مجنون يوسف وهبى وفرقة رمسيس.. مسرحية المجنون كانت جواز السفر لعصر جديد من الميلودراما

مجنون يوسف وهبى وفرقة رمسيس..  مسرحية المجنون كانت جواز السفر لعصر جديد من الميلودراما

العدد 778 صدر بتاريخ 25يوليو2022

 برغم أن مسرحية المجنون التى قدمتها فرقة رمسيس، لا تعتبر من المسرحيات المصرية ذات المستوى الدرامى المتميز، لكنها وبعيداً عن المستوى أو المدلول الدرامى، تشكل واقعاً فنياً هاماً فى حياتنا المسرحية، فالمسرحية تجمع بين أقطاب ثلاثة، لهم أهميتهم وتميزهم فى تاريخ المسرح المصرى، وهم يوسف وهبى تأليفاً وبطولة، وروزاليوسف، كبطولة نسائية، وعزيز عيد فى الأخراج المسرحى، والتمثيل أيضاً، وأهم من هذا، فهذه المسرحية كانت هى المسرحية الأولى فى حياة فرقة رمسيس عند أفتتاحها 1923، والأهم من هذا، وبعيداً عن المستوى الفنى لها، فهى تعتبر باكورة مسرحيات التحليل النفسى، فى المسرح المصرى، من خلال مؤلف مصرى، ونجاح هذه المسرحية نجاحاً جماهيريا هائلاً، ساعد بعد ذلك على رواج تيار الميلودراما الذى أنتشر مع بداية يوسف وهبى فى فرقة رمسيس، ولو أن هذه المسرحية قد فشلت جماهيرياً، لأتخذ يوسف وهبى، ومعه عزيز عيد منحى آخر غير الميلودرامات المفجعة، لكن نجاحها جماهيرياً، لم يجعل يوسف وهبى يمضى فى أتجاهاته الميلودرامية فحسب، بل جعلت نجيب الريحانى نفسه، رغم نجاحه الكبير فى مجال الكوميديا، إلا أنه قرر أن ينهج نفس نهج يوسف وهبى الميلودرامى، بداية من مسرحية ريا وسكينة ، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، لأن الجمهور لم يعتاد عليه فى القالب التراجيدى، الميلودرامى. 
الأخبار الخاصة بمسرحية المجنون: نشرت جريدة المقطم يوم الأحد الموافق 11مارس 1923 خبراً يقول، “فى هذا المساء سيظهر فوق تياترو رمسيس، لأول مرة يوسف وهبى، فى دور المجنون، الذى حاز من أجله على درجة فن الإلقاء، من معهد ميلانو، وستمثل هذه الرواية، ثلاث ليال متوالية”، كما نشرت جريدة الأهرام فى اليوم التالى، “المجنون، الرواية الأولى، التى تقدمها لأول مرة فى مصر، فرقة تياترو رمسيس،  وهى الأولى من ثمانية روايات جديدة، تبدأ بها الفرقة جهادها، فى سبيل إحياء نهضة المسرح المصرى، وضعها مدير الفرقة، يوسف بك وهبى، الحائز على دبلوم فن الإلقاء، من معهد ميلانو، بإيطاليا، وتلميذ كيانتونى، الممثل النابغة الإيطالي، يوم الإثنين 12 مارس، سنة 1923، الساعة 9 مساءً، بينما وصفتها جريدة المقطم، بفاجعة من أربعة فصول.   
