هل سيظل (الفودفيل) يحكم الكوميديا المصرية

هل سيظل (الفودفيل) يحكم الكوميديا المصرية

العدد 743 صدر بتاريخ 22نوفمبر2021

ونحن في القرن الحادي والعشرين وحتى الآن ما زالت عروض فرقة مثل فرقة (أشرف عبدالباقي) الجديدة التي تسير علي نهج نجوم الكوميديا السابقين مع كثير من الإسفاف والسوقية – من أمثال فرق عبد المنعم مدبولي وعادل إمام، ومحمد صبحي، وأمين الهنيدي، وسعيد صالح، وممثلين مثل (يونس شلبي وفؤاد المهندس، ومحمد نجم، وسمير غانم) هؤلاء السابقون الذين اشتهروا بالكوميديا والهزلية وغيرها من اشكال الكوميديا الذين ورثوا تراث الكوميديا المصرية منذ بداية القرن العشرين، وسار علي هذا النهج ما يعرف (بمسرح الصالات)، ورغم كل هذه الأعمال الكثيرة لم يتم الكشف عن الأكثر، ونشير إلي أن الكوميدي أصدر إحدى عشر مطبوعة علي مدى عامي 1995 و1996 من بينها أوبريت «الحساب» لأمين صديقي، و«مايسة»، و«بترقلاي» لبيرم التونسي، و«القاهرة في ألف عام» لعبد الرحمن شوقي وأغاني صلاح جاهين، و«اسم الله عليه» تأليف أمين صدقي.. بالإضافة إلي (دراسات) عن (عزيز عيد) وصفاء الطوخي، «منير المهدية» للدكتور سامي عبد الحليم، وكتاب «حول أزمة المسرح المصري» من جزأين بمقدمة للناقد (سامي خشبة).
حيث ولد المسرح المصري في أحضان المسرح الأوروبي فمنه استمد الشكل والموضوع، مستفيدا بين حين وآخر من التراث الشعبي المحلي سواء في الفرق المصرية أو الفرق الشامية التي عاشت في مصر، أي بعد أعوام من ظهور أول فرقة مسرحية مصرية وهي فرقة (يعقوب صنوع) 1870م ، مثل فرقة (سلامة حجازي) 1905، وجميعها كان رافدها الأساسي هو (الفودفيل) الفرنسي الذي نمت فيه الكوميديا المصرية وترعرعت ابتداءا من الأب الروحي لهذه الكوميديا (عزيز عيد، ونجيب الريحاني، وعلي الكسار، والمؤلفين أو المقتبسين مثل عزيز عيد نفسه أو بديع خيري مع نجيب الريحاني أو أمين صديقي مع علي الكسار ومترجمين مقتبسين آخرين) لكن الأمر يختلف عن ترجمة (محمد عثمان جلال 1829 – 1896 لمسرحيات (موليير) بالزجل في أواخر القرن التاسع عشر، ويمكن تعريف (الفودفيل) بأنه مثل (الفارس) أو المسخرة الهزلية، والكوميديا المرتجلة التي تستهدف إثارة الضحك، ويظل محصورا في إطار التسلية والترفيه والإضحاك، والمسرح التجاري، وقد نهل المترجمون والمقتبسون المصريين من مسرحيات الفودفيل الفرنسي الأشد إثارة للضحك بموضوعاتها ومواقفها الدرامية الخفيفة، ونستثني (نجيب الريحاني) 1949 - أشهر نجوم المسرح الكوميدي الذي استطاع ابتداءاً من عام 1931 من خلال اقتباس نص «مسيو توبار» تأليف «مارسيل بانويل» أن يضع أول لبنة في كتاباته الكوميدية النقدية بالمشاركة مع بديع خيري وغذياها بالتأملات والملاحظات الذكية الفكهة الساخرة علي المستويين الاجتماعي والأخلاقي فارتقي بمسرحه الهزلي إلي مجال التصوير النقدي الساخر لمجتمع ذلك العصر.
وقد دخل (الفودفيل) مصر في القرن التاسع عشر في عصر الخديوي إسماعيل عن طريق فرقة فرنسية حظيت بعناية الخديوي إسماعيل .. لكن يظل (يعقوب صنوع) هو رائد المسرح المصري بتوظيفه (للتيمات) الشعبية المصرية ومن قبله توجت جهود (عزيز عيد) الذي أسس أول فرقة مسرحية عام 1907 بالاقتباس من الفودفيل الفرنسي بالنجاح في مايو 1915 علي مسرح برنتانيا بمسرحية «خلي بالك من إميلي» والتي شدت انتباه الجمهور المصري والمأخوذة عن نص فرنسي (لجورج فيدو) والذي ترجم أعماله كاملة (د. حمادة إبراهيم) باللغة الفصحى (المركز القومي للمسرح)2006-2009 ، وهو الفن الذي كان يحظي بإعجاب الجمهور المصري لأنه يحتفي بالترفيه والتسلية، ومزيج من الرقص والغناء والحوار الفكاهي والحركات المضحكة التافهة في (الموضوع والحبكة والتعقيد، ولا تتحرج من إرسال النكتة المقزعة، وهي أشبه بالمنوعات الراقصة والغنائية التي تظهر عادة بين الصخب والضجيج والتهريج في الملاهي الليلية خاصة فيما يسمي (بمسرح الصالات) لذا تم (عقد عرفي) ساد المسرح الكوميدي المصري وجماهيره بين الفودفيل بعناصره التي تشكل العمل الفني في السواد الأعظم من مسرحياتنا الكوميدية التجارية حتى انتقلت هذه العدوى أصلا إلي أفلامنا السينمائية الكوميدية، وإن كان هذا لا يجعلنا أن نتجاهل كاتبين مصريين كتبا الكوميديا الجادة هما (نعمان عاشور) والكاتب الذي ضل طريقه (علي سالم)!!
