من أجل دراماتورجيا متحررة

من أجل دراماتورجيا متحررة

العدد 731 صدر بتاريخ 30أغسطس2021

 بعض الأسئلة:
هل يمكن أن نبدأ دراستنا لحالة الدراماتورجيا المعاصرة بافتراض أن الفروق بين الدراماتورجيا النظرية والعملية والوظائف الدراماتورجية تتلاشى وتندمج اليوم (إذا أعدنا صياغة المصطلح الذي قدمه ميشيل فوكوه: «وظيفة المؤلف»)؟. وهل يمكن أن نقول إن الدراماتورجي (المعد الدرامي) (بمعنى الإحساس بالعالم في اللغة الألمانية) يشارك في العمليات التي تتعلق باستراتيجيات فنية، ويطور النص، أو حتى يفهمه باعتباره أداء، مع أنه لن يفهمه أبدا مثل المؤلف، حتى بمعنى وظيفة المؤلف الذي صاغه فوكوه؟ علاوة علي ذلك هل يمكننا أن نذكر أن اسم الدراماتورجي يشير بشكل متقطع الى مكانة الخطاب في الثقافة والمجتمع، ولكن الكلمات التي ينطق بها في المؤتمرات الصحفية أو يكتبها في كتيبات البرامج غالبا ما تستخدم كأساس لتفسير النص والعرض؟ وهي ممارسة يجادل معه بها رولان بارث في هذه الحالة غير العادية لوظيفة المؤلف المحذوفة أو المكبوتة التي يجسدها المؤلف في الدوائر المسرحية .
الدراماتورجي كمتفرج متحرر؟
عندما سأل زميلنا الدنماركي بينت هولم نفسه السؤال التالي « من هو الدراماتورج إذن؟ « قدم إجابة مثيرة:  هو يد الجمهور اليمنى، والمتفرج المثالي، يقوم بعمليـة تفاعل وتناص دينامي لا نهاية لها. وهذا يفترض مفهوم أن نوع معين من الاتصال بين الأبعـاد الثلاثة والحـواس الخمسة ممكنا ومرغوبـا فيه. وأن المسـرح كـشكل فنـي يجـب أن يكـون حـواريــا ومفتـوح المعـنى.
 فغالبـا مــا ما يوجد استبعاد متعـمد للاتصـال، بمـا في ذلك تفســير تفسير لحظات الاتصال كأخطاء فنية، عند المخرجيــن التابعين، في حين أن الأساتذة غالبا ما يكونوا واضحين: كانتور وويلسون، مثل ليباج وأوسترماير. اذ يشعـر من يتحملون هجوم النقاد بأنهم يجب أن يكونوا غامضين ولا يمكن فهمهم، بافتراض أن مسألة فهمهم تعرضهــم للسقوط فنيا، كما أن عـدم شـعور المتـفرج بالملل يعني أنك لست فنيا .
وباستخدام مصطلحات السيميوطيقا ونظرية التلقي، فانه يعرف بلا شك أن المتفرج المثالي، مثل نموذج القارئ عند أمبرتو ايكو، أو القارئ المضمر عند فولفجانج أيزر (وأشير هنا إلى نظريته في الاستجابة الجمالية أو نظرية العمل الفني)، هو تفسير. ففي الحياة العادية يجب أن نفهم النسبية، والتعقيد والسياقية.
 وبدلا من القارئ المثالي فاني أفضل أن نستخدم «المتفرج المتحرر emancipated spectator، وهو المصطلح الذي صاغه جاك رانسير. وإذا كان الجمهور وفقا لرولان بارث هو الخالق الفعلي للعرض، عندئذ يجب علي الدراماتورج أن يتصرف مثل المتفرج المتحرر. ولكن بأي معنى؟
 أولا يجب أن نسأل أنفسنا السؤال التالي الذي سوف استشهد به ونشرحه من كتاب رانسير “المتفرح المتحرر Emancipated Spectator»: هل يمكننا أن نحرر المتفرج من خلال تحدي التعارض بين المشاهدة والتمثيل، من خلال فهم أن الحقائق الواضحة التي تبني العلاقات بين القول والمشاهدة والفعل أنفسهم تنتمي إلى بنيات الهيمنة والخضوع؟.
عندئذ لابد أن نفكر في مسرح اليوم والفنون الاستعراضية كنتيجة لثورة جمالية معينة في التحول الأدائي في الستينيات والسبعينيات في فنون الأداء. أن هذا التحول المحدد من الثقافة الإشارية إلي الثقافة الأدائية، كما وصفته إيريكا فيشر ليشت في كتابها «جماليات الأدائي Asthetik des Performativen”، أسفر عن مختلف التفسيرات للحدود البدنية والنفسية عند الفنان والمتلقي علي حد سواء. فقد وجد المشاهدين أنفسهم في وضع البين بين، وهي الحالة الحدية Liminality التي أنتجت عدم استقرار فهم المتفرجين لأنفسهم وللآخرين وللحقيقة .
ولكن لا يجب أن ننسى حقيقة أنه طوال التاريخ الطويل كان يجب علي الدراماتورجيا العملية أن تتعامل مع الطفرة الأدائية المكتشفة حديثا . وقد اضطر الدراماتورجيين في مختلف الظروف التاريخية والاجتماعيين أن يتأملوا حقيقة أن المسرح يحدث بالتفاعل مع المشاهدين . وبالتالي يجب أن نحرص علي عدم التفكير في تصنيفات إما – أو، قبل وبعد .
تاريخيا، وعلي غير العادة كما يبدو، فان المسرح المتمركز حول العقل أو المسرح الدرامي أكثر ارتباطا بالمسرح الأدائي نفسه أو مسرح ما قبل المسرح بعد الدرامي الذي استبق إصلاحاته في القرن الثامن عشر. وفي هذه المرحلة بالضبط، يمكن لمفهوم جاك رانسير «المتفرج المتحرر» أن يقدم نفسه في نظرية دراماتورجيا المتفرج dramaturgy of the spectator ودور الدراماتورج في المسرح المعاصر بعد الأدائي أو بعد الدرامي أو الحداثي اليوم .
ويمكن القول إن الدراماتورج اليوم يدخلون منظور جاك رانسير البديل حول جهود تحرير المتفرج : لكي يساعده في أن يحاول بشكل متعمد اجتياز الهوة التي تفصل الفعالية عن السلبية عن طريق طرح سؤال «إذا لم تكن الرغبة هي محو المسافة التي تخلقها؟ .
في بداية القرن العشرين كان لا بد للدراماتورج أن يجسد تحرير كل من المتلقي والمؤدي . اذ يجب عليه أن ينشئ سياسات فنون الأداء الذي يمزج بطريقة غير تسلسلية نموذجي الثورة الجمالية (بريخت وأرتو). وطبقا للنموذج البريختي، يجب علي الدراماتورج أن يجعل المشاهد واعيا بالموقف الاجتماعي الذي يرتكز عليه المسرح نفسه . ويحض المشاهدين علي التصرف نتيجة لذلك . ولكن في نفس الوقت – وفقا للمخطط المنسوب إلي أرتو – يجب علي الدراماتورج والمسرح أن يجعلا المشاهد يترك وضع المتفرج . ويصبح الجمهور، الذي لم يعد جالسا أمام العرض المسرحي، محاطا بالأداء، ويتم دفعه الى دائرة الفعل التي تعيد لخ طاقته الجماعية .
هذا الفقدان للإيهام يقود الدراماتورج والمخرج الى زيادة الضغط علي المتلقي : فهو ربما يعرف ما يجب أن يفعله، إذا غيره الأداء، وإذا ميزه علي الموقف السلبي وجعله مشارك فعال في العالم الجماعي . إذ يعتقد رانسير أن « هذه هي النقطة الأولى التي يشارك فيها المصلحون في المسرح مع تسفيه المعلمين : فكرة الهوة بين بين موقفين . وحتى عندما لا يعرف الدراماتورج أو المؤدي ما يريد من المتفرج أن يفعله، فانه يعرف علي الأقل أن المتفرج يجب أن يفعل شيئا : ينتقل من السلبية إلى الفعالية .

