وداعا.. يسرى الجندي الباحث عن هوية للمسرح المصري

  وداعا.. يسرى الجندي  الباحث عن هوية للمسرح المصري

العدد 760 صدر بتاريخ 21مارس2022

رحل عن عالمنا الكاتب المسرحى والسيناريست الكبير يسري الجندي، عن عمر يناهز 80 عاما. يسرى الجندي من مواليد محافظة دمياط 1942، بدأ ظهوره على الساحة المسرحية منذ ستينيات القرن الماضي واهتم فى كتاباته بالتراث الشعبي خاصة وساهم فى تطوير الثقافة الجماهيرية أثناء توليه منصب المستشار الفني عام 1980، تولى العديد من المناصب فعمل بوزارة الثقافة منذ عام 1970 وعمل مديرا بمسرح السامر عام 1974، كما عمل مديرا للفرقة المركزية للثقافة الجماهيرية عام 1976، ثم مستشارا لرئيس الهيئة للشئون الفنية والثقافية حتى أحيل للمعاش عام 2002. حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى المسرح عام 1981، وساهم فى إقامة عدة مهرجانات وفعاليات كان أبرزها ملتقى القاهرة للمسرح العربي عام 1994. عند قراءة اسم الكاتب والسيناريست يسرى الجندي على الأفيش نترقب عملا ذو قيمة كبيرة، فهو النجم الساطع فى سماء الدراما التلفزيونية والكتابة المسرحية و لا نستطيع أن ننسى ما تركه من  بصمات في الدراما المصرية منها «شارع المواردى»، «والسيرة الهلالية»،»التوأم»، «جمهورية زفتى»، «سامحونى ماكنش قصدى»، «من أطلق الرصاص على هند علام»، كما  زخرت مكتبة المسرح العربي بنصوصه ومنها «بغل البلدية»، «حكاية جحا والواد قلة», «على الزيبق»، «المحاكمة»، «عنتر زمانه»، «عاشق المداحين»، «حدث في وادي الجن»، «واقدساه»، «دكتور زعتر»، «سلطان زمانه»، «الإسكافي ملكا». لم يكن يسرى الجندي مجرد ناقل للتراث ولكن كان له تصور ورؤية فيما يقدمه، وكان له إسهام كبير فى تأصيل شكل مسرحي عربي و صحاب مدرسة خاصة في توظيف التراث. تمثل قضية العدالة الاجتماعية وحرية الإنسان محركا كبيرا لقلمه وشاغله الشاغل، وخلال هذه المساحة نعرض لبعض شهادات كبار المسرحيين والنقاد عن مسرحه وإبداعه. 
المخرج سمير العصفوري قال: كان الراحل يسرى الجندي يقرأ التراث الشعبي بشكل مختلف فلم ينقل لنا عنترة كما ورد فى السيرة ولكن كان له تصور عصري له، فلم يكن مجرد مترجم أو ناقل للتراث. قدمت معه ثلاثة أعمال مرتبطة بالتراث ومنها «يا عنتر» ويا هنا نداء لشخصية نتوهم أنه منقذ أو فارس أو ساحر حتى نجد فى نهاية الأمر أنها لا تحمل شىء من هذه الصفات، فهو رجل يرى أن لونه لا يليق بخطوبة عبلة البيضاء، كان السيد عنتر حوله عدد كبير من العبيد يقودهم للخلاص من العبودية وقد فشل لأنه ضعيف وليس بطلا. 
وتابع : العمل الثاني هو «الهلالية « ولم يكن فى هذا العمل يجلس على منصة الهلالية  ولكنه دخل عالم حرب الهلالية التي استمرت لسنوات وتخللها العديد من المشاعر الإنسانية، من حب وكراهية وغضب، وكان في كتابته يحلل هذه العلاقات و قد قدمت هذا العمل فى قالب غنائي استعراضي بعنوان «أبو زيد الهلالي» وكان يتعامل مع التراث بشكل أكثر حداثة ومعاصرة بما يليق بمسرح تجريبي هو مسرح الطليعة، أما العمل الثالث الذي قدمته معه فكان احتفالية كبرى للشاعرين احمد شوقي وحافظ إبراهيم بعنوان «حدث فى وادي الجن» وتضم المسرحية فصلا كاملا عن «وادي الجن» وهو المكان الذي يجد به الشعراء خيالاتهم وأفكارهم و يوحي لهم بكتابة الشعر .