وقد شجع شكل (الفودفيل) صناع الكوميديا المصرية لأنه في أصله نوع غنائي تتميز أغانيه بالمرح والمكر، وهذه الأغاني كانت تتسم بطابع ساخر مستمد من الأحداث الجارية والنكت الذائعة أو بالطابع الماجن، وتاريخيا فقد اتخذ الفودفيل الغنائي في فرنسا في بداياته قبل أن يتحول إلي نوع مسرحي في القرن السابع عشر إلي أن نما نموا كبيرا وحقق تطورا علي يد (سكريب) 1791 – 1861 الذي لم يهمل التقاليد الغنائية..  إلا أنه حول الفودفيل في القرن التاسع عشر إلي كوميديا عاطفية تتميز بالذكاء، ووجه عنايته إلي بناء العقدة المُحكم الذي يعتمد علي اللبس والمفاجأة والحيل التكنيكية المتعددة أي المسرحية المحكمة الصنع، وتبعه كتاب آخرون مثل (لابيش) 1815 – 1880، ومن المفارقات الغريبة أن الفودفيل الفرنسي في القرن العشرين وبدأ يفقد خصوصيته النوعية ويبهت لونه في مسارح البوليفار الفرنسية وفقد كاتب مهم مثل (جورج فيدو) الذي كان أهم الكتاب ، بينما ازدهر في مصر فاكتسح عمل المسارح الكوميدية المصرية، فكتب أو اقتبس كلا من (أمين صديقي ونجيب الريحاني وعلي رأسهم عزيز عيد) المتميزين في هذا النوع أكثر من أربعة وعشرين (24) مسرحية لكل منهما علي مدى سنوات عملهما بالمسرح حيث أصبح مسرح البوليفار الفرنسي مصدرا أساسيا للمسرح الكوميدي المصري الذي يعد (عزيز عيد) الأب الروحي لهذا التيار، والذي ظهرت بعده عدة أجيال في عصرنا الحاضر من أمثال (بهجت قمر، ومحمد دوارة، وسمير خفاجي) وآخرون.. استطاعوا المحافظة علي تقاليد (الفودفيل) في الكوميديا المصرية، واعتمد مقتبسو المسرحيات الملهاوية أو الهزلية علي وسائل عدة في تقنيات تبدأ بها (التمصير) أي إيجاد أسماء مصرية للشخصيات الأجنبية في هذه المسرحيات، وتغيير الحالة المدنية للشخصيات المعروفة في المجتمع المحلي، ونلاحظ أن التمصير عند الريحاني يتميز بطابع شخصي وأصالة لا تتوفر عند غيره من المقتبسين وتجنيس الشخصية بواسطة بعض اللمسات السيكولوجية والأخلاقية لتكتسب لونا محليا، والتصرف بالتقديم والتأخير في ظهور الشخصية الرئيسية، وإطالة حديث الشخصيات الرئيسية بإضافة النكت والتعليقات الهازلة وأحيانا السباب والسرد الهزلي، وتطوير التيمات الثانوية المضحكة، والانتقال من الخاص إلي العام أي (التعميم)، والمشاهد الهزلية التي لا صلة لها بالعقدة الأساسية كعنصر مميز في دراماتورجيا الريحاني التي تؤكد الطابع المحلي، ويلجأ المقتبسون إلي (التراكب) أي توظيف عنصرين معا مستمدين من مصدرين مختلفين لكنهما يتميزان بخصائص مشتركة تجعلهما صالحين للتوافق معا في تركيب درامي جديد في مجال الحبكة ورسم الشخصيات ثم (التبسيط) الذي يحتاج إلي خبرة المعد المقتبس الدرامية بحيث يمكن تحويل المعقد إلي بسيط أي تحويل وتقريب فودفيل (اللبس أو المتعدد الحبكات) أو في كوميديا النقد الاجتماعي كما قام كاتب المسرح (عباس علام) 1892 – 1950 بتبسيط حبكة «سيدة من مكسيم» لجورج فيدو بوسيلتين ثانويتين هما (الإضافة والحذف) كما في مسرحية «سهام» حين حذف الفصل الثالث من مسرحية (فيدو) الذي تستمر فيه أحداث اللبس التي بدأت في الفصلين الأول والثاني، كما جاء في كتاب «الفودفيل» في تاريخ المسرح المصري للدكتور (جلال حافظ)، أكاديمية الفنون2007، كما نجح (الريحاني) في تبسيط العقدة المركبة لمسرحية «الملك» (لروبير دي فلير) ليبني عقدة مسرحية «قسمتي» نفس المرح السابق، ونضيف أن (إعادة الصياغة) هي وسيلة تكنيكية التي يحور بها المقتبس الشخصية الفرنسية إلي صورة النمط المصري الذي يمثله عادة (الريحاني) أو (الكسار)، فعلاوة علي تغيير بعض الملامح الجسدية والتكنولوجية قبل ابتكار المشاهد الجديدة ضروري لإتمام عملية التحوير، ومثال علي ذلك ابتكار (الريحاني نمط الفقير السيئ الحظ، الطويل اللسان كما في أكثر من فودفيل فرنسي، أما في مسرح (الكسار) فكانت إعادة الصياغة في مسرحه مهمة أكثر سهولة منها عند الريحاني فالشخصية التي يمثلها بطل هذه الفرقة هي أساسا من ابتكار هذا الممثل المرتجل البارع، وأما (أمين صدقي) فلم يكن عليه سوى أن يضع تصميما للصورة الشخصية وأن يحدد تخطيطا للحدث الذي ينسج (الكسار) علي أساسه دوره الذي يجدده كل ليلة بكل حرية، هذا بالإضافة غلي أن (عثمان عبد الباسط) رغم كونه في الأصل خادما أخرقا خبيثا إلا أن دوره متغير من وجهة النظر الاجتماعية، فهو مثل (أرليكانو) في (الكوميديا ديلارتي) ويغير من مهنته.. لكنه يظل دائما هو نفسه.
ومن الوسائل الأخرى في الاقتباس (التوسع والتفخيم) وتقتصر هذه الوسيلة علي مجال الشخصيات، ويهدف علي وجه الخصوص إلي تصوير الشخصية الرئيسية، وتوسيع مساحة الدور، ورفع القيمة الدرامية لشخصية ثانوية في الأصل الفرنسي ليكون بطل المسرحية المصرية المقتبسة باختراع بعض المشاهد الجديدة المستلهمة من النص الأصلين أما (تكنيك التفخيم) فيلجأ المقتبس إليه لتطوير عناصر مأخوذة مباشرة من النص الأصلي كما في مسرحية (الريحاني) «الستات ميعرفوش يكدبوا» عن مسرحية طفلي (الموريس هنيكيلان) وهي المسرحية الخمسين للريحاني التي يصل فيها خياله في الاقتباس إلي قمته عندما رسم شخصية (نوح) وبدا فيها تمكنه نضيف وسيلة أخرى من وسائل الاقتباس وهي (الإدماج) كما في تكنيك إدماج شخصيتين ثانويتين من مسرحية واحدة كما في مسرحية «مراتي في الجهادية» المأخوذة عن مسرحية «كلاويت في الجندية» حيث أدمج (أمين صدقي) شخصية (ميشونيه) مع شخصية (جييار) ليشكل دورا واحدا (للريحاني) بطل الفرقة، وهذا المزج يهدف إلي خلق نمط محب الملذات حسب نموذج (الفرانكور – آراب) دون أن يكون علي وجه الدقة..، لكن المقتبس الذي لا يهتم إلا بتوفير دور كبير (للريحاني) يقع في المحظور لأنه يكدس الوظائف الدرامية المتعددة في دور واحد، وأخر هذه الوسائل في الاقتباس ما يسمي (العكس)، وهو وسيلة تكنيكية (ريحانية) تسعي إلي إثارة رد الفعل السيكولوجي غير المنتظر منطقيا من شخصية الأخرق علي مستوي علاقاته مع البطل التقليدي للفودفيل الفرنسي، وأحينا ما تكون النتيجة رائعة وأحيانا ما تكون خائبة، وإعادة الصياغة هي الوسائل التكنيكية المناسبة لتحويل نمط الأخرق إلي شخصية هامة، ولكن (الريحاني) لا يكتفي بذلك وإنما يتدخل ثانية ليعطي هذه الشخصية حجما أكبر وهنا يأتي دور (العكس) ومثال علي ذلك عندما اقتبس مسرحية «خياط السيدات» باسم «حاجة حلوة»، لكن قد يكون المشهد بالرغم من أنه مضحك للغاية إلا أنه يخل بسبب طوله بالتوازن الدرامي للمسرحية المصرية.
ولابد لنا في النهاية أن نقرر أنه لم يكن لهذه الدراسة أن تتم دون الدراسة الأكاديمية الهامة والمتعمقة للدكتور (جلال حافظ) في كتابه «الفودفيل» في تاريخ المسرح المصري – أكاديمية الفنون – ملفات المسرح (1) 2006 حيث اعتمد علي مسرحيات نجيب الريحاني وأمين صدقي، والمراجع العربية، والدوريات المصرية من 1905 – 1940، ودوريات مصرية بالفرنسية من 1900  إلي 1905، والمسرحيات الفرنسية التي تم اقتباسها، والمراجع الأجنبية النقدية.


عبد الغنى داوود