة»
ـ بتلك الجمل الرومانسية العاطفية الجميلة استهل المخرج المسرحى ياسر صادق عرضه المسرحى «لحظة حب» على قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون ومن انتاج قطاع الفنون الشعبية والإستعراضية مع جماهيره من خلال خاصية «براعة الإستهلال»، تلك الخاصية  التى يعتمد عليها فى اغلب عروضه المسرحية و يحسن استغلالها بإتقان لصالح العرض، فهى خاصية تقوم وظيفتها على جذب انتباه الجمهور وفضوله لمشاهدة العرض قبل دخوله، وقد استخدمها هنا ياسر صادق من خلال فكرة جديدة بالقيام بتوزيع هدايا تذكارية على الجمهور مدون عليها تلك الكلمات التى أخترت ان ابدأ بها مقالتى النقدية، الأولى على لسان الحبيب، والثانية على لسان الحبيبة، تلك الهدايا التذكارية الورقية التى يقوم الأحبة بكتابة بضعة كلمات رومانسية عليها و ارفاقها لمن يحبون مع هداياهم، و لكن الأحبة هنا هم جمهور العرض المسرحى . 
بتلك الهدايا التذكارية التى توزع عليهم و بما هو مدون عليها من كلمات عاطفية تدب الحماسة و الفضول فى قلوب الجمهور، و تجذب انتباهه لمشاهدة تلك الملحمة الرومانسية التى يفتقدونها جميعهم فى عصر سيطرت عليه المادية و كل عناصر السوشيال الميديا بما تحمله من مشاعر زائفة و عالم افتراضى غير واقعى . 
للوهلة الأولى عند دخولك العرض كمتلقى، ستشعر بإنك دخلت لعالم مختلف لم تعتاده يوما ما سواء ان كنت فى ريعان شبابك، أو عالم تفتقده و صار من الذكريات ان كنت فى مرحلة الكهولة، عالم يغلفه الحب و الرومانسية من جميع جوانبه، عالم تسوده التضحيات من اجل الحبيب مهما كان قاسيا معه او لا يبادله الحب، و ليس كالعالم الذى نحياه الآن و الذى يترجم الحب بلغة القتل و الدم، عالم ستشعر معه بالنشوى فى كل شئ، فتستمع فيه أذنك طوال العرض المسرحى بالموسيقى الرومانسية الحالمة الغائبة عن حياتنا  فى وسط الضجيج و النشاز الذى نسمعه مجبرين هذه الأيام، و ستتمتع به عيناك برقصات الأحبة و نظراتهم و تعبيراتهم التى تحمل معنى الحب الحقيقى المنزه عن اية مصالح او رغبات، و ستشعر معه روحك ايضا بالسمو و الصفاء النفسى لما ستجده  من لوحات تشكيلية مبهرة تحيط بحولك  من كل جانب، و اخيرا سيأخذك تمثيل الحبيبين الى عالم من الخيال و المودة و السكينة، لتشعر معهم بإنك جزء من تجربتهم و تشعر بمشاعرهم، و تخرج من العرض المسرحى و بداخلك رغبة جامحة  لنشر الحب الحقيقى بمفهومه الصحيح مع كل من حولك و مع كل من تتعامل معهم بحياتك سواء كانوا من الأسرة أو الأصدقاء أو الأحبة أو البشر بجميع اطيافهم و طباعهم .
أما لو كنت فنانا و لست من الجمهور العادى، فستختلف مشاعرك عنه، و ستشعر بإنك قد دخلت اكاديمية فنون بمعنى الكلمة و ليس عرض مسرحى تقليدى لما يحويه العرض من كل أجواء الفنون المختلفة بدءا من الغناء و الموسيقى بكل انواعها و الباليه و الدراما الحركية، حتى السينوغرافيا و الفن التشكيلى و الآداء التمثيلى . 