تحويل مخطط السبب / النتيجة نفسه:
لذلك يجب أن يهدف الدراماتوجي المتحرر إلى تحويل مخطط السبب/النتيجة نفسه، ورفض مجموعة الاعتراضات التي تؤسس لعملية التسفيه . ويجب عليه أن يميز التعارض بين الفعالية والسلبية وكذلك مخطط النقل المتساوي وفكرة الاتصال في المسرح التي تجعله في الواقع رمزا لعدم التساوي . فتجاوز الحدود واضطراب الأدوار لن يحول الفرجة إلى فعالية من خلال تحويل التمثيل إلى حضور . بل علي العكس، انه يفضح علاوة علي ذلك أسئلة الأفضلية المسرحية للحضور الحي . ويقدم خشبة مسرح فيها مساواة، حيث يمكن نقل مختلف العروض إلى بعضها البعض .
في مجموعة كبيرة من العروض، يبني الفنانون خشبة المسرح حيث يصبح فيها مظهر كفاءتهم وتأثيرها محل شك . ويدعون المتفرجين الفعالين كمفسرين، لأن المتفرجين الذين يحاولون ابتكار ترجمتهم لكي يضبطوا القصة لأنفسهم ويصنعون منها قصتهم . والجماعة المتحررة في الحقيقة هي جماعة رواة القصص والمترجمين .
يجب علي الدراماتورج المتحرر أن يضع في اعتباره الانقسام المتمحور حول العقل في مقابل الأدائي، كتصنيفين فعليين، فضلا عن الاستراتيجيات التحليلية، هما تقسيمان نظريان، وأحيانا بلا فائدة في المسرح العملي . اذ يجب أن يضع الدراماتورج في اعتباره أن الفعل الأدائي علي خشبة المسