«النورس».. بين الروس والفرنسيس

«النورس»..   بين الروس والفرنسيس

العدد 752 صدر بتاريخ 24يناير2022

يبدو أنّ الفكرة الأولية التي يأخذها أكثرنا عن المسرح الروسي ومخرجيه، أنهم الأكثر قدرة على الاستنطاق الجمالي للنصوص المسرحية الروسية، ليست صحيحة دائما، على الأقل هذا ما يتضح في عرض النورس الذي أخرجه المخضرم سيرغي كوكوفكين (وبالطبع فعشرات المخرجين قدموا النص على الخشبة الروسية خلال أكثر من قرن، إضافة إلى تقديمه للسينما، وهناك عرض لطيف للمخرج يولي كاراسيك عام 1972 مثلا يختلف تماما من حيث جودته عن الإخراج الروسي الذي نتحدث عنه هنا) خاصة عند مقارنته بالعرض الفرنسي الذي وقعته نيكول غروس، نتحدث هنا عن عرضين التزما بالنص التشيكوفي تماما. 
الرقص التعبيري في جزء من العرض وفي آخره والموسيقى أهم ما نهض بالعرض. الممثلون في أغلبهم كانوا مثل الدمى الشمعية، حاولنا أن نلمس أي حرارة في التمثيل، أي مصداقية تجعلنا أمام شخصيات تستوعب الدور وتتمثله بكل أبعاده النفسية والاجتماعية والتاريخية. البعد النفسي كان غائبا تماما. شخصية تريبليف الحالمة بالكتابة والتمثيل والنجاح ضاعت وسط هذه المجموعة من الشخصيات، فلا الممثل أبان قدرات تمثيلية ولا...
السينوغرافيا كانت استخدام خشبة لتمثيل المسرحية التي يقوم بها تريبليف مع نينا ضمن الخشبة نفسها، قد أفاد العرض في جزء بسيط، لكنه حجّم حركة الممثلين في بقية العرض، إذ لم يكن المسرح ضمن المسرح إلا جزءا بسيطا تبدأ به النورس ولا تبقى عليه، وكأنّ المخرج ثبّت السينوغرافيا على بدايات العرض وحدها وليس بما ينسجم مع العرض بأكمله، وهذا لا يقع فيه حتى المخرجون المبتدئون! صحيح، يمكن أن يقال إن هذه رؤية إخراجية أو خيار جمالي أن تكون المسرحية التي يمثلها الشاب هي قلب المسرحية التشيكوفية، وأنّ كل التشظي الذي حصل للشاب يمكن أن يلخص ابتداء من تلك المحطة، وأنّ العرض القصير المبتور الذي أقامه مع حبيبته نينا أبان عن الفرق الكبير بين أحلامه وواقعه، أظهر أمه الغيورة من بنت شابة، ولامبالاتها بمشاعره، أمّ أنانية، ومع ذلك انحشر الممثلون في بقية العرض بأكمله في خشبة الشاب. 
التماثيل الشمعية لا تصح للتمثيل في العروض الحية، فلنعد الانتباه إلى دور تريجورين، الممثل قطعة من رخام، كأنه روبوت، بينما شخصيته كما كتبها تشيكوف حية، إنّ الممثلة تحبه، والممثلة الشابة تحبه أيضا، وهو لديه عاطفة مع أم الشاب، وعاطفة مع البنت الشابة، الممثل لا يُظهر أية واحدة منها. والنهاية أكثر برودة، عندما يخبره الطبيب بأنّ تريبليف قد انتحر لا تتغيّر ملامحه مطلقا. صحيح أن تشيكوف لم يضع أية إرشادات مسرحية في آخر النص تبيّن رد فعله عند سماعه الخبر، لكن تعبيرات الوجه التي تتغير رد فعل آلي، وهو الغائب في دور الرجل. 
الواقع أنّ العرض مهما حاول أحدنا أن يستقرئه دون إبداء عواطف الامتعاض والغضب، فإنه لن ينجح. والممثلون البقية لا يختلفون عن تريجورين. فلا الشاب نجح في كسب تعاطفنا، ولا البنت الممثلة، ولا الأم، واختيار الأم والممثلة الشابة يفتح تساؤلا كبيرا: المسرحية تتحدث عن غيرة الممثلة الأم من الممثلة الشابة، والابن يكون ضحية. الأم في عرض المخرج كوكوفكين شابة أيضا، والأخرى ليست أكثر جمالا منها، إنها باهتة، ميتة، وهذا يمنعنا من تصديق شعور الغيرة عند الأم تماما. 
اختيارات كوكوفكين السينوغرافية، والتمثيلية، في هذا العرض سحبت من رصيد النص التشيكوفي، وقدمت لنا عملا أقرب إلى المسخ (وقد يرى البعض في هذا مبالغة، لكن المقارنة مع العروض الكثيرة للنص نفسه تفسر هذا الرأي) لذلك قد يصح القول إنه لا يشجع مطلقا على مشاهدته لمرة ثانية، على خلاف العرض الفرنسي لنيكول غروس. 
بالنسبة للعرض الفرنسي فإنّه حافظ على النص كما هو، هذا أساس المقارنة بينه وبين العرض الروسي، السينوغرافيا اشتغلت على الفضاء الفارغ وأعطته أولوية. هناك مساحات كبيرة نراها في العرض، الممثلون يتحركون بحرية كبيرة، الخشبة التي يصنعها تريبليف لعرضه مع حبيبته هي مصطبة ذات مساحة صغيرة وضعت على يمين خشبة المسرح تكفي ليقدّم عليه عمل في ضيعة خاله (العرض الروسي جعلها خشبة مسرح كبيرة كأنها في واحدة من مسارح الدولة!) أما الضيوف الذين سيشاهدون عرض الشاب فسيجلسون على يمين الخشبة، يمكن للمتلقي مشاهدة حركاتهم، إيماءاتهم، ويمكنهم هم مشاهدة عرض الشاب بمسافة مقبولة كالتي بيننا وبين الخشبة في أي مسرح. 
هنا التشكيل الحركي متين، واضح ويخدم المسرحية التشيكوفية، إننا أمام عرض لشاب مبتدئ في المسرح وجمهور مكون من أمه وأقاربه ومعارفهم يشاهدون ما يريد تقديمه. حركة الأم، حركة الابن، غضبه، نزقه، تموجات عاطفته، يستوعبها الفضاء المقسّم بدقة. 
الممثل (آرنو دينيس) في دور الابن يقوم بواحد من أفضل الأدوار في العرض إن لم يكن أفضلها، تعابير الوجه، الحركة، في البداية وهو يتحمس للعرض الذي يقدمه مع نينا، ثم غضبه وتوقيفه للعرض بعد ردود فعل أمه المتعالية، إعطاؤه النورس الذي اصطاده لنينا وحواره معها وتأنيبها بأنها باردة، وأنها لا تفهمه، غضبه مبرر، قلقه، صراخه، بكاؤه،  وهدوؤه، مشهده مع أمه وهي تحاول تضميد جرحه ثم وهو يحتضنها ثم اختلافهما القاسي بسبب حبها للكاتب، المشهد مُشبع بالتمثيل المحكم للشاب والأم، الحركة، الصوت، الإيماءات.. الاشتغال على الفضاء في هذا المشهد منضبط وجيّد. الفستان الطويل الذي تلبسه الممثلة لم يكن عائقا أبدا لها في الحركة وهي تتنقل على الخشبة (على خلاف واضح مع العرض الروسي الذي جعل النساء يسرن كأنهنّ كسيحات أو في حقل ألغام تتوجسن من حركاتهنّ!). 