وأضاف: يسرى الجندي لا يستخدم التراث لكنه يحلله ويضعه فى مساحه حديثة ومعاصرة وهو ما استفدت منه لأقدم هذه الأعمال فى مسرح الطليعة.                                                                                                               

رجل مسرح
الفنان أشرف عبد الغفور قال عنه «يسرى الجندي قيمة كبيرة ليس فقط على مستوى الكتابة ولكنه رجل مسرح بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد تولى إدارة مسرح السامر، الفرقة النموذجية وكان له باع طويل في الثقافة الجماهيرية، كما تناول الفلكلور والتراث المصري والعربي فكان باحثا بمعنى الكلمة، يحول هذه الدراسات إلى نصوص مسرحية مواكبة لكل ما يحدث، ويعد من أهم الكتاب الذين تعرضوا للتراث الشعبي المصري. لقد فقدنا ورقة من وارق الشجرة المثمرة التي ملأت حياتنا وقد كانت تربطنى به علاقة إنسانية طويلة وتشاركنا فى العديد من الفعاليات والمناقشات والندوات . 

صاحب مدرسة 
ووصفه المخرج عصام السيد بأنه قيمه كبيرة، و صاحب مدرسة متفردة في استخدام التراث ومحاولة خلق مسرح مصري و عربي. أضاف: هو من جيل ينتمي بشكل قوى للهويه المصرية، ومن الصعب مقارنته بمن قاموا باستخدام التراث أو قدموا معالجات فستكون المقارنة لصالحه.
ونحن لا نستطيع أن نحدد نوع التراث الذي كان يعمل عليه، وخاصة أنه لجأ للفلكلور بمعناه الواسع  و لجأ للتراث العالمي وله أعمال معدة عنه  منها «البطل فى الزريبة» .
وتابع: فترة توليه لإدارة مسرح الثقافة الجماهيرية كانت مميزة،فقد كان له اتجاه جديد وهو تقديم  تراث المسرح العالمي للمتفرج المصري بشكل بسيط، وعندما تولى إدارة المسرح كان على علم كبير بمشكلات المسرح الإقليمى، وله العديد من الإنجازات من بينها مهرجان «المائة ليلة» .  للأسف الشديد خسرنا قامة كبيرة وبالأخص فيما يتعلق بعمله على التراث،  وقد كان توظيفه للتراث محاولة لخلق مسرح عربي يختلف عن المسرح الأرسطى أو الغربي بشكل عام.

بدأنا الرحلة معا
وروى رفيق دربه الكاتب المسرحى محمد أبو العلا السلامونى عن بدايتهما سويا فقال : نحن أولاد محافظة واحده، نشأنا وتربينا في مدينة دمياط، والتحقنا بمدرسة دمياط الابتدائية النموذجية، وكنا فى فصل واحد ونمارس المسرح في المدرسة، وأتذكر أننا قدمنا سويا مسرحية بعنوان « إسلام عمر « وكان يسرى الجندي يجسد شخصية «خباب ابن الأرت» الذي علم شقيقة عمر ابن الخطاب وزوجها القرآن،  وكانت هذه المسرحية أولى المسرحيات التي نقدمها بالمدرسة، وكان مدرس اللغة العربية يدربنا على الارتجال وكيف نقدم مسرحية مرتجله ما كان يحفز الموهبة داخلنا، ثم انتقلنا إلى «معهد المعلمين» وقمنا بتأسيس مسرح في المدرسة التي عملنا بها، ثم كونا مع رئيس رابطه المعلمين جمعية وأطلق عليها جمعية «أبناء المسرح» وكان عبارة عن معهد أهلي يدرس جميع المذاهب المسرحية وقدمنا من خلال هذه الرابطة مسرحية بعنوان «الشمس وصحراء الجليد» عن الثورة الجزائرية وكانت تحت عنوان المسرح التجريبى وعرضت فى المسرح الجمهوري برأس البر عام 1965 ولكنها لم تحقق نجاحا لأنها كانت تراجيدية وتقدم للمصيفين برأس البر، ثم بدأنا نفكر في الاتجاه للتراث الشعبي وتقديم  مسرح شعبي قريب من الشعب، وشاركنا في مؤتمر الأدباء الشبان عام 1969، وشارك يسرى الجندي بنص «الشمس وصحراء الجليد»وشاركت بنص «سيف الله» وحصلنا على الجائزة الثانية مناصفة وفاز بالجائزة الأولى الكاتب المسرحى على سالم و تشكلت لجنة التحكيم من الكاتب المسرحى ألفريد فرج والدكتور إبراهيم حمادة أستاذ النقد، ومن خلال مؤتمر الأدباء تعرفنا على الكاتب فاروق عبد القادر ودكتور سامي خشبة وقاما بتشجيعنا على الذهاب للقاهرة، وسبقني يسرى الجندي للقاهرة وعمل بمسرح السامر وقدم عدة مسرحيات منها «على الزيبق»، «الهلالية» إخراج عبد الرحمن الشافعي، «ياه .. عنتره» إخراج سمير العصفوري واتجه للسير الشعبية وقدمها على المسرح فى سبعينيات القرن الماضي و شجعني للمجيء إلى القاهرة. تابع: كانت كتابته تميل إلى التراث الشعبي وخصوصا السير الشعبية فكان الوحيد الذي اهتم بها من كتاب المسرح إلى جانب انه اهتم بعدة قضايا مختلفة وكان صاحب فكر فناقش في مسرحية «عنترة» قضية الحرية، وقضية الفساد والاستغلال في مسرحية «على الزيبق» وله كتاب نقدي بعنوان « ملاحظات لأجل تراجيديا معاصرة» طبع فى هيئة الكتاب وكان يهتم بالفكر المسرحى مع الفكر الفلسفي.

لا يسير على نهج من سبق
و أعرب المخرج التلفزيوني محمد فاضل عن حزنه الشديد لرحيله وقال: في رأيي انه توفى حزنا على ما حدث له هو ومجموعة من المؤلفين والمخرجين منذ عام 2011، 2012  وقد أصبحوا لا يعملون، وقد كان لهم دور رئيسي فى الحركة المسرحية والدراما منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الالفيه، وكان يسرى الجندي يتميز بأنه يتناول موضوعات صعبة لا يتناولها أحد إلا إذا كان مثقفا بشكل جيد، ويضيف إلى ما سبق ولا يسير على نهج من سبق، فيتناول الموضوعات التي يتناولها آخرون ولكن من وجهة نظره الخاصة. 
وأضاف: تعاونت معه في تجربة واحده وهو مسلسل تلفزيوني بعنوان «مصر الجديدة « وكنت أعمل وأنا على ثقة كبيرة بأن كل معلومة موثقة ومدققة وهذا يتطلب ثقافة واسعة في كل الموضوعات، فكان لدى ثقة كبيرة فيما يكتبه و قد كان له وجهة نظر فى اختيار الموضوع،  فكان  يختار ما يتطابق أو يتفق مع وجهة نظره فلا يختار أحداثا تاريخية لمجرد إنها أحداث ولكنها يختارها بناء على وجهة نظر شخصية .

خلق حركة مسرحية حديثة
الفنان الكبير محمود الحدينى قال: الكاتب يسرى الجندي من الجيل الذي قاد حركة تغير منظومة المسرح المصري الحديث، سواء كان ذلك من خلال التأليف أو الرؤية الإخراجية،  فقد شكل ثنائية مسرحية مع المخرج سمير العصفوري وكان مسرح الطليعة البوتقة التي انطلقت منها حركة المسرح الحديث من خلال مسرحية «يا ... عنتره « التي كتبها يسرى الجندي وأخرجها سمير العصفوري، هذا الثنائي الذي بدأ بالفعل يشكل رؤية جديدة للمسرح المصري، و الشيء اللافت ان مسرح الطليعة جغرافيا خلف المسرح القومى الذي كان يقدم كلاسيكيات المسرح المصري. 
وأردف: هذا الترابط بين يسرى الجندي و العصفوري خلق حركة مسرحية حديثة سواء على مستوى التأليف أو الإخراج ولم تقتصر هذه الحركة عليهما بل تركت آثرها على الجيل الجديد من المؤلفين. وقد بدأ يسرى الجندي يضع بصماته على حركة التأليف المسرحى المصري واستطاع أن يصنع لنفسه مكانه خاصة واستمر عطائه للمسرح فترة طويلة بجانب التحاقه بالهيئة العامة لقصور الثقافة كقيادة لهذا الصرح الثقافي فتولى رئاسة الهيئة فى فترة من الفترات. تابع: تناولت فرق الهيئة نصوص يسرى الجندي على مسارحها ما أثبت مكانته مؤلفا واعدا يقود حركة المسرح الحديث، وبعد أن ترك منصبه في الهيئة العامة لقصور الثقافة كانت حركة المسرح غير مستقرة وخاصة بعد نكسة 67، فاتجه للدراما التلفزيونية وكتب مسلسلات شديدة الأهمية مستوحاة من التراث العربى المصري حققت نجاحات كبيرة، وكما شكل ثنائيا مع المخرج سمير العصفوري فى المسرح  فقد شكل ثنائيا مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ فى التلفزيون، وكان هذا الاتجاه الجديد في مسيرة يسرى الجندي له آثر سلبي على المسرح لأنه ابتعد عن الكتابة المسرحية فى هذه الفترة وبدأ يركز جهده للدراما التلفزيونية التي حققت نجاحات كبيرة لدى الجماهير العريضة، وكانت آخر العروض المسرحية التى قدمتها من تأليفه احتفالية عن الشاعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم و قد جسدت شخصية احمد شوقي وجسد اشرف عبد الغفور شخصية الشاعر حافظ إبراهيم وكانت من إخراج سمير العصفوري.

عمق الشخصية العربية 
الناقد أحمد هاشم فقال: يعد يسرى الجندي واحدا من أهم كتاب مسرح سبعينات القرن الماضي وما تلاها من سنوات، وذلك بإسهاماته المتميزة فى الكتابة واعتماد معظم مسرحياته على التراث الشعبي الذى لم يكن على سبيل المصادفة وإنما كان انعكاسا لتداعيات هزيمة يونيو 1967 التي أصابت – ضمن ما أصابت – الهوية العربية وقد سعى الكتاب المسرحيين إلى إعادة تأمل حقيقة وجود تلك الهوية والعمل على تأكيدها فى محاولة للخلاص من أثار الهزيمة، وكان منهم يسرى الجندي الذى حاول التأكيد على عمق الشخصية العربية فى التاريخ ورسوخها فى السيرة الشعبية، وانتبه وجيله من الكتاب إلى أهمية العودة لهذا التراث واستلهامه سواء في التاريخ  أو الحكايات والسير الشعبية. ليس مجرد استعادة بل استدعاء ومحاورة وإعادة تفسير أو تأويل وتأمل ما يتماس فيها ويتشابه مع الواقع الراهن، الذي كان حريصا على الاشتباك معه في كتاباته المتعددة، سواء الواقع المحلى أو حتى الواقع الإنساني بمفهومه الأشمل، لهذه نجد ان القضية العربية الفلسطينية على سبيل المثال لا الحصر قد مثلت له اهتماما خاصا وتناول تداعياتها فى نصين «اليهودي التائه»  و«واقدساه» كما اهتم بقضية الحكم وعلاقته المحكومين بالسلطة فى مسرحية «على الزيبق»، كما تعرض لمسألة الحرية الفردية و الجمعية في «عنتر زمانه « هذا وغيره ما يؤكد فلسفة يسرى الجندي فى تعامله مع التراث الذي لم يكن سوى إعادة نظر  فيه وتأمله من أجل الانتباه إلى الحاضر الراهن المشابه لأحداث التراث، فمثلا هو لم يكتب السيرة الهلالية لمجرد استعادة أحداثها المعروفة بل من أجل مشابهة الفرقة العربية فى أحداث السيرة بالفرقة العربية الموجودة والتنبيه إلى أخطاء الماضي حتى لا نكررها فى الحاضر، وهكذا نجد أنه من الصعوبة بمكان أن نجد عملا له مفرغا من قضية قومية أو قضية إنسانية شاملة، حيث كان يؤمن بأهمية المسرح في المجتمع كمرآة تعكس قضاياه وتؤثر فيه .                                                                              

