فرقة ببا الاستعراضية في تونس

فرقة ببا الاستعراضية في تونس

العدد 745 صدر بتاريخ 6ديسمبر2021

تحدثنا في المقالة السابقة عن فرقة بديعة مصابني والمطربة نادرة؛ بوصفها أول فرقة استعراضية غنائية تزور تونس ضمن رحلة الفرقة إلى بلاد المغرب العربي، وهذه الرحلة كانت في شهري مارس وإبريل 1935. ولكن مجلة «الصباح» - قبل سفر الفرقة بشهرين وتحديداً في أواخر شهر فبراير – نشرت حواراً مع الفنانة «فاطمة عز الدين» الشهيرة باسم «ببا عز الدين» - التي تُعدّ المنافسة الأولى لبديعة مصابني طوال تاريخهما الفني - وعلمنا من هذا الحوار أن ببا هي أول من فكرت في القيام بهذه الرحلة بفرقتها قبل أن تفكر فيها بديعة ونادرة! كما فهمنا من الحوار أيضاً أن ببا بدأت بالفعل في الاستعداد للسفر قبل بديعة ونادرة!! ولأن هذا الحوار مهم بالنسبة للأحداث التالية، سأنقل أهم ما جاء فيه:
س: هل استقر رأيك نهائياً على القيام برحلتك مع فرقتك إلى شمال أفريقيا؟ ج: لقد صممت نهائياً على الرحلة ولن أتردد في السفر بعد الآن. س: كيف فكرت في هذه الرحلة وما هو الغرض منها؟ ج: أنا شغوفة بالرحلات وقد هجرت بلادي «سوريا» إلى مصر في سبيل خدمة الفنون الجميلة، ووجدت من إخواني المصريين تشجيعاً حتى أصبحت بفضل عطفهم صاحبة فرقة أفخر بها بين جميع الفرق المصرية الاستعراضية بل والغربية. وأظنك لا تنسى رحلتي إلى أبناء عمومتي في العراق ولو لم أنل منهم تكريماً غير تلك الشهادة الرسمية من بلدية بغداد لكفى، ولكان ذلك أكبر دافع لي على الرحيل إلى شمال أفريقيا، وأنا معتقدة بأني سأنال هناك ما نلته في العراق من العطف والتقدير وفي مصر من التشجيع. س: إذن وهذه فكرتك لماذا عينت نفس الوقت الذي ستكون فيه رحلة نادرة وبديعة؟ ج: إنك تتهكم عليَّ بهذا السؤال، كأني معتدية على السيدة بديعة مصابني بمزاحمتها في رحلتي إلى شمال أفريقيا، مع أن الواقع أن الفكرة مختمرة لدي من قبل. ويجب على الجميع أن يعلموا أن نادرة وبديعة لم تفكرا في زيارة هذه الأقطار إلا على أثر تفكيري، فأنا لم أفكر في منافستهما. س: ما هو تفصيل بروجرامك الفني الذي ستعرضينه في حفلات الرحلة وهل ستصحبي معك مطربة؟ ج: بروجرامي في الرحلة سيكون هو نفس البروجرام الذي أعرضه للشعب هنا في مصر بين غناء على الآلات الشرقية وروايات فكاهية ورقص ومنولوجات وديالوجات وإسكتشات، ورغبة مني في إرضاء إخواني الذين سننزل في بلادهم ضيوفاً اتفقت مع الآنسة «سهام» المطربة المشهورة التي يعرف الجميع مقدرتها الموسيقية. وفي الوقت نفسه أخابر بعض مشاهير المنولجست وسيتم التعاقد بيني وبينهم قريباً جداً. وبروجرامي هذا يخالف تماماً بروجرام رحلة بديعة ونادرة إذ هما يقومان بمفردهما مع الفرقة الموسيقية، ولكني سأعتمد في رحلتي على جميع أفراد فرقتي مضافاً إليهم كواكب لها سمعتها الطيبة في الأوساط الفنية.