ملخص مسرحية المجنون: تدور المسرحيةـ فى إطار رومانسى، ونفسى، حول الدكتور الشاب “رودلف” الطبب الناجح، الطيب القلب، والمدير لإحدى المستشفيات الهامة بباريس، والذى يتملكه حباً عنيفاً ل “مادلين” ولكن ولاعتبارات عديدة، يرفض والد “مادلين” فكرة زواجها من “رودلف”، وهو ما سبب له صدمة عنيفة، تؤدى به إلى الجنون، بل وإلى قتل والد محبوبته، وتتم محاكمته، فيتم إيداعه مستشفى الأمراض العقلية، وبدلاً من أن يتم علاجه فى المستشفى، يتم أضطهاده، فتزداد حالته سوءاً، حتى أنه يتعاون مع بعض نزلاء المستشفى فيقتلون أحد الأطباء، فى الوقت الذى كانت فيه “مادلين” ، قد تزوجت من رجل أخر طيب القلب، ويخطط الدكتور “رودلف” للهرب، وينجح فى هذا، ويكون مقصده بعد الهروب، أن يتجه إلى منزل “مادلين” حبيبته، التى تعلم من خلال ما يتردد بهروبه من المستشفى، ويتملكها الرعب والخوف، وبينما “مادلين” فى أحد الأيام، جالسة مع أمها وطفلها، فى أنتظار زوجها، فوجئت بالدكتور “رودلف”  يدخل عليها فى هدؤ، متأملاً ذلك المكان الذى أحتضن فترة غرامه الأول، تصاب  “مادلين”  بالرعب، لكنها تتمالك نفسها، خوفاً منه، وخوفاً على طفلها، ويبدو أن الجو العام، قد أعاد للدكتور “رودلف” الهدوء العام، الذى كان يتميز به،  فبدأ يستعيد ذكريات الحب مع “مادلين”، وهى تستمع له بهدوء مصطنع، خوفاً على أبنها، ويجلس “رودلف”، بهدوء وبدا يعزف على البيانو، قطعة كان يعزفها لها، مما جعل الطفل يستيقظ على صوت الموسيقى صارخاً، فتنبه الدكتور “رودلف” إلى وجوده، فسألها بقلق عنه، وحاولت “مادلين”  أن تدعى أنه ليس طفلها، لكنها عندما وجدته يتجه إلى الطفل، أنتابها القلق، والخوف، على أبنها، فصرخت فى وجهه وهى تجاهد لتبعده عنه، فايقن “رودلف”  فى هذه اللحظة، أن هذا الطفل هو أبنها، وأنها تزوجت من رجل سواه، فثارت ثائرته، وأخذ يجادلها، مهدداً تارة، ومستعطفها تارة أخرى، وتقوم الأم بالاتصال بزوج أبنتها “مادلين”، وتخبره بما حدث، فعاد الزوج مسرعاً ( وكان يقوم بدوره عزيز عيد )، ليجده قد أنقض على زوجته، يحاول خنقها، وهو يقول لها “لماذا خنتنى أنا، وكيف طاوعك قلبك، لم أحيد عنك قيد شعره، ستتركين هذا الرجل الخبيث، الذى أغراك، أنه لن يجرؤ على الاعتراض، فإنى لمسحقه سحقا”، وبينما تحاول “مادلين” أستعطافه، وسط صراخ الطفل، يطلق الزوج الرصاص على الدكتور “رودلف”  الذى يلفظ أنفاسه، وهو يردد أسمها، قبل أن يقع مقتولاً. 
سقطات درامية: والمسرحية كما نرى، مجموعة من المفارقات المفجعة، وسط بناء درامى متردى، لا يراعى أبسط القواعد فى رسم الشخصية التراجيدية، فالمؤلف (يوسف وهبى) رسم شخصية البطل التراجيدى، بمنهج صحيح فى البداية، فهو من (علية القوم) ، طبيب، محبوب من أهله ومن رفاقه، ولابد أن هذا ناتج عن حسن التعامل، وتقديره للظروف، كى يثير التعاطف معه، لكن  هذا الطبيب يقع ضحية الجنون، عندما يرفض والدها أن يزوجه لها، ويتراء لنا هنا أن المبررات التى قادته للجنون غير مقنعه مع مقومات الشخصية، وما تلاها من أفعال، فالطبيب كما شاهده المتفرج شخصية متزنة ناجحة ومحبوبة قادر على التعامل مع المجتمع بنجاح، مما أهله لأن يكون مديراً لمستشفى هام بباريس، ليس له دوافع نفسيه تدعوه للجنون، لمجرد أن والدها رفض زواجه من أبنته، حتى يصل به الحال أن يقتل والدها من فرض جنانه، وهو الطبيب العاقل المثقف، مما يؤكد أن هناك خللاً فى تركيب الشخصية، ومقوماتها، ودلاله الفعل، وأسبابه،  ربما تأثر يوسف وهبى هنا بمسرحية “لوسيد” لبيتر كورنى (1606- 1684)، التى تدور أحداثها فى القرن الثامن عشر، بين رودريج، الرجل النبيل، وشيمين، الفتاه العريقة، ويتعارك والد شيمين، مع والد رودريج، الرجل الكهل المريض، ويسبه، فيتدخل رودريج، فيسبه والد شيمين، ويدعوه للمبارزة، وكان العرف السائد وقتذاك أن من يتراجع عن المبارزة، أحاطه العار، والخزى، به وبأهله، ويصبح رودريج فى صراع، بين حبه لشمين، وبين واجب الشرف، ويدخل رودريج المبارزة وينتصر، هنا فى مسرحية لو سيد، قتل المحب لوالد محبوبته، له مبررات درامية،  وتم من خلال صراع درامى كبير،  أما قتل رودلف لوالد شيمين، فليس له أى مبرر درامى، ويخلو من أى صراع، أو مبررات معقوله، كذلك، محاولته لقتل الطفل، لا يتناسب مع كونه شخصية محبة عاطفية، يغلب عليها الطابع العاطفى، يحاول كسب ود محبوبته من جديد، هذا من ناحية بناء الشخصية، كذلك نجد أن الأحداث غير منطقية، بدخول رودليف منزل شيمين، بلا أى عائق، برغم أن الجميع يعرف جيداً أنه قد هرب من أجل مقابلة شيمين.