أرسى شخصية المسرح المصري 
و حلل الناقد د. محمود سعيد أعماله فقال: تأثر المسرح المصري بالعديد من التيارات الأوروبية بشكل عام و المسرح الملحمي بوجه خاص . وقد تعامل يسري الجندي مع المسرح الشعبي من خلال الشكل والمضمون، مستخدماً أدواته المسرحية فى شكل ملحمي، ليؤطر أفكاراً ثورية تقدمية. فقد تعامل مع فكرة تحالف قوى الشعب العامل فى مسرحية (بغل البلدية) وفكرة الائتلاف القومي من خلال مسرحية (الهلالية) والعدل الاجتماعي من خلال مسرحية (على الزيبق) والذات العامة القومية عبر مسرحية (عنترة) والقضية الفلسطينية من خلال مسرحية (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر) أو الخلاص الفردي فى مسرحية (رابعة العدوية) وفكرة الهروب إلى مدينة مثالية كما فى مسرحية (دكتور زعتر) وعالج  الحس الكوميدي الشعبي الساخر فى مسرحية (حكاية جحا والواد قلة). مشاكسا التراث عبر التغريب البرختي، إلا أن يسري الجندي قد تأثر على مستوى الشكل والمضمون، موظفاً تقنيات التغريب الملحمي فى إطار استلهام المادة التراثية، أو مستخدماً الإطار التاريخي والواقعي لإبراز أفكاره، في إطار توظيف تقنيات بريخت بشكل واضح ومشاكس. 
وأضاف: لعل الريادة الحقيقية التى أضافها يسري الجندي إلى المسرح المصري المعاصر تكمن فى مجال اللغة الدرامية، أو الدراما كلغة فنية، فمسرحياته تمتلك لغة درامية مبتكرة، لغة جعلت لمسرحه مزاجاً خاصاً به سواء كان يعالج مضموناً تاريخياً أو أسطورياً أو شعبياً أو معاصراً، وهذا المذاق الخاص دليل على أن اللغة الدرامية الناضجة لا تتأتى إلا بعد استيعاب وهضم التقاليد المسرحية العالمية، ومحاولة استنبات أنواع جديدة منها تلاءم التربة المصرية. وقد وفق يسري الجندي فى خلق العديد من الأبطال الملحميين من أمثال (عنترة – على الزيبق – أبو زيد الهلالي – رابعة – جحا) ورغم أن لكل هذه الشخصيات كيانها الخاص والشخصية المستقلة فى الوجدان الشعبي، إلا أنه يصعب دراسة هذه الشخصيات فى انفصال عن النص المسرحي لارتباطهم العضوي، حيث أنهم يستمدون حياتهم منه، وهكذا ساهم الكاتب المسرحي فى إرساء الدعائم الفنية والتقاليد الدرامية التي تمنح المسرح المصري شخصيته المميزة، ولقد استطاع الكاتب هضم التقاليد العالمية للمسرح، واستفاد منها فى خلق أعماله، و قد وفق لدرجة كبيرة في إبراز المضمون النابع عن الوجدان العربي، فهو لم يحاول تقليد النماذج العالمية ومحاكاتها بسذاجة، بل شد قلمه إلى جذور الأرض وأخذ منها مادته الفنية، ثم قام بصهرها وتطويعها من واقع خبرته ودراساته وتمكنه من لغة المسرح، ولا يعيب أبداً أن يعتمد المؤلف على أصول أوروبية، أو استغلال التراث الأوروبي الذي سبقه ومزجه بين ما نقله وبين الموهبة الفنية الأصيلة، اما عن يسري الجندي الإنسان فقد زرته أكثر من عشر مرات في بيته عام 2006و2007 لأن مسرحه كان موضوع للدكتوراه الخاصة بي ولم يبخل علي بالنصح والإرشاد والكتب المهمة .

