«طـار فـوق عـش الـوقـواق» عندما يصبح السلام فى الاستسلام

«طـار فـوق عـش الـوقـواق» عندما يصبح السلام فى الاستسلام

العدد 774 صدر بتاريخ 27يونيو2022

ضمن فاعليات المهرجان الختامي لفرق الأقاليم فى دورته الـ«45»، على مسرح  د. نهاد صليحة  قدم قطاع «قصر ثقافة حلوان» العرض المسرحى «طار فوق عش الوقواق»، إعداد مهند محسن الدسوقي، إخراج يوسف مراد منير، والعرض مأخوذ عن رواية « طيران فوق عش الوقواق»، وهو أول عمل من تأليف الكاتب الأميركى «كين كيسى»، وقد تحولت الراوية إلى عرض مسرحى على «برودواى» من قبل  عام 1963 تحت عنوان «أحدهم طار فوق عش الوقواق»، كما حولها أيضا «بو جولدمان» إلى فيلم سينمائى حائز على خمس جوائز أوسكار بنفس العنوان، من إخراج ميلوش فورمان عام 1975 .
اختارت مجلة تايم الرواية ضمن «أفضل 100 راوية إنجليزية» بين عام 1923 و2005، كما أنها تعد من اكثر الروايات المحبوبة فى بريطانيا . 
وبسبب كل ما سبق من معلومات رائعة أعرفها عن تلك الرواية العظيمة، ذاك هو ما دفعنى بقوة لقبول دعوة المخرج الشاب يوسف مراد منير لمشاهدة العرض، وكلى فضول لمعرفة كيف لذاك المخرج الشاب حديث التخرج من الأكاديمية أن يخرج  مثل هذه الراوية الفلسفية والصعبة والشديدة التعقيد وبإمكانيات قصور الثقافة المحدودة، وأنا اعرف عنه أن تلك التجربة تعد هى تجربته  الثانية  فى الإخراج بعد عرضه المسرحى الأول «سجن النسا» على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية، والذى لم يسعدنى الحظ بمشاهدته بالرغم من انه نال عنه أيضا بعض جوائز المعهد، وها هو يكررها على نطاق اكبر وعلى مستوى الأقاليم ويحصد جائزة  لجنة التحكيم الخاصة عن  «أفضل أداء جماعى» عن عرضه الثانى «طار فوق عش الوقواق» عن جدارة واستحقاق،  كما تحصد «نانسى نبيل» إحدى أبطال العرض جائزة «أحسن ممثلة دور ثان» عن نفس العرض، بل وتعد تلك الجوائز هى أول جوائز يحصدها «قصر ثقافة حلوان» فى تاريخه وعلى يديه، لتصدق توقعاتى المستقبلية التى توقعتها لذاك المخرج الواعد عميق الموهبة بعدما شاهدت عرضه المسرحى «طار فوق عش الوقواق»، تدور أحداث العرض بمستشفى للأمراض النفسية نخلص منها إلى عقد مقارنة ما بين سلوك المؤسسات وسلوك العقل البشرى فى مواجهة بعضهما البعض، من خلال قصة راندل باتريك ماكمفرى الذى يغتصب فتاة فى الـ 15 من عمرها، مما يدخله السجن فيدعى الجنون كى يتمكن بعدها من الانتقال لمستشفى الأمراض العقلية ويتمكن من الهرب هناك، وبالفعل هذا ما حدث حيث انتقل للمستشفى لتقييمه وفحصه أن كان به خلل عقلى أم لا، وهناك تبدأ محاولاته  للهرب التى تبوء كلها بالفشل بسبب قوة ونفوذ الممرضة راتشيلد ومن يتبعها من المعاونين، وفى مواجهة أخيرة بينهما اثر انتحار أحد أصدقاءه من نزلاء المستشفى بسبب تهديدها له بإخبار والدته بعدما رأته عاريا فى أحضان بائعة هوى بالمستشفى، وبعد مواجهة عنيفة بينهما يتهجم فيها ماكمفرى علي راتشيلد انتقاما لصديقه محاولا قطع قميصها يتم عزله وتكثيف جلسات الكهرباء له مما يفقده القدرة على الحركة والكلام، ومن ثم يقوم بعدها احد نزلاء المستشفى ويدعى الزعيم بخنقه حتى الموت اعتقادا منه انه بمقتله قد ينال حريته، ومن ثم تنتهى المسرحية بموكب جنائزى أقامه النزلاء له على مركب من صنع خيالهم . 