وتدور أحداث المسرحية حول شاعر عصامى يجسده بهاء ثروت له فى ماضيه تجربة حب فاشلة عنوانها الغدر و الخيانة، و بناءا عليها يأخذ قرار مصيرى بعدم خوض تجربة حب مرة اخرى الى الأبد، بل لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، و تمتد أثر تجربته  القاسية الى ان يوظف موهبته الشعرية لتكون سلاحا  له ضد الحب و المرأة بشكل عام، الى ان تظهر فى حياته على الوجه المقابل فنانة تشكيلية شابة  فاتنة الجمال تجسد دورها اسماء عمرو، تلك الفنانة التى هى على عكس طبيعة كل الفتيات، فتنجذب نحو اشعاره القاسية على المرأة و التى تكون  هى بداية عشقها له و كذا بداية مهمتها الشاقة نحو تغيير نظرته الي المرأة، و محاولة اثباتها له ان ليست كل امرأة كغيرها من النساء تماما مثلما الأمر بالنسبة  للرجال، فليست اصابع اليد كلها واحدة، تماما مثلما ليست هناك  قاعدة عامة واحدة فى هذا الأمر، و كأنها من نوع النساء التى تستهويها الصعاب و التحديات، فتختار هنا ان تكون بداية خطتها لتغييره هى ان تواجه فنه بفنها من خلال التعبير عن قسوة اشعاره  بلوحاتها التشكيلية، فجعلت لكل لوحة لها اسم لقصيدة من قصائده، كشفت من خلالها سر عدائه للمرأة، و ان من يتمعن فى عميق اشعاره سيجدها لا تعرف الكراهية و لا تحمل الا الحب العظيم لها، و لكنه حب لم يجد من يحتويه بكل ما يحمله من مشاعر فياضة مخلصة نحوها، و بالتالى نتيجة سوء اختيار و توفيق منه ضلت هذه المشاعر طريقها الصحيح، فقررت هى أن تستغل موهبتها الفنية فى تعديل مسار تلك المشاعر النادرة و توجيهها نحو من يقدرها و يعرف قيمتها حيث انها احبته حب صادق حقيقي، و حيث ان الفن وحده هو من جمع بينهما، و من ثم قررت أن تدعوه كضيف شرف في افتتاح معرضها التشكيلى الذي تعرض فيه لوحاتها، و تحت اصرار و ضغط منها يقرر هو قبول الدعوة و زيارة  معرضها الفنى ليفاجئ بأن كل اللوحات بأسماء قصائده بل و تترجم مشاعره و عواطفه من الداخل و تكشف للجميع شخصيته الرومانسية الحقيقية التى يحاول دوما التنكر منها و اخفائها عنهم، مما تثير دهشته و تستفز مشاعره، و بالتالى تكون هذه الزيارة هى بداية صراع نفسى داخلى لكل منهم، صراع الشاعر مع عواطفه الداخلية التى بدأت تتبدل نحو المرأة بفضل ظهور تلك الفتاة الجديدة فى حياته و التى استطاعت وحدها فهم كل ما يجول بداخله من حب و عذاب و مشاعر حقيقية، و مع خوفه من تكرار تجربته الفاشلة مرة اخرى و صدمته من جديد و قلبه لم يعد يتحمل اية صدمات اخرى، و كذا صراعها هى الفنانة التشكيلية مع عواطفها الداخلية ايضا ما بين حبها القوى له، و ما بين كبريائها و كرامتها و خوفها من نتيجة مصارحتها له بذاك الحب الكبير فتكون ايضا النتيجة صادمة لها، الى ان تنتهى تلك الصراعات الداخلية المتبادلة بينهم بالنهاية السعيدة التى دوما يحبها الجمهور و يحب ان تنتهى بها كل قصة حب سواء فى الواقع او فى الدراما .
هذا العرض ينتمى الى عروض « الديودراما « التى تعتمد فى الأساس على مباراة تمثيلية ما بين اثنان من الممثلين، رجلان او سيدتان، أو رجل و امرأة كما هو فى مسرحيتنا موضوع النقد « لحظة حب «، فالمباراة التمثيلية هنا هى ما بين بهاء ثروت من قام بدور الشاعر مستغلا ملامحه الحادة، و ما بين اسماء عمرو من قامت بدور الفنانة التشكيلية مستغلة انوثتها و نعومة وجهها البرئ، و حقيقة هى كانت مباراة قمة فى الإثارة و المتعة بينهما نتيجة وصول كل منهم الى مرحلة الإبداع التمثيلى و التقمص الفنى كل فى دوره الذى يقوم بتجسيده، لدرجة انك تشعر معهم كمتلقى بإنهم بالفعل حبيبين و ليسوا اصدقاء مهنة واحدة، و هذا ناتج عن الصدق الفنى لكل منهما فى آداء دوره و مدى احترافيته فى دراسة كل ابعاد الدور المادية و النفسية و الإجتماعية و كذا التركيز مع توجيهات و ملاحظات مخرج العرض، و هذا هو الفرق الجوهرى ما بين الممثل الدارس و الممثل الهاوى، لذا كان التمثيل بالعرض المسرحى فى أحسن حالاته  و على أفضل ما يكون نتيجة خبرات ممثليه الأكاديمية و الفنية و الحياتية، و نتيجة لحسن اختيار المخرج لممثليه كل فى مكانه الصحيح سواء على المستوى الشكلى أو الآداء التمثيلى الذى يتطلبه أدوارهم كما هو مكتوب من قبل المؤلف . 