التناص في أعمال الجندي 
 د. سماح سليم قدمت رسالة الدكتوراه عن «التناص في أعمال يسرى الجندي» وقالت: رحل عن عالمنا كاتب من أعظم كتاب الدراما في مصر فلم يقتصر عطاؤه فى مجال المسرح فحسب، بل امتد ليثرى الدراما التليفزيونية بروائع الأعمال الدرامية التي يخلدها التاريخ، وقد شرفت بأن تكون رسالة الدكتوراه الخاصة بى بعنوان «التناص فى أعمال يسرى الجندي المسرحية «دراسة تحليلية لنماذج مختارة» .
حيث تتشعب مصادر المؤلف في التناص وفقاً لثقافته الموسوعية وبوصفه كاتباً يسارياً، فلا يعتمد على التاريخ وحده أو كتب التراث أو بعض الأعمال الأدبية،بل يتجاوز الأمر ذلك إلى المزج بين أكثر من مصدر داخل العمل الواحد،  فبداخل مسرحيات يسرى الجندي تمتزج النصوص التراثية بالتاريخية بالدينية بالأفكار الفلسفية مما يمنح المبدع عنصري المرونة والطلاقة للأفكار المتنوعة والمتقاطعة فى بعض أفكارها، ما يسهم بشكل فعال فى الربط بين الأفكار المشتركة. 
وتابعت قائلة : كما عمد المؤلف يسرى الجندي إلى تأصيل عناصر البناء الفني الذي سيقت فيه المسرحية بالاعتماد على الإطار الفني للنصوص التراثية والتاريخية على مستوى الأحداث والسرد والشخصيات، فالتناص يحدد العناصر الأصيلة في النص المسرحى حيث يمزج يسرى الجندي فى مسرحه بين أكثر من نوع من التناص ليبرز فكرته، ويختار القطع النصية التي يقيم عليها نصه، ويضيف إليها ويغيرها ويطورها لتكون غاية التناص فى مسرحه الإبداع والإتيان بالجديد و هما معيار حكم القيمة على تجربة المؤلف المسرحية، وتظهر الأحداث إما مماثلة أو مطابقة للمصدر المستقاة منه أو مخالفة لها. 
تابعت : تغلب الذهنية على التناص في الحدث فى بعض مسرحيات يسرى الجندي كاليهودي التائه والساحرة واغتصاب جليلة، والحوار فى التناص زاخر بالمناقشات الفلسفية العميقة والإحالات المتتالية فى لغة الحوار إلى بعض القصص والشخصيات والأحداث المتداخلة  للتأكيد على المضمون الدرامي لهذه القصص وإحداث حالة من التزاوج والربط بينها وبين ما يريد أن ينقله المؤلف فى نصه الجديد، فالدلالات قد تكون متعددة إما مباشرة صريحة أو ضمنية بالغة التعقيد تصل فى بعض الأحيان إلى مرحلة التناص مما يحفز عقل المتلقي ويدعوه إلى التأمل والربط بين الدلالات العديدة. كما جسد يسرى الجندي فى أعماله الشخصية المثالية، والحداثية والوجودية والنرجسية، و أعاد تصورها ليعبر بها عن الخلل الفكري التام وانقلاب الموازين الذي أصاب المجتمعات والأفراد وعصف بكل قيمة، كما هو الحال فى شخصية (الأباصيرى).