اعتمد يوسف منير فى إخراجه للعرض المسرحى على المدرسة الرمزية التى تعتمد فى منهجها على الإسقاطات والرموز، فوجدنا إحدى المرضى وهو مقيد مصلوبا على إحدى أبواب المستشفى كناية على وضع التعذيب، ورمزا إلى معاناة  شعوب تلك الدول المحتلة من حكامها وحكوماتها، كما وجدنا أيضا طوال العرض إحدى المرضى وهو مستلقى منهكا على إحدى المقاعد بينما يتم إيصال العلاج والأدوية له من خلال المحاليل المعلقة، وهو لم ينطق بكلمة واحدة طوال العرض، ولكن وجوده  دوما على هذه الحالة فى غاية الأهمية حيث أن وجوده هنا يعد رمزا ودلالة كبيرة على امتصاص تلك الحكومات لدماء وموارد وخير شعوبها، كما وجدنا أيضا قطع الديكور للعرض المسرحى وهى تتحول على أيدى مرضى تلك المستشفى إلى مركب وهمى كبير من وحى خيالهم، نصب فيه المرضى انفسهم طاقم المركب دلالة على سعيهم الدائم إلى الهروب من ذاك المكان الأشبه بالسجن بالنسبة لهم والذى يرمز إلى القهر والظلم والخضوع  والاستسلام  والإبحار حيث مكان آخر يجدون فيه حريتهم وإنسانيتهم المفقودة، كذا وجدنا أيضا مخرج العرض يوسف  منير وبطله فى ذاك الوقت فى إحدى المشاهد وهو يحضر الشموع المضيئة ويبدأ فى رصها على الأرض بشكل منتظم، ومن ثم بعدها نجد حالة إظلام تدريجى كامل للمسرح مع اقتراب وجهه كممثل من تلك الشموع ليتحدث لها ويخاطبها فى لوحة جمالية غاية فى الإبهار دلالة على ذاك الأمل الذى يحدوهم جميعا بشكل عام ويحدوه هو بشكل خاص ويسعوا إلى تحقيقه يوما ما بالرغم من كل الظروف المحيطة المحبطة وغير المشجعة حولهم بالمرة ولكنهم يتمسكون بالأمل حتى آخر لحظة فى حياتهم، وفى عنوان المسرحية ذات نفسها «طار فوق عش الوقواق» تجد الرمزية قوية هنا حيث قام الكاتب بتشبيه تلك الممرضة المتسلطة القاسية التى أحكمت قبضتها على المكان كله وجعلت كل من فيه من ممرضين وعاملين وحراس أمن حتى المرضى انفسهم يعملون لحسابها وتنفيذا لأوامرها بطائر الوقواق الذى يرمى بيضه فى أعشاش الطيور الأخرى من اجل أن يقوموا برعايته ظنا منهم انه البيض الخاص بهم، وهو تشبيه فيه إسقاط واضح على تلك الحكومات التى تفرض قوانينها على شعوبها من اجل العمل لمصالحها هى لا مصالح شعبها، كما شبه الكاتب أيضا بطل المسرحية بالطائر الحر الذى يتمرد على تلك القوانين ويرغب فى الحرية كناية عن المعارضة التى تتطلع إلى التغيير دوما وهى هنا فى المسرحية تنتهى بالفشل والاستسلام والاكتفاء بالعيش فى الأوهام والخيالات من أجل التعايش فى سلام  بعيدا عن بطش السلطة المتمثلة فى الممرضة وتعذيبها وقهرها لهم، وهناك أيضا العديد من الرموز التى يذخر بها العرض المسرحى ولكن لا تسمح هنا المساحة النقدية لذكرها جميعا فى مقال واحد والتى هى أن دلت جميعها لا تدل إلا على أننا أمام مخرج شاب واعى ومثقف ومهموم بقضايا الإنسانية، ولكننى فقط اكتفيت هنا بذكر أهم تلك الرموز المعبرة وذات الدلالات العميقة .
إيقاع العرض المسرحى منتظم وسريع إلا فقط فى مشاهد جلسات واجتماعات الممرضة مع المرضى حيث تكررت بالعرض المسرحى اكثر من مرة بنفس الوضع الحركى والأدائى وكأنها مشاهد مسجلة تعاد للمتلقى، مما كاد أن يتسرب الملل له بسبب ذاك التكرار لولا سخونة الأحداث فيما بعد التى أنقذت الموقف، وربما أراد المخرج من خلال ذاك التكرار أن يوصل رسالة للمتلقى بحياة  الملل والرتابة والروتين التى تتصف بها مثل تلك المستشفيات ولكن كان عليه أن يكثف من ذاك التكرار ويكتفى بجلستين فقط للممرضة مع المرضى بنفس التشابه الحركى والأدائى وكانت كافية لإيصال المعنى والهدف الذى يرغبه  .
أحسن المخرج الشاب يوسف  منير اختيار كل فريق العمل من الممثلين والممثلات كل فى مكانه الصحيح حتى انه احسن تسكين نفسه هو شخصيا كممثل بجانب كونه مخرج العمل فى الدور المناسب له واستطاع أن يفصل بين المهمتين تماما والتركيز كممثلا فكان صادقا فى الأداء والإحساس وهذا للعلم فصل فى غاية الصعوبة لا يجيده إلا قلة من المخرجين، لذا أجاد الجميع فى أدوارهم بكل تلقائية حتى الأدوار الصامتة منهم كان الممثلون من قاموا بها فى قمة التألق والفهم لمعنى أدوارهم فاستطاعوا لفت أنظار الجمهور للرسالة المراد بها إيصالها لهم من خلال ذاك الصمت، والممثلون هم بولا ماهر، نانسي نبيل، إبراهيم كمال، يوسف مراد منير، شهاب الحديدي، محمد حمام، عمر عبد الباري، بهاء سليمان، بسام ودود، دينا بسيوني، مازن مجدى، مصطفي مجدى، مصطفي علاء، مازن السنوسي، محمد البرنس، امجد إيهاب .
الديكور لفاطمة محمد معبر عن الحالة المسرحية إلى أقصى درجة من الإتقان حيث تعمدت مصممة الديكور هنا أن يوحى شكل الديكور بالكآبة والإحباط سواء على مستوى ألوانه الباهتة أو على مستوى الشكل الجمالى حيث لا نظام ولا ترتيب ولا شكل جمالى، فجاء عبارة عن مكان مجهول لا صفة له ولا هو يشبه مستشفى أو أي مكان آخر، كما ساعدت إضاءة آلاء رسلان على تأكيد هذه الكآبة والإحباط الذى يحيا فيه المرضى من خلال ألوان الإضاءة الخافتة، فساد اللون الأصفر الباهت على اغلب فترات العرض وهو ذاك اللون الذى يصدر هذه الحالة للمتلقى، كما جاء اللون الأحمر فى بعض المشاهد دلالة على المكائد والتعذيب الذى يتعايشون معه .
الملابس لغادة نصر جاءت معبرة عن كل شخصية  من المرضى والسبب الذى من اجله جاء إلى المستشفى والمرض النفسى الذى ينتابه، كما جاءت متلائمة مع المكان الذى يجمعهم جميعا ألا وهو مستشفى الأمراض العقلية والعصبية، ومن المهم فى أي عمل مسرحى أن يتوافق المكياج مع الملابس الخاصة بالشخصية المسرحية، وهذا ما نجحت فيه إلى حد كبير روان علاء فى وضع لمسات المكياج المناسبة للمرضى وشخصياتهم، كما تألقت أيضا فى التعبير بالمكياج عن الوجوه الشاحبة سواء أن كانت بسبب المرض أو التعذيب حيث تختلف آثار كل منها عن الأخرى .