جاء التعبير الحركى لكل من دينا سالم مع ميدو عادل بتصميم و بصمة كريمة بدير مكملا للحالة المسرحية الرومانسية و خير عنوانا و تعبيرا عنها، فالتمثيل عندما يستخدم الرقص كوسيلة تعبير عن مكنوناته الداخلية و ما وراء السطور، يصل بالحالة المسرحية الى أوج تألقها بسبب فنه غير المباشر، فالمباشرة فى الفن مرفوضة عموما حيث ان اعمال العقل من اجل فهم رسالة العرض هى احدى اهداف الفن السامية، و بالتالى جاء تصميم الدراما الحركية هنا لكريمة بدير مستخدمة بعض انواع فنون الرقص الحركية و منها فن الباليه و كذا الرقص المسرحى المعاصر، لتخدم الدراما بالمسرحية و ايضا لتضفى على العرض عنصر المتعة البصرية للمتلقى حيث استطاع تنائى الراقصين بمهارتهم و احترافيتهم مع خبرات مصممة الرقصات الأكاديمية فى تأكيد الصدق الفنى لتلك الحالة الرومانسية الشاعرية لأبطال العرض المسرحى و كذا رسالة كلا من مؤلف العرض و مخرجه  ايضا . 
الألحان لأحمد محي مع توزيع اسامة سامى و بتوظيف كلا من عمرو صبحى « تشيلو « و مى فؤاد « فلوت «، مع الأصوات الغنائية المتناغمة مع بعضها البعض لكل من مؤمن خليل مع نانسى جمال، خلقت حالة ابداعية رومانسية  فريدة من نوعها تعبر عن الحب الصادق بين كل رجل و امرأة، فقد احسن الملحن اختيار الآلات و كذا الأصوات و الموسيقى التصويرية التى تتلائم مع حالة و طبيعة العرض الرومانسى الحالم و الصراعات العاطفية الموجودة بداخل شخصياته، و التى من خلالها استطاع  التسلل الى قلوب الجماهير و تملكهم بدون وعى او ادراك منهم و تفاعلهم مع الحالة الرومانسية المرئية امامهم، كما ساهمت رؤية المخرج ياسر صادق بجعل الموسيقى لايف  و كذا جعل العازفين مرئيين امام الجمهور مثلهم مثل الممثلين و الراقصين، و اختيار الآلة التى تناسب طبيعة كل منهم كرجل و امرأة، فى التأكيد بأن كل عاطفة و كل فن و كل حياة  و حالة ابداعية فى هذا الكون لا تكتمل الا بوجود رجل و امرأة . 
و قد راعى حمدى عطية فى تصميمه للديكور ان يعبر عن الصبغة الفنية للعرض القائمة على ان كلا من العاشقان يمارسون مهنة الفن كل فى تخصصه بأن جعل من قاعة العرض بأكملها و كأنها اتيليه فنى ممتلئ باللوحات التشكيلية على يمين و يسار قاعة الجمهور و فى مقدمة المسرح امام مرأى عيونهم ايضا كناية على انتصار الفنانة التشكيلية العاشقة فى فرض سيطرتها و افكارها على حياة الشاعر و نجاحها فى تغيير افكاره القاسية عن المرأة، كما حرص مصمم الديكور ايضا على ان تتفق رؤيته السينوغرافية مع رؤية المخرج و فلسفته الابداعية القائمة على ان كل ما هو جميل فى هذا الكون هو نتاج رجل و امرأة، بأن قسم المسرح الى ثلاث مستويات، مستوى اول للراقصين حيث النافورة و صالة جمهور المتلقى، و مستوى ثان للعازفين حيث يتقابل كل منهم مع الآخر يمينا و يسارا كل فى بلكونه الخاص به، و مستوى ثالث و أخير للممثلين حيث خصص اقصى يمين المسرح لغرفة الشاعر و مكتبه  و مقدمة يسار المسرح لأتيليه الفنانة التشكيلية حيث عالمها الخاص، و بالتالى عمد مصمم الديكور هنا الى تخصيص كلا من يمين المسرح للرجل و يسار المسرح للمرأة  سواء على مستوى الراقصين او العازفين او الممثلين، فى تشبيه اعجازى مبهر و كأن المسرح لا يكتمل تكوينه و لا سينوغرافيته المنظمة ايضا الا بهما، تماما هو مثل الحياة  التى لا تكتمل معانيها الا بوجود الرجل و المرأة فيها .
الأزياء لرباب البرنس جاءت معبرة عن الحالة النفسية لكلا من الرجل و المرأة بالعرض، حيث جاءت ملابس المرأة كلها عبارة عن فساتين  ذات الوان فاتحة و مبهجة دلالة على اقبالها على الحياة و الحب، بينما جاءت ملابس الرجل بذات العرض عبارة عن بدل تتسم بالألوان القاتمة دلالة على نظرته القاسية تجاه المرأة، بإستثناء الجزء الأخير بالعرض بعدما تغيرت نظرته لها، فوجدناه يرتدى ملابس ربيعية متمثلة فى صديرى البدلة ذو اللون الرصاصى الفاتح، و هى نفس ملامح ملابس الراقصين، و ان كنت اتمنى ان تكون الملابس موحدة هنا طوال العرض المسرحى و بنفس ذات الألوان ما بين الممثلين و الراقصين و العازفين لتعبر جميعها عن حالة رومانسية موحدة للعرض المسرحى كما نشاهد دوما بالعروض التجريبيه و عروض مسرح الحالة .
دوما كلا من الديكور مع الملابس مع الإضاءة يعبرون عن حالة مسرحية واحدة لا غنى لأحدهما عن الآخر و يكمل بعضهما البعض، لذا جاءت اضاءة ابو بكر الشريف هنا قمة فى الإبهار لعين المتلقى و مكملة لكلا من رؤية مصمم الديكور مع مصممة الأزياء، فجاءت اضاءة ذات الوان ناعمة موحية بالحالة العاطفية و الرومانسية للعرض و متناغمة مع ذات الوان الأزياء و اللوحات التشكيلية الحالمة بالعرض، و لم يلجأ هنا ابو بكر الشريف الى استخدام اية الوان قاتمة لا تتناسب مع الحالة الرومانسية للعمل ككل، و هذا ذكاء يحسب له حيث ساهمت اضاءته فى حدوث حالة تواصل قوى ما بين مشاعر المتلقى و احداث العرض المسرحى.
كما استطاع هانى عبد الهادى كمخرج منفذ واعد له باع طويل فى ذاك المجال و بالتعاون مع مساعديه احمد مالك و ايمان ابو سنة و احمد الصواف ان يقود كواليس العرض المسرحى الى بر الأمان دون أدنى اخطاء فنية، و دوما يحسب لمخرج العرض حسن اختياره  لطاقم معاونيه من الإخراج ضمانا لكواليس متقنة و منظمة . 
و اخيرا يحسب لعادل عبده رئيس البيت الفنى للفنون الشعبية و الإستعراضية الجهة الإنتاجية للعرض المسرحى « لحظة حب « حرصه الدائم على التنوع فيما يقدمه من موضوعات مسرحية من انتاجه، كما يحسب له مؤخرا اهتمامه بالموضوعات المسرحية الرومانسية و خاصة القائمة على المسرح الشعرى العامى، و التى كانت فى سبيلها الى الإنقراض، فقام بإحيائها من جديد من خلال استعانته بنص مسرحى شعرى عامى موفق من تأليف محمد الصواف الذى يعتبر واحدا من المتخصصين و المحترفين فى هذا النوع من المسرح الشعرى و الغنائى، الا انه فى هذا العرض اهتم فى كتابته للنص المسرحى بالمضمون الغنائى الشعرى و الرومانسى الظاهرى على حساب اهتمامه بالأحداث المسرحية من خلال الغوص دراميا فى صراعات ابطاله النفسية و العاطفية الداخلية التى كانت تحتاج  منه الى ابرازها بشكل اعمق من ذلك منعا للوقوع فى فخ السطحية، و لكن استطاع ياسر صادق مخرج العرض هنا بفكره الإبداعى و خبراته الطويلة الواعية أن يعالج تلك السطحية بشكل غير مباشر من خلال اهتمامه بالصورة المسرحية و التركيز فى رؤيته الإخراجيه، و من خلال لجوئه ايضا الى الدراما الحركية كمكمل للحالة الفنية المعروضة، ليبرز من خلالهم جميعا الصراع الأزلى و المستمر ما بين العقل و القلب لكل انسان الى ان يصل الى تلك اللحظة التى معها يتبدل الحال الى حال، لتكتب نهاية لهذا الصراع المحتدم داخليا  اما  « بلحظة ندم «  أو « لحظة حب» .


أشرف فؤاد