وهنا طرحت المجلة سؤالاً يتعلق بما حدث من مشاكل لفرقة نجيب الريحاني أو لبعض أفراد فرقته، وكان السؤال تلميحاً وليس تصريحاً، وكان خالياً من ذكر الأسماء، قالت فيه المجلة: ألا تظني أن ما حدث لبعض أعضاء الفرق المصرية التي سافرت قبل الآن إلى هناك يكون من الأسباب التي تجعل الجمهور يعرض عن مشاهدة حفلات فرقتك؟ ج: أعتقد تماماً أن أبناء تونس سيلقوني بالترحاب كما لاقوا الأستاذ يوسف وهبي والسيدة فاطمة رشدي والأستاذ الريحاني! إذ ما ذنبي وأنا فتاة أن أسعى إليهم لأبعث في نفوسهم المسرة ويقابلوني بالجفاء؟ يجب أن يعاقبوا من أساء إليهم. أما أنا فما أسأت إليهم وكل ما أستطيع قوله على صفحات الصباح الغراء إني سأحيي حفلة نهارية لحساب جمعية أحباء الطلبة بتونس ثاني يوم الافتتاح مباشرة.
رحلة لم تتم
مما سبق - وبناء على تسلسل التواريخ -  يتضح لنا أن ببا عز الدين، كانت من المفروض أن تسافر إلى تونس قبل فرقة بديعة ونادرة، أو على الأقل في التوقيت نفسه! ولو حدث هذا لكانت أمور كثيرة غير محمودة حدثت!! والدليل على ذلك أن جريدة «أبو الهول» نشرت في منتصف إبريل 1935 كلمة عنوانها «من السيدة ببا إلى الشعب التونسي»، قالت فيها الآتي:
«سادتي وسيداتي: سررت كل السرور لتلك الفرصة التي ظننت إنها ستمكنني مع فرقتي من زيارة بلاد شمال أفريقيا، تلك البلاد الشرقية الشقيقة التي نكن لها في صدرنا كل محبة وإخلاص. ومن أجل هذه الرحلة والاستعداد لها ضحيت بعملي الشتوي بمدينة الإسكندرية، رغم ما كنت أجده فيها من إقبال وإعجاب وتشجيع. وكانت كل هذه التضحية وفاء للعقد المبرم بيني وبين «موريس أفندي كريم» و«علي أفندي يوسف» المتعاقدين معي. ولكن اتضح بعد كل هذه التضحية أن هذين المذكورين ممن لا يحترمون العقود التي قيدوا أنفسهم بها. فقد مضى الموعد المحدد للسفر ومضت مدة طويلة بعده ولم أفز منهما إلا بالمماطلة والتسويف اللذين لم يجديا نفعاً. إزاء ذلك رأيت أن أتنحى عن هذه الرحلة هذا العام، على أنني أمام الشعب التونسي الكريم وأمام محبتي له أعلن أنه لا بد لي أن أقوم بهذه الرحلة في الموسم المقبل على حسابي الخاص، دون أن أعتمد على زيد أو عمرو من المتعهدين، فأعتذر لكم جميعاً عن عدم قدومنا هذا الموسم لنتمتع بزيارة بلادكم العزيزة، ونرجو من الله تعالى أن يوفقنا لإرضائكم في الموسم القادم لنحظى بشرف ثقتكم. [توقيع] «ببا عز الدين»».
عراقيل قبل السفر
وفت ببا عز الدين بوعدها، وبدأت إجراءاتها في الاستعداد للسفر في أول رحلة لها إلى بلاد المغرب العربي، فنشرت جريدة «الأمة» في أواخر سبتمبر 1936 أسماء أغلب أعضاء فرقتها، التي وقعت معهم عقوداً، وهم: عبد النبي محمد، نرجس شوقي، حسين ونعمات المليجي، عزت الجاهلي، محمد عبد المطلب، مصطفى إبراهيم، محمد أبو زيد، محمد السباعي، عبد العزيز الجاهلي، محمد الشاطبي، أحمد شبابو، فهمي رمضان، حسن صالح، يوسف مغربي، الشيخ محمود مرسي، خيرية صدقي، روحية فوزي، ثريا التركية، روز محمد، أمينة يوسف، ميمي محمد صيداوي.
