قضايا شائكة.. فن الجرأة دون تنميط!

قضايا شائكة.. فن الجرأة دون تنميط!

العدد 780 صدر بتاريخ 8أغسطس2022

من قال أن الجرأة تتطلب أدواتاً فجة لنستوعبها!؟ من قال أن القضايا الكبرى تحتاج صوتاً عالياً لنسمعها!؟ هكذا أتساءل كلما شاهدتُ عشرات الأعمال الفنية، المسرحية تحديداً، التي تحاول طرح الموضوعات الجريئة والشائكة، بأساليب ممجوجة، وشخصيات نمطية لاستدراج المتلقي.. حيث يعتقد بعض المخرجين أنه بالصراخ المتواصل فقط تتضح معاناة شخصياته، وبالنواح والعويل وحده يتأثر المتلقي بحزنها، وبضحكة مجلجة تتخللها شهقات مفتعلة يتجسد مجونها!
هذا النوع من المخرجين لا يدركون أن المتلقي لا يحتاج لأكثر من نظرة عميقة حتى يتلمس معاناة الشخصية، ولحظة صمت واحدة ليشعر بحزنها، وأن المُجون قد يسكن شخصيات ترتدي ملابس الطهر والعفاف أيضاً.
كم عملاً فنياً تناول قضية العنف ضد النساء - على سبيل المثال – ووجدناه ينحو باتجاه ممارسة العنف ذاته لا تجسيده فحسب!؟ حيث تتعالى الأصوات وتتكرر اللكمات في العديد من المشاهد. ليتحول جسد الممثلات في بعض تلك الأعمال إلى مادة للضرب واللكم والسحل، رفقة صوت تهتز له أرجاء المكان، ما بين الفاعل/الرجل، عريض المنكبين، وهو يصرخ بصوته الأجش بالشتائم والسباب، والمفعول به/المرأة، المستكينة، وهي غارقة بدموعها وتولول مستنجدة بأعلى صوتها. وهكذا بالنسبة للقضايا الأخرى الأكثر شائكية والتي تتعرض للعلاقات الجنسية، باختلاف محاورها، كثيراً ما تُقدم بصور نمطية مستهلكة، لا تخرج عن قالبها المعتاد، حتى باتت مصدر سخرية المتلقي من جانب، وعاجزة عن كسر أفق توقعه من جانب آخر.

كيف قدّم القومي قضاياه؟! 
في المقابل، وأثناء متابعتي للمهرجان القومي للمسرح المصري، لاحظت أن بعض عروضه تناولت قضايا شائكة جداً، حيث اختار بعضها القالب الكوميدي لتمرير تساؤلاته الوجودية الجريئة - بذكاء - ضمن أسلوب هزلي ساخر، مثل العرض الممتع جداً، والذي ينضح بالطاقات التمثيلية الهائلة (خلي بالك) للمخرج (محمود عبدالرازق)، وعرض (علاقات خطرة) للمخرج (مايكل مجدي)، الذي أمتع الجمهور رغم بعض الملاحظات، أبرزها المشاهد الزائدة التي أخلّت بالإيقاع العام للعرض. 
كلاهما حاول النبش في النفس البشرية، عبر تناول الكثير من التساؤلات الوجودية التي تنخر عقل الإنسان منذ لحظات الوعي الأولى، حول الذات، الكينونة الإلهية، والعلاقات الإنسانية، دون رسائل فجة أو إجابات تقليدية. 
ومن اللافت للنظر أن الأداء في العرضين السابقين خرج عن إطار الدوران حول الجسد، ضمن إضاءة زرقاء تنضح بالحيرة، وتوجيه الخطب العصماء للجمهور، بل أن كثير من تلك التساؤلات قدمت ضمن السياق العام، وظلت إجاباتها رهن وعي المتلقي بفضائه المفتوح.
بجانب العروض الكوميدية، أسعدنا المهرجان القومي بمعالجات فنية قدمت تساؤلاتها وقضاياها الجريئة، بأسلوب غير تقليدي، دون صراخ، وعويل، أو ابتذال، فأثّرت في المتلقي بهدوء ورصانة جعلتني شخصياً أخرج من كل عرض منها وأنا أحمل في داخلي عشرات الأسئلة، وذاكرة مكتنزة بصور مشهدية لا يمكن نسيانها، كما في العروض التالية: 