الممثلة الأم أكبر سنا من الممثلة الشابة، اشتغلت المخرجة على الفروقات الشكلية بين المرأة والشابة، وليس على الحوار فقط كما في العرض الروسي، لأنّ الحوار لا يقدم بصفة مباشرة الأم الممثلة المتعالية، ظاهريا هي تنتقد عرضا هزيلا لممثل هاوٍ مبتدئ هو ابنها، ولن يتم توضيح التعالي إلاّ بتجسيد الممثلة للدور، في صوتها وإيماءاتها. صعوبة مسرحيات تشيكوف تتمثل في أنها لا تحتكم إلى مناطق صراع شديدة، أو ظاهرة بقوة، إنها كما يعبر بعض النقاد (والكلام لرياض عصمت) تتمتع بإحكام مذهل يجعل الحياة العادية والثرثرة اليومية فنا شاعريا ورمزيا وإنسانيا على غاية من الرهافة والعمق...
علاقة الأم بابنها لو تتبعنا كل المسرحية سنجدها متموجة، أحضان مرات ونفور مرات، ليس صراعا واضحا، لو تتبعنا علاقة الشاب بحبيبته لما وجدنا أيضا صراعا واضحا، لن نجد عقدة بالمعنى التقليدي حيث التأزم الذي تحتاج بعده الأحداث إلى الانفراج. كتابات تشيكوف أشبه بالنهر الجاري في البساتين الخضراء، تشتبك مياهه أمام صخرة هنا وأمام جذع شجرة ينخرها السوس هناك لكنه يواصل السير. التدقيق في النص التشيكوفي يظهر تلك اللحظات. والمخرج عليه أن ينتبه لهذا على المستوى الأدائي حتى يُظهر معميات النص. وفي هذا نجحت نيكول غروس ولم ينجح سيرغي كوكوفكين. 
نينا، اللقاء الأخير مع تريبليف، اعترافاتها، بكاؤها، الدمع النازل في ذلك الوجه الأبيض الجميل، كانت الذراع التي مدها لها هي محاولة للإمساك بطوق نجاة قبل أن يحل الخراب، وبدل أن تمنحه المستقبل عادت إلى الماضي، إنها لا تنسى ما كان بينهما في االسابق، ودليل ذلك أنها لا تزال تتذكر حرفيا نص المسرحية الذي مثلته في الضيعة أمام أمّ لامبالية، ولكنها لا تستطيع أن تقدم أكثر من الذكرى. إنها ماضٍ لا مستقبل، لذلك فهي تحتضنه وتغادر هربا، وهذا ما جعل مقتله نتيجة لكل هذا. 
استخدم العرض إضاءة خافتة، طوال زمن المسرحية، لكنه لم يخفت تتبعنا له، واستطاعت نيكول غروس أن تزرع في هذه الضيعة التي يحكمها التهافت والضياع الكثيرَ من المحبة للممثلين والشغف بأدوارهم، ونجحت في أن تقديم عمل محترم من جهة وممتعة من جهة (مع صعوبة إمتاع هذا النوع من أعمال تشيكوف) على خلاف العرض الروسي الذي لم ينجح في الرهانيْن. 


ياسين سليمانى