وبعد كتابة العقود، وقبل السفر بأيام قليلة، بدأت تظهر العراقيل والاعتذارات عن السفر دون أسباب أو أعذار مقبولة! فأرسلت ببا إنذاراً رسمياً إلى أصحاب الاعتذارات بواسطة أحد المحامين، نشرته مجلة «الصباح» في أوائل أكتوبر، هذا نصه: «حضرة الفاضلة «....» بعد السلام. بموجب عقد اتفاق تعهدتم مع فرقة ببا على القيام معها برحلة إلى شمال أفريقيا لمدة أربعة أشهر ابتداء من 24 أكتوبر سنة 1936 بمرتب شهري قدره «كذا» وبعد أن اتخذت إدارة الفرقة التدابير اللازمة للسفر من تجهيز جوازات السفر وخلافه بلغ موكلتنا الآنسة «ببا» بما أنكم عدلتم عن السفر. وعليه لا يسعنا إلا أن نلفت نظر حضرتكم إلى عقد الاتفاق الموقع عليه منكم ونطلب منكم بموجب هذا الخطاب تنفيذه بالحضور صباح يوم أول أكتوبر سنة 1936 الساعة العاشرة بمنزل الآنسة ببا للبدء في عمل البروفات وإلا نعتبركم عادلين عن السفر. وفي هذه الحالة تضطر موكلتنا أن تلزمكم قضائياً بدفع قيمة التعويض المتفق عليه في البند الثالث عشر من عقد الاتفاق وقدره «كذا» لإخلالكم في نفاذ العقد ولكم مزيد الشكر «إمضاء»».
هذا الإنذار جاء بنتيجة طيبة مع أغلب المعتذرين والمعتذرات إلا نجمة الفرقة «نرجس شوقى»! هذا بالإضافة إلى خشية ببا من تكرار ما حدث من المتعهدين السابقين في رحلتها التي لم تتم في العام الماضي! وهذه الأمور وغيرها، تحدثت عنها مجلة «الصباح» تحت عنوان «رحلة فرقة ببا إلى تونس»، قائلة: رأت فرقة النجمة المشهورة «ببا» قبل سفرها إيفاد مندوب من قبلها إلى البلاد التي ستعمل بها فسافر هذا الأسبوع الأستاذ «عبد النبي محمد» الممثل الكوميدي بالفرقة يوم الخميس الماضي، وأخذ معه جانباً كبيراً من الإعلانات التي ستوزع في مختلف البلدان، وكانت المطربة والمنولوجست المعروفة «نرجس شوقي» أثناء عملها في حلب قد أرسلت خطاباً إلى النجمة المشهورة ببا تعتذر فيه عن سفرها. غير أنه نظراً لأن اسمها كُتب في جميع الإعلانات لم تقبل «ببا» هذا الاعتذار، وأوفدت رسولاً من قبلها إلى حلب لإحضارها. وتجري مفاوضات أخرى مع المطربة النابغة «ليلى حلمي» بشأن انضمامها إلى الفرقة، غير أنه لا زال التفاهم يجري بشأن المرتب الذي يدفع لها. هذا وقد أتمت الفرقة جميع معداتها وأعدت جميع برامجها من روايات واسكتشات، وبدأت بروفاتها من يوم الجمعة الماضي».
الحفلات في تونس
وصلت الفرقة أخيراً إلى تونس، وبدأت المجلات تنشر أخبارها، ومنها مجلة «الصباح» التي أخبرتنا في أواخر أكتوبر 1936 أن الفرقة وصلت «فاستقبلها على الميناء لفيف كبير من الأدباء والصحفيين والفنانين والأصدقاء. وقد اصطحب الأستاذ «سيد شطا» السيدة ببا إلى دار المحافظة في تونس، وقدمها لحضرة الجنرال «مصطفى خضر» محافظ العاصمة، الذي شجعها وتمنى النجاح لحفلاتها بما عرف عنه من شهامة، ثم قصد معها إلى سراي صاحب السمو الباي لتبليغ تحياتها بصفتها مديرة الفرقة. وما بُدأت حفلات الفرقة من يوم الجمعة 23 أكتوبر على مسرح تياترو البلدية حتى اكتظ المسرح بالمتفرجين، وتوالى التصفيق للفرقة والهتاف لمصر والمصريين. وكانت أول حفلة تشترك فيها الفرقة هي حفلة «انتخاب ملكة جمال أوروبا»! وظل البروجرام يعرض بنظامه الطبيعي وفي فترات الاستراحة بين الفصل والآخر، كانت تُقدم الهدايا الثمينة في المسرح إلى مديرة الفرقة «ببا عز الدين» تارة، وإلى المطربة النابغة «ليلى حلمي» تارة أخرى وإلى الأستاذ «حسين المليجي» وزوجته نعمات أيضاً. وهكذا كان النجاح والإقبال طوال الأيام التي قضتها الفرقة في تونس. ثم بدأت الفرقة في حفلاتها الأخرى في الضواحي والبلدان المجاورة. ووصلتنا البرقية الآتي نصها: «قوبلنا في تونس بحفاوة بالغة فلا يسعني إلا أن أقدم للشعب التونسي شكري الجزيل على صفحات الصباح الغراء» [توقيع] «ببا عز الدين»».