لا عويل في (بنت القمر) لمحمد السوري
 في عرض (بنت القمر) للمؤلف والمخرج (محمد السوري)، لم نسمع بكاءً هستيرياً، أو نشهد نهايات دراماتيكية، رغم أن كل لحظة في العرض - حرفياً - تُدمي القلب، لكن السوري – ومنذ اللحظة الأولى – آمن أن المعاناة لا تُقاس - فنياً – بالصراخ والعويل، وقرر أن الألم خيار الجمهور وحده، دون أن يستجديه الممثل بالآهات والدموع، فكان أداء الممثلين انسيابياً، يتسق وقضايا العصر التي ناقشها العمل، بدءاً بسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على الأرواح قبل العقول، وانتهاءً باستغلال الآباء لأبنائهم واللعب على وتر جراحهم، مروراً بالزيف الذي يغلف المجتمع بجميع فئاته، فكان الممثلون يقدمون الشخصيات/القطيع بأقنعة واحدة، ملامحها متهدلة بألوان ترابية تتقاطع وأزياء كل شخصية منها، ذلك التماثل – المدروس - في الأقنعة والأزياء مهّد الطريق فنياً وفكرياً لأن تلعب كل شخصية (ممثل) دورها ومن ثم تعود لانتمائها الحقيقي (كجزء من القطيع) مرة أخرى.
لعل أكثر ما لفت انتباهي، وعي المخرج الكامل بضرورة أن يقدم جميع شخصياته بأسلوب محبب للجمهور، بدءاً من الأم والأب، وصولا إلى عامل المقهى (الجرسون)، تماماً كما تفعل وسائل التواصل الاجتماعي، فالقطيع الحقيقي في هذا العرض، هو جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، لا أبطالها المزيفين فحسب، لأن جمهورها هو من صنع بهوسه وجنونه، تلك الشخصيات البشعة، ومنحها مجداً باتت تستخدمه كالسوط لجلد الجمهور متناسية دوره في صناعتها، ومن هنا جاء اختيار المخرج للممثل أسامة المهنا (الأب) والممثلة آية التركي (الأم)، اختياراً موفقاً، ليقدم من خلالهما الشخصية الاستغلالية، التي تمتص دم الآخر، وتقتات عليه، فقدم كلاهما وبإتقان شديد الطبيعة (اللزجة) بنكاتها السمجة وابتسامتها البلهاء التي لا تأسر إلا جمهورها في وسائل التواصل الاجتماعي/القطيع. 
حين اقترب العرض من نهايته خشيتُ أن يقع في هوة الرسائل المباشرة، لكن المؤلف/المخرج كان واعياً لذلك، فلم نسمع دروساً وعظ على لسان البنت (بسمة فحمة)، التي لعبت دورها بأداء داخلي عميق وإدراك كامل لأبعاد الشخصية الضحية/الجلاد (لبنى المنسي)، وإن جاء الصوت خافتاً جداً، حيث كافحتُ كثيراً لالتقاط عباراته رغم جلوسي في الصف الثالث. 

آلام النفس البشرية في ماذا أفعل هنا!؟ لكارول العقاد
ضمن منطقة مغايرة تماماً، شاهدتُ - باندماج واستمتاع كبير - عرضاً إنسانياً فتّت النفس البشرية، وفككها تفكيكاً، بعنوان (ماذا أفعل هنا بحق الجحيم!؟). 
بلا كلمة واحدة، آلمنا/عذّبنا العرض، دون أن يمارس التعذيب، أو يُصرّح بالألم، كانت المخرجة والمؤلفة والممثلة الرئيسية (كارول العقاد) تجلس في منتصف الخشبة، تلاعب بيديها قطعة من العجين وموجهة نظرها نحو نقطة واحدة لا تتغير طوال العرض، بتقنية تنم عن ذكاء ووعي أدرك أهمية الفصل بين حاسة البصر، وبقية الحواس، حيث تبدّلت جميع إيماءات الوجه خلال العرض، باستثناء النظرات التي ظلت ثابتة باتجاه النقطة ذاتها، كما هي حياتنا التي نصارع فيها محيطنا بجميع عثراته، باتجاه هدف واحد لا نحيد عنه، كل تلك الحالات جاءت موازية تماماً لقطعة العجين التي أخذت تشكلها (العقاد) كما شكّلت العرض بالكامل، بناء على ما تتطلبه الحالة الشعورية للشخصية الرئيسية. 
نكتشف فجأة أن في داخل تلك الشخصية، تذوب ثلاث شخصيات نسائية أخرى، لكل منها لون، وطابع مختلف، يرتدين جميعهن الأزياء ذاتها، والتي تم تصميمها بحرفية تعي تماماً مكونات الجسد ومتطلبات الحركة ضمن دائرة الرقص المعاصر تحديداً، لخصوصية حركته وعمق مرونته.
خرجت الشخصيات من جسد الفتاة لتتفجر الأحاسيس الإنسانية، بفيض من الخوف، العنف، الحب، والبهجة..وكثير من الاكتشاف بتوجس، جميع تلك المشاعر وهبتها لنا المخرجة في ساعة واحدة، احتاجت لبعض التكثيف – خاصة في المشهد الأول ومشهد الرقص، لكنها حتماً - ودون بهرجة، أو جمل سردية - لامست قلوب المتلقين، خاصة تلك الخاتمة التي أذهلتنا بهدوء جم بعد عاصفة المشاعر بين الشخصيات الداخلية من جانب، والمؤثرات الخارجية عبر الباب والشباك من جانب آخر، فجعلت كل واحد من الجمهور يخرج من العرض بتأويله الخاص، وتساؤلاته اللامحدودة.


العنف ضد النساء في (الجبتانا) لمناضل عنتر
في عرضه المميز (الجبتانا) جاء مناضل عنتر ليقدم قضاياه بصورة مغايرة، غير تقليدية. فأمتعنا برقصات موزونة، عالية المستوى لراقصين محترفين، يتهادون على خشبة المسرح بخطوات ثابتة، واتزان مدروس كمن يمشي على الحبل، ليقدموا لنا عدة مشاهد تنوعت في سردها لجوهر النص الفرعوني (الجبتانا). 
لكن أبرز تلك المشاهد - من وجهة نظري - تمثّل في اللحظة التي تقلص فيها فضاء العرض المسرحي ليختزل فيه عالم المرأة كله بين يدي رجلين يحمل كل منهما عصا غليظة، تستخدم في الرقص ضمن تراث صعيد مصر. 
في تلك اللحظات المتقنة، اصطحبنا مناضل عنتر إلى عالم آخر، استطاع فيه تجسيد العنف وإيصال الإحساس للمتلقي دون ممارسته على الممثلة. فما بين الرقص بالعصى تارة، وتفادي الموت تحت وطأة العصي ذاتها تارة أخرى، تنقلت الفتاة باحترافية عالية، على المستوى الجسدي والإيمائي أيضاً، حيث ساعدت ملامحها في الدخول للحالة الشعورية، وتفنن الشابان باللعب على وتر القسوة بأجواء كانت من أمتع المشاهد وأكثرها تأثيراً.
الفتاة التي أدت دورها باقتدار إيمائي وجسدي تم التلاعب بها ونقلها من عصا إلى أخرى بانسيابية شديدة، حيث أذهلتنا مرونة جسدها وهو يذوب بين اليدين كقطعة من حلوى، والعصا تتحكم في حركتها، وتشكيلها ككتلة من طين، أما الممثلون فلم يرف لهم جفن، كانت تقاطيعهم القاسية تحمل ابتسامة خفية بين الحين والآخر، ابتسامة انتصار (خبيثة)، تحرك خطواتهم الجامدة.
في مشهد آخر، تكرر العنف، بجر الشعر لكن دون جر، وضرب الفتاة بالعصا لكن دون ضرب.. حركات إيمائية متقنة، كان الجسد أساسها، يبث أنفاساً متقطعة يتقافز على أثرها الجسد بنبض نكاد نسمعه ونحن نجلس في الصف السادس، حيث كان الإتقان في عرض (الجبتانا) مصدر المتعة الأول بالنسبة لي.

الغواية في (سيرة عنترة) لكريمة بدير
يقف عرض (سيرة عنترة)، في المنطقة الخطرة من بين معظم عروض المهرجان، ويُعد تحدياً لأي مخرج، ليس لكونه يتناول سيرة ذاتية لشخصية معروفة بتفاصيلها فحسب - على عكس جميع العروض المذكورة في هذا المقال - بل لكون الشخصية لأحد أهم شعراء المعلقات، ومن أكثر الشخصيات التي كتب عنها وتم تجسيدها فنياً وأدبياً، مشكلاً بذلك جزءاً من الذاكرة العربية، بتصور مُسبق، شئنا أن أبينا. واختيار المخرجة كريمة بدير يُعد – بحد ذاته – أولى خطوات الجرأة في هذا العرض.
من بين العديد من اللوحات، جاءت لوحة (سمية وعنترة) الأكثر مغايرة، حيث عبّرت المخرجة عن فكرة (الغواية) دون إيماءات أو حركات مستهلكة. كانت (سمية) تخطو باتجاه (عنترة)، بحماس الأنثى وعذوبتها، وعنترة يتجاوزها بنبل الرجل العربي وأصالته، تقلبت المشاعر، الأقدام تخطو برغبة عارمة، والأيادي تدفع بالاتجاه الآخر بخوف ووجل، فحين تسقط سمية، يهرب منها عنترة بسرعة خاطفة، لكن ما أن يسقط عنترة، حتى تسرع سمية بلمح البصر، وبعين شبقة، لتتحين فرصة الانقضاض عليه بجسدها الذي نسي أو تناسى كينونته. 
مشهد (الغواية)، يثبت للمتلقي أن المخرج الذكي، يستطيع أن يقول كل شيء، بلا كليشيهات ممجوجة، يساعد في ذلك وجود ممثلين يمتلكون القدرة على القيام بلعبة (الكر والفر) المستمدة من المعارك العربية التي خاضها عنترة ذاته في زمن ما.
عرض (سيرة عنترة) بجميع مشاهده، وقدرات ممثليه، وسلاسة أداء المؤلف/ الراوي أسامة فوزي، قال ما نعرفه عن عنترة، بأسلوب مغاير وبنهاية عصرية.
وأعتقد أن إشكالية العرض الوحيدة، وهي تكاد تكون إشكالية معظم العروض الراقصة، اعتمادها على اللوحات، التي رغم أنها متصلة، إلا أن المخرجين يصرون على أن تكون منفصلة (موسيقياً) وسينوغرافيا (على مستوى الإضاءة تحديداً)، في كل عرض أحضره، آخرها الجبتانا وسيرة عنترة، كنت دائما أتصور لو أن اللوحة الأولى سلمت نهايتها للثانية، بانسيابية، دون ذلك الفصل، لكانت الحالة أكثر تأثيراً، دون أن يتخللها همسات الجمهور.

