غيلان الدمشقى.. محرض أم باحث عن العدل

غيلان الدمشقى.. محرض أم باحث عن العدل

العدد 764 صدر بتاريخ 18أبريل2022

 غيلان الدمشقى شخصية تاريخية عاشت زمن الدولة الأموية، وكان ممن عرفوا بالمرجئة القدرية حيث سُمّى أصحاب هذا المذهب بهذا الاسم لأنهم يؤمنون بحرية إرادة الإنسان وأن له قدره على أعماله، وأنه لهذا يستطيع أن يعمل ما يشاء وأنه مسئول عن عمله، وهذه المسؤولية تقتضى الحرية، فلا معنى أن يعذب ويثاب إذا كان مقدوراً عليه أن يجرح ما جرح، كذلك سمِّىَ هؤلاء الذين يقولون بحرية الإرادة للإنسان وبأن له قدرة على أعماله بالقدرية.
 وكان الذين يقولون بحرية الإرادة يرون أن أولى الناس بأن يطلق عليه اسم القدرية هم الذين يقولون بأن القدر يحكم أعمال الناس من خير أو شر واعتقادهم أن إثبات قدرة الإنسان توجب الفصل بانفرادها أو استقلالها دون الله تعالى والأفعال بإرادة الله تعالى وقضائه.
 وذابت المرجئة نتيجةً لظهور المعتزلة التى اعتمدت على آرائهم.
 والقدرية هم الذين يقولون إن القدر يحكم أعمال الناس من خير أو شر واعتقادهم أن إثبات قدرة الإنسان توجب الفصل بانفرادها أو استقلالها دون الله تعالى والأفعال بإرادة الله تعالى وقضائه.
 وهناك علماء مسلمون أوائل تتلمذوا على يد أساتذة مسيحيين فى هذا الشأن الذى طالما شغل فلاسفة اليونان أيضاً، وقد يعزز هذا القول أن أول من تكلم فى القدر نصرانى من العراق وأسلم ثم عاد إلى نصرانيته، وأخذ عنه معبد الجهنى وغيلان الدمشقى، وهما من مرجئة القدرية، فكان معبد الجهنى تلميذاً لنبوية الفارس الذى حكم عليه هشام بن عبد الملك بالإعدام نظراً لآرائه فى شأن القدرية، ثم صلب غيلان بعد ذلك وقطع لسانه نظراً لآرائه أيضاً.
 كان غيلان يقود المعارضة ضد الأمويين فى الشام، وكان ينتقد الدولة الأموية وسياستها الاجتماعية والاقتصادية والمالية، فضلاً عن عقيدتها الجبرية المعادية للحرية، والتى كانت تؤسس عليها شرعيتها، لذلك كان غيلان من أشد المدافعين عن حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله – وهو ما كان الأمويون ومعهم أصحاب الحديث يحاولون التهرب منه – وهو ما جعله يتبنى وجهة نظر ديمقراطية فى قضية الحكم، ففى الوقت الذى كان فيه الجميع يشترطون القرشية للحكم، كان غيلان يرفضها، فهى عنده ليست شرطاً للإمامة، بل تصلح لغير قريش، وكل من كان قائماً بكتاب الله والسنة كان مستحقاً لها، وهى لا تثبت إلا بإجماع الأمة.
 إننا هنا أمام بوادر الفكر الديمقراطى، فغيلان يرفض احتكار السلطة من طرف فئة واحدة (قريش)، كما أنه يجعل الشعب مصدر السلطة – وهو أساس فكرة الديمقراطية – مشترطاً إجماع الناس واختيارهم الحر لتولى الحاكم، كما أنه يعتبره تعاقداً على أساس الكتاب والسنَّة، وبالتالى يجوز للناس خلع الحاكم حينما يخل بشروط التعاقد السياسى، وعلى رأسها العدل، وهو مفهوم استمده غيلان فى نظريته عن العدل الإلهي والذى يقتضى أن الله تعالى لو عفا عن عاصى يوم القيامة عفا عن مؤمن عاصى هو فى مثل حاله، وإن أخرج واحداً من النار أخرج من هو فى مثل حاله.
 وهذا المفهوم عن العدل الإلهي لم يحظ بترحيب الحكام الأمويين الذين وجدوا من أهل الحديث من يروى لهم الروايات فى أن الخلفاء لا يحاسبون يوم القيامة مهما اقترفوا من الذنوب والمعاصى، وأنهم ليسوا من طينة الرعية.