ونشرت جريدة «البلاغ» في منتصف نوفمبر كلمة، قالت فيها تحت عنوان «فرقة ببا ورحلتها إلى تونس»: «وصلت فرقة ببا عز الدين إلى تونس في أواخر الشهر الماضي، وقامت هناك بإحياء عدة حفلات على مسرح البلدية لاقت فيها نجاحاً عظيماً. وقد نالت الآنسة ببا الوسام الثالث من صاحب السمو «باي تونس». كما نال أيضاً هذا الوسام كل من الأستاذين «عبد النبي محمد» ممثل الفرقة الأول، و«عبد العزيز محجوب» مدير الفرقة. ومن أظرف ما كُتب عن هذه الفرقة ما نشرته إحدى الصحف اليومية إذ قالت: عاد إلينا مندوبنا من المسرح وقال أكتب: الآنسة ببا قطعة من الكاوتش، والأستاذ عبد النبي محمد يُضحك الحزين عند رأس الميت، والأستاذ عبد المطلب نسخة من محمد عبد الوهاب، والآنسة ليلى حلمي سحارة تسحر بصوتها العقول، والأستاذ حسين المليجي يمشي في الهواء، والآنسة نعمات المليجي أرنب في خفتها».
ونشرت مجلة «الصباح» بعض التفاصيل المهمة، قائلة: كان إقبال الجمهور عظيماً جداً. «ومما زاد في سرور أعضاء الفرقة أن حفلة «سواريه» أول نوفمبر كانت آخر حفلات الفرقة في تونس. لكن سمو الباي أمر بإلغائها لتقام بقصره العامر للمرة الثانية. وفي نهاية الحفلة منح سموه للفرقة مبلغاً وقدره 8000 ثمانية آلاف فرنك. كما أن صاحبة السمو حرم الباي أهدت للسيدة «ببا» أسورة من الذهب مرصعة بالماس. أما حفلات الشاي التي أقيمت للفرقة فكثيرة منها حفلة لدى سعادة محافظ تونس، والثانية بالنادي التونسي، والثالثة بمنزل كبير أمناء القطر، والرابعة من الجمعية الخيرية الإسلامية». كما ذكرت المجلة أن الفرقة عرضت في تونس وسوسة وصفاقس والمهدية وبنزرت.
ونختتم هذه الرحلة بما روته إحدى ممثلات الفرقة وهي «خيرية صدقي»، وقد نشرت جريدة «البلاغ» ما روته في أوائل مارس 1937، قائلة تحت عنوان «رحلة فرقة ببا إلى شمال أفريقية»: «عادت إلى مصر فرقة ببا من رحلتها التمثيلية في تونس ومراكش بعد أن قضت هناك زهاء أربعة شهور تقريباً لقيت فيها نجاحاً كبيراً. وقد قابلنا السيدة «خيرية صدقي» إحدى ممثلات هذه الفرقة وحادثناها عما شاهدته في تلك البلاد فقالت: ..... وسافرنا إلى تونس ولكني ما كدت أضع قدمي في هذه البلاد حتى أعجبت بها، فقد قابلونا مقابلة عظيمة لا يمكنني أن أنسى ذكراها. وقامت الفرقة بإحياء أولى حفلاتها هناك فكان الإقبال عظيماً، وكان أن دعانا صاحب السمو باي تونس إلى سرايته العامرة فأحيينا فيها حفلتين حضرهما سمو الباي ورجال الحاشية والبلاط والوزراء، وكان الحريم في الدور الثاني يشاهدننا عن كثب من خلف ستار حجبهن عن أنظارنا جميعاً، وبلغ إعجاب سمو الباي بعملنا وفننا حداً كبيراً فأنعم على بعض أفراد الفرقة من الرجال بالنياشين وأنعم على السيدة ببا عز الدين مديرة الفرقة بنيشان الاستحقاق من درجة شيفاليه، وإن كان البروتوكول هناك يُحرم الإنعام بالنياشين على السيدات ولكني علمت أن سمو الباي أمر بتعديل بعض مواد البروتوكول».


سيد علي إسماعيل