أراء النقاد المعاصرين للرواية: نجد أن جريدة السياسة، تمتدح كل شيئ إلا أداء يوسف وهبى، خاصة فى المشهد الأخير، قائلة، “رأيناه وهو يبكى، ثم يصيح ويبكت، فأعجبنا، الأستاذ يوسف وهبى، إلا أننا نلاحظ أنه لم يكن على قدر كاف من الذعر، والشدة، التى تتملك من كان بحالته، بمثيل مجنون هرب من المستشفى، بعد أن قتل مدير ذلك المستشفى، كنا نود أن تكون حركاته، أكثر أنفعالاً وأقل فتوراً، وحبذا لو يستعار بعض حركاته، ونظراته فى الفصل الأول، ثم يعيب على المسرح، عدم توزيع دعوات على الصحفيين، وعدم توزيع ملخص للرواية، على الجماهير، بينما نجد أن محرر جريدة الأفكار يقول “ لا يمكن أن نتخذ رواية المجنون، مقياساً لبقية الروايات” ويرجع ذلك أن أنشغال يوسف وهبى، فى بناء التياترو، واختيار الممثلين والنصوص، قد عاقته، عن إتقان تحوير الرواية، وأختتم مقاله قائلاً، “الفارق بين المجنون، والروايات المسرحية الفنية، يعادل الفارق بين رواية طرازان، وكتب داروين، ولأجل هذا لا نريد أن نتعرض للمثلين، بخير، أو بشر، لأن طبيعة الرواية، يتنافى مع التجويد، فى التمثيل، بينما مدحت جريدتى الأخبار، والمقطم الرواية والممثلين، بلفظ ما أروع، ما أفضل، دون ذكر أى مبررات درامية.      
راى روزاليوسف بطلة الرواية: تقول فى مذكراتها، “وأستقر الرأى على أن يكون الافتتاح برواية “المجنون” ولم يكن عزيز عيد، ولم تكن الممثلة الأولى، راضين عن هذا الاختيار، فالرواية فى الواقع لم تكن من مسرحيات الدرجة الأولى، ولكن الاختيار وقع عليها لأسباب كثيرة، منها أن البطولة معقودة فيها لرجل، مما يعطى فرصة الظهور ليوسف وهبى، بوصفه صاحب الفرقة، ومنها أيضاً أن دور يوسف وهبى، دور مجنون، وتمثيل دور المجنون سهل، إذ أنه لا يخضع لقواعد دقيقة، وأى شيئ يأتيه الممثل، يمكن أن يقال عنه أنه جنون. 
معوقات النقد الفنى فى ذلك العصر: وهناك أزمة بسبب الرواية وقعت ترويها رزواليوسف فى مذكراتها، ظل يوسف وهبى يجهلها زمناً طويلاً، فقد كان بين شهود الرواية، الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازنى، وكان مختصاً بكتابة النقد الفنى فى جريدة الأخبار، والتى كان يصدرها، أمين الرافعى، وكتب المازنى مقالاً يمدح فيه  الممثلين، وينتقد تمثيل يوسف وهبى، وكانت وجهة نظر المازنى، أن الجنون أنواع، فهناك الجنون الهادئ، والجنون الذاهل، والجنون الثائر، وهناك المجنون الذى ينطوى على نفسه، والمجنون الذى يضرب ويحطم، ، لكن يوسف وهبى لم يوضح نوع الجنون المصاب به بطل الرواية، ولكنه خلط كل أنواع الجنون، وأنطلق يصنع على المسرح ما يشاء، مما لا يتيح للناقد أن يحاسبه على الأداء حساباً دقيقاً، وكان أمين الرافعى صاحب الجريدة، صديق عزيز لعبد الخالق مدكور، صهر أسرة يوسف وهبى، الذى تدخل، مستغلاً علاقته بالرافعى، لعدم نشر المقال، مما أدى لاستقالة المازنى، وبعد مفاوضات عديدة، عاد للجريدة، لكنه امتنع عن كتابة النقد الفنى، طيلة أيام فرقة رمسيس.     
وظل يوسف وهبى يكره أى نقد فنى، ويضيق بالصحف أو النقد الفنى، مما تسبب فى العديد من المعارك الفنية النقدية، مع زكى طليمات الناقد، ومع غيره، ونستعرض بعض هذه المعارك النقدية لاحقاً.  


سمير حنفى محمود