تابعت أيضا: فى أعمال يسرى الجندي يتغلغل الفكر الإشتراكى العربي والبحث عن ثقافة تواكب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الطارئة، وقد وجد في مسرح بريخت أداة لتغيير وعى المتفرج وتغيير العالم من خلال رفض التخلف والظلم الإجتماعى السائد فمسرحه نضال يناهض الإمبريالية والاستعمار بكل أشكاله الاقتصادية والثقافية والسياسية مما جعله يستعين بتقنيات الكتابة المسرحية البريختية، كالتقطيع للحكاية والحدث إلى أجزاء، وظهور الراوى من حين لآخر لقطع مجرى الأحداث والنزعة التعليمية والاهتمام بالقصة والاستلهام من التراث بغرض استخلاص العبرة، حيث يقدم الممثل نفسه ويتحدث عن شخصه أو عن الحدث، وإظهار العالم بكل ما يحتويه على أنه قابلاً للتغيير من خلال تسييس المسرح أو علمنته والسخرية لنقد القيم البرجوازية والرأسمالية بهدف تغيير العالم الذي تصنعه الظروف السياسية المضطربة، كما استعان بالفنون الشعبية العربية التي ألفها المشاهد العربي كالمقامة والسامر وخيال الظل وخاصة فيما يتعلق بإزالة الحائط الرابع الوهمي الذى يفصل بين الجمهور والممثلين.
فعلى سبيل المثال نجده في مسرحية «بغل البلدية» أو «وكالة الأباصيرى» قدم نموذجاً للتناص السياسي مع شخصية سياسية شهيرة، فقد اختار المؤلف شخصية جمال عبد الناصر وقام بعرض وتحليل أفكاره الاشتراكية ليتناص معها بصورة يبرز من خلالها مواطن الخلل فى الفكر الإشتراكى الذي تبنته ثورة يوليو 1952م، كذلك يلقى الضوء على التخبط فى التفكير والتناقض بين القول والفعل وبين الأفكار النظرية والتطبيق كما حدث فى أطروحات الثورة، وسعى من خلال أعماله المسرحية إلى التأكيد على مبدأ المقاومة الشعبية للمحتل بدلاً من الاعتماد على البطل المخلص.
وقالت أخيرا «أكد يسرى الجندي فى بعض مسرحياته على اللعنة المتوارثة كما فى الهلالية، عنترة،الإسكافي ملكاً وحلول الوباء المرتبط بهذه اللعنة ليخلق شخصيات بطولية حداثية متمردة تتحرر من كل الثوابت القديمة التي تقيدها عن الفعل والتحرك مثل عنترة والأباصيرى ومعروف وسرحان، ويؤكد على سماتها من رفض الماضوية والرغبة فى التغيير الجذري للأنظمة .
وأضافت أيضا «وظف الجندي التناص التاريخي لعمل قفزات زمانية ومكانية كما في حكاوي زمان، اليهودي التائه،الساحرة ليربط بين صور الظلم والفساد عبر العصور ولجأ فى مسرحيات اغتصاب جليلة والساحرة وحكاوى زمان إلى التناص التاريخي والمقاربات بين العصور وتداخل الأزمنة للتأكيد على ثبات الأحوال وشيوع القهر والظلم، فنتيجة الصراع بين ما قبل وما بعد التاريخ كالصراع بين المؤرخ التراثي والمعاصر الذي سعى من خلالهم على التأكيد على عروبة فلسطين ومخاطر مشروع الشرق الأوسط الكبير الساعي إلى تقسيم الوطن العربي. كما وظف الجندي من خلال التناص الفلسفي فى مسرحياته فكرة الكل في واحد والشخصية النرجسية التي لا ترى الأشياء إلا من منظورها الخاص ليشير إلى مواطن الخلل فى شخصية صانع القرار السياسي، وقد جاء التناص مع الفلسفة الوجودية متوافقاً فى حالة رابعة العدوية حيث كانت تسعى إلى حياة الصوفية بمحض إرادتها، وجاء مخالفاً مع شخصية «سرحان» فى اليهودي التائه الذي عبر عن أزمة الوجود حيث فرض عليه وجوده فرضاً ليتحمل كل العواقب التى لا ذنب له فيها، كذلك تكررت الفلسفة الإسحاقية التى ترى أن قابيل أبو البشر بدلا من آدم لتؤصل إلى وحشية العالم وفشل فكرة اليوتوبيا وإحلال الديستوبيا بدلاً منها .


رنا رأفت