كل الخطايا في (المطبخ) لمحمد عادل
أما في عرض (المطبخ)، فكنا أمام منظومة متكاملة من القضايا الآنية الشائكة، حيث قدم المؤلف والمخرج محمد عادل، عملاً إنسانياً بامتياز، يأخذ المتلقي إلى مناطق جديدة، في فضاء مختلف وغير مستهلك. كانت القضايا المطروحة، تتقاذف على رؤوسنا كالجمر، الواحدة تلو الأخرى، بقسوة تعصر القلب، دون أن يذرف الممثلون دمعة واحدة، بدءاً بقضية التحرش بالأطفال، التي بدأت الممثلة تقرأها علينا ضمن مذكراتها في سطر واحد، ربما عبارة واحدة أو جملة واحدة - كما أذكر - حين أشارت لـ (العبث بالجسد)، لتنتقل بعدها بسرعة البرق لقضية أعمق متمثلة بزنا المحارم، حين توقفت عند العم قائلة (عمي ينظر بخبث).. مأساة طفلة، كبرت معها لتشل علاقتها الزوجية بعد ذلك، وتكر السبحة بقضايا متصلة منفصلة كالعلاقات خارج إطار الزواج، والعلاقات المثلية، وإشكاليات العلاقات الزوجية ما بين عنف وبرود وتوتر.
كل تلك القضايا، تفنن المخرج/المؤلف في عرضها عبر مفردة، نظرة، أو إشارة، وأحيانا مجرد لمسة يد.. أو ما يبدو أنها لمسة يد، كما في (اللحظة الخاطفة) التي توهمت فيها فتاة الليل وجود مشاعر أخرى/غير سوية لدى الزوجة تجاهها.
طرح متفرد بامتياز.. ليس لجرأته فحسب، بل لقدرته (النادرة في هذا الزمن) على عرض كل تلك القضايا دون ابتذال، أو فجاجة كتلك التي بات البعض يستلذ بعرضها في أعماله، سعياً لدغدغة مشاعر فئة معينة من الجمهور. 
كم أدركت حجم وعي المخرج محمد عادل لحظة دخول شخصية فتاة الليل، حين جاءت بفستان يشبه أي فستان آخر، دون الحاجة للعري أو الضحكات الصاخبة التي استُهلكت في الأعمال السينمائية، ولازال هناك من يُعيد استخدامها في أعماله. 
جاءت شخصية الزوج مشابهاً لكل الوجوه التي نراها في الشارع، دون أي علامة تركتها (ضربة مطوة)، وبلا صوت يظل (يجعّر) في وسط الخشبة، بل كان الأداء بسيطاً، هادئا، رفقة زوجة بسيطة وهادئة، وبعد اللحظات الأولى من العرض فقط، تعرفنا على دواخل كل واحد منهما لنفاجأ ببراكين تتفجر ألماً، حزناً، بلا مبالغة، أو تهويل، وحين انضمت إليهما شخصية فتاة الليل، تكشفت الشروخ، وتحولت إلى صدوع لا علاج لها.
الجرأة فن.. ومناقشة القضايا الشائكة تحتاج صوتاً داخلياً يزن الكلمة قبل البوح بها، فشكراً لكل من أتقن فن الجرأة بأدوات غير تقليدية، وشكراً لكل من أجاد طرح القضايا الشائكة بوعي يدرك أن وسائل تعرية الذات ونبش دهاليزها، لم تعد بالصراخ والعويل وتعرية الجسد.
...............................................................................
1- كاتبة، ورئيس قسم النقد والأدب المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت.


د. سعداء الدعاس