التعبير الحركى لمى رزيق برغم ندرته بالعرض المسرحى إلا أنه فى مشاهده القليلة كان موفقا جدا فى إضفاء روح البهجة للمتلقى وكسر حالة الإحباط بالعرض المسرحى فى بعض الرقصات المعبرة عن صميم الدراما، ومحاولة خروج المرضى من الحالة النفسية التى كانوا عليها إلى عالم آخر من البهجة والأمل سواء بالرقصات أو بعض ملامح الكوميديا، وساعدها فى ذلك موسيقى وألحان احمد حسنى الرائعة والمعبرة عن تلك الحالة وتوزيع ديفيد سمير، وحيث جاءت الألحان أيضا متنوعة ما بين المواقف الشعورية المختلفة التى تمر على المرضى سواء أن كانت لحظات انكسار أو أمل أو خوف أو تمرد ومعبرة عنها تماما، كما جاءت أشعار أحمد الشريف فى سياق أحداث ودراما العرض المسرحى وخاصة تلك الأغنية الحماسية الأخيرة التى تعبر عن ثورة المرضى ولكن فى عالمهم الوهمى كنوع من التنفيس وتفريغ للطاقة المكبوتة بداخلهم حتى لا يزدادوا جنونا أو تؤدى بهم إلى الانتحار .  
الإعداد لمهند الدسوقى جاء متناسبا مع فكر المخرج ورسالته المراد توصيلها للمتلقى، لذا من الواضح جدا لكل من شاهد العرض المسرحى مدى توافق كلا من المخرج والمعد فى الفكر والرؤية النصية والإخراجية نتيجة جلسات عمل جمعت بينهم من اجل الوصول إلى الشكل المتفق عليه لذاك العرض أمام جمهور المتلقى .
من الأشياء التى لفتت نظرى بالعرض هنا هو رهان المخرج يوسف منير فى اغلب عناصر كرو العمل الخاص به خلف الكواليس من ديكور وإضاءة وملابس ومكياج ودراما حركية  على العنصر النسائى ثقة منه فى قدرتهم على تحمل المسئولية وتقديرا لهم بجدارتهم فى نيل تلك الفرصة التى نجحوا بالفعل فيها جميعا إلى حد بعيد، وبالتالى نجح هو أيضا معهم فى رهانه عليهم بتألقهم كل فى مجاله .
تصميم البوستر لأحمد جمال جاء موفقا ومعبرا عن رسالة العرض المسرحى حيث يتضح سيطرة الممرضة على المكان من خلال صورة مجسمة لها وعلى ملابسها طيف من صور شخصيات العرض المسرحى دلالة على أنها هى السجن ذات نفسه بالنسبة لهم بتحكمها فيهم، ووجودهم بالبوستر بداخل صدرها دلالة على الأمان والسلام المزيف الذى يشعرون به من خلال استسلامهم لها ولتنفيذ أوامرها حماية لهم من بطشها وتعذيبها، ولكن كان على المصمم أن يركز على رسم ملامح حادة لها بالبوستر تدل على شرها وعدوانيتها حيث جاءت ملامحها بالبوستر أقرب إلى الطيبة منها إلى الشر، كما رأينا صورة لبطل المسرحية الذى يتم قتله فى نهاية العرض بأيدى إحدى المرضى وهو مجنح طائرا فوق رأس الممرضة كناية عن نيله الحرية منها من خلال مقتله، كما جاءت ألوان البوستر باهتة دلالة على ما يحيط بالمرضى من إحباط وكآبة تملكت منهم .
وأخيرا، نحن أمام مخرج شاب واعد يمتلك قدرا كبيرا من الفكر والثقافة والرؤية الإخراجية بالرغم من خبراته الحديثة بذاك المجال، كما انه ممثلا يمتلك إحساس عالى وقبول كبير اختار أن تكون بدايته من خلال قصور الثقافة غير معتمدا على اسم أبيه المخرج الكبير مراد منير احد رواد الإخراج بالمسرح المصرى، إيمانا منه بقيمة ذاك المكان الذى يحوى كنوزا من المواهب، ورغبة منه فى أن يبدأ مشواره من أول محطة ليتدرج بخبراته  حتى يصل إلى المحطة الكبرى وليست الأخيرة، لنجده قريبا واحدا من شباب مخرجين مسرح الدولة القلائل من أصحاب الرسالة، وهذا ما آراه مؤخرا أيضا من اهتمام جلى وواضح بقصور الثقافة من خلال عودة مهرجاناتها الكبرى بعد غياب على يد المخرج هشام عطوة رئيس قصور الثقافة حاليا والذى يعمل جاهدا من أجل الارتقاء بتطوير ورقى قصور الثقافة وعودتها من جديد إلى رسالتها الأصلية التى أنشئت من أجلها ألا وهى اكتشاف المواهب المصرية فى كل المجالات . 


أشرف فؤاد