 لقد تناول كثير من الكُتَّاب شخصية غيلان الدمشقى كمصدر للإبداع الثورى، فالأول الكاتب مهدى بندق الذى تناوله فى مسرحيته بعنوان (غيلان الدمشقى أو قدر الله سنة 1982) بأنه شخصية معتدلة دينياً، وغير متزمتة ولا يوجد فى أفعاله غلو، ولكن كان مغضوباً عليه من قِبَل بنى أمية لأنه يرفض الظلم ويحث الناس على عدم الاستسلام له، مع الإشارة إلى فكره أن الإنسان مسير أم مخير، وتناول الكاتب الشخصية مثلما جاءت فى التاريخ حيث صُلِبَ ثم قطع لسانه الذى كان يخطب به فى الناس، حتى بعد صلبه.
 وبالنسبة لشخصية هشام بن عبد الملك فى مسرحية بندق، فقد أخذ مهدى بندق فيها من التاريخ تمتعه بحبه للمال وعقله فى تخفيه على هيئة طيف يتخفى ليتلصص ويعلم كل ما يحدث فى البلاد دون أن يعى له أحد بينما يوهم الكل أنه فى خلوة مع الله للعبادة.
 وجعله ذا سياسة وحكمة بحيث جعله يخطط لغيلان بحيث يوقعه فى السجن هو وصاحبه بحجة أنه بهذا يحميهما، وعليهم أن يتراجعا عن ما حضا الناس عليه وإلا سيعذبهما.
 واستخدم بندق وسائل التعذيب المستخدمة فى الدولة الحديثة من هتك الأعراض وغيرها، ثم تحايل غيلان على الموقف فكسر أصبعه لكى لا يوقع على طلب هشام، فقرر استعمال الدين على هواه بمن يحرم ما أحل الله أو يخرب ما خلقه الله جزاءه أن يصلب وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فصلبه وصاحبه صالح، وعندما تعاطف الناس معه لأنه كان يخطب فى الناس لعدم الاستسلام للظلم ووجوب التمسك بالحرية قرر قطع لسانه حتى مات هو وصاحبه.
 أما الكاتب الثانى فهو صلاح والى فى مسرحيته باسم (على باب كيسان سنة 1992) والتى تنتهى بنفس النهاية التاريخية، ولكن يعاب على المسرحية أنها بدأت بنهاية الحكاية بالسرد فى البداية ولكن لم تستمر بهذا الأسلوب وإنما تنقطع الأحداث فى زمن معين لتنتقل إلى زمن آخر، ثم تعود للزمن الأول دون مبرر لذلك، مما يشتت القارئ.
 والكاتب الثالث هو عبد المنعم العقبى فى مسرحيته باسم (إشراقة الحادى سنة 2006) حيث أنهى المسرحية بالحكم بإعدام غيلان الدمشقى، وإثناء تنفيذ الحكم يختفى غيلان حيث يتدلى حبل المشنقة بدون الشخص، لكن يظهر فى مكان آخر يخطب دائماً لنبذ العنف والتصدى للظلم، وكأن غيلان لا يموت، فهو مصدر للثورة أو رمز متجدد للثورة فى كل عصر وكل مكان.
 وقد تناولت هذه المسرحية شخصية غيلان منذ أوائل عصر بنى أمية حيث حُبِسَ نتيجةً لأفكاره، كما اعتبر من قبلهم محرضاً على الثورة عليهم، وبعد تولى الخليفة عمر بن عبد العزيز أخرجه من محبسه واستعان به لتحقيق العدل وعودة الأموال لأصحابها ممن استولى عليها من بنى أمية، فكان يد عمر بن عبد العزيز التى ترد أموال وحُلّى بنى عمومته للناس أو إلى بيت مال المسلمين مما زاد من سخط بنى أمية عليه، حيث قاموا بالتنكيل به بعد موت عمر بن عبد العزيز، وطاردوه حتى حُكِمَ عليه بالإعدام ولكنه اختفى ليظهر فى مكان آخر محرضاً الناس من جديد.
 كل هؤلاء الكُتَّاب أجمعوا فى مسرحياتهم أن غيلان شخصية ثورية تحارب الظلم وتطالب بالتصدى له، ولكن تعتبر مسرحية غيلان الدمشقى أو قدر الله لبندق مليئة بالأحداث أكثر من غيرها من المسرحيات التى تناولت الشخصية وكانت أقرب للشخصية الحقيقية.
 ويذكر التاريخ أن عمر بن عبد العزيز نهى غيلان عن آرائه فى حرية الإنسان وإنكاره للقضاء والقدر، وبالفعل استتاب غيلان، وبعد أربعة أعوام من وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز تولى هشام ابن عبد الملك الحكم سنة 105 هجرية، وفى هذه الفترة شهدت البلاد أعنف الصراعات السياسية، واستخدم الحكام فى تلك الفترة الدين وألبسوه بالسياسة وجعلوا منه ستارة لأغراضهم الشخصية، كل هذه الصراعات جعلت حزب المرجئة التى ينتمى لها غيلان يتخلى عن موقف الوسط الذى يتبعه، ويثور فى وجه السلطة، مما جعل الخليفة هشام يأمر بالقبض عليه وقتله من أجل إقناع غيلان بحرية الإرادة الإنسانية وإنكاره للجبرية التى دعت إليها الدولة الأموية.
 وغيلان عند مهدى بندق معتدل فى دينه حيث ظهر ذلك عندما تحاور مع فاطمة خطيبة صالح عندما ذكر لها أن النقاب ليس بفرض، ولكنه صاحب رؤية وفكر بين القدرية والجبرية، حيث التزم بفكر المرجئة فى ذلك الوقت، وهذا الفكر يهاجمه بنو أمية ويرفضونه، ولذلك حبسه هشام وعذبه ثم صلبه وقطع لسانه حتى مات، وحتى لا تذكر مقولاته مرة أخرى ويخاف الناس من أن من يحذو حذوه سوف يكون مصيره كذلك.
 ويوحى بندق بهذه القصة على سيطرة السلطة وعدم رغبتهم فى أن يتمسك الشعب بالحرية.
 وفى التاريخ أن غيلان اتُهِمَ عند الخليفة هشام لا كونه قدرياً ينادى بحرية الإنسان، ولكن كونه رجلاً حقوداً يتشفى، والقدرية تاب عنها غيلان على يد الخليفة عمر بن عبد العزيز قبل تولى هشام بسنوات.
 وبعد الاستتابة ولاه عمر ديوان المظالم وبيع الخزائن، فوقف غيلان ينادى على متاع الأمويين، وعندما مر عليه هشام بن عبد الملك غضب منه وتوعد له عند توليه الخلافة، وبالفعل حدث هذا، فقد اعتقل هشام غيلان وصاحبه صالح بعد توليه الخلافة، ثم قطع أرجلهم وأيديهم، فقال غيلان للناس وهو مصلوب: (قاتلهم الله، كم من حق أماتوه، وكم من باطل قد أحيوه، وكم من ذليل فى دين الله أعزوه، وكم من عزيز فى دين الله أذلوه)، فقيل لهشام: (قطعت يدى ورجلى غيلان وأطلقت لسانه، إنه قد أبكى الناس ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين، فأرسل هشام إليه وقطع لسانه فمات).
 والصراع فى مسرحية غيلان الدمشقى لبندق صراعان: الأول بين السلطة الجبرية المتمثلة فى بنى أمية (هشام، الوليد، جليلة، الأوزاعى، ثم فاطمة خطيبة صالح وأبوها)، وبين المطالبين بالحرية (غيلان الدمشقى وصديقه صالح).
 والصراع الثانى بين بنى أمية أنفسهم، فتحيك جليلة وولى العهد الوليد خيانة ضد زوجها هشام خوفاً منهم على الحكم، حيث إنهما يشكان أن هشام سيصبح كعمر بن عبد العزيز فى زهده وتدينه، وسيكون هو الآخر سبباً فى ضياع ثروات بنى أمية، فيدبرا وضع السم له فى العسل عن طريق الطبيب موسى اليهودى.
 ولكن هيهات، يكتشف هشام الخديعة لأنه داهية يوهم من حوله بسذاجته وتدينه وورعه بذكاء وخبث، ثم يعلمهم بعد ذلك أن يعلم كل شئ بحيث يخشاه بعد ذلك الكل.
 ولقد صاغها بندق مستمداً شخصية غيلان من التاريخ بحيث يتخذ منها المتلقى موقفاً نقدياً للتصدى للظلم الذى يحد من حرية الفكر ويخرس الألسن والتعذيب، لذلك لا بد من الصمود والتصدى للظلم لكى تتحقق الحرية ويستطيع كل فرد التعبير عن رأيه بحرية.
 وبهذا يتضح أن هؤلاء الشعراء استعانوا بتلك الشخصية التاريخية لكى يسقطوا بها على الواقع لأحداث مشابهة فى الحاضر لكى لا يقع الشعب فى تلك الأخطاء ويحاول أن يغير ليصل فى النهاية لتحقيق الحرية والعدالة وعدم الاستسلام للظلم.
 ومن هنا يمكن القول بأن كُتَّاب المسرح الشعرى استخدموا شخصية غيلان مصدراً (رمزاً) للثورة ضد الظلم، وكأنه صرخة محاولين من خلالها تحقيق العدالة.
 فهل ما يرجوه هؤلاء الكُتَّاب تحقق؟


راجية يوسف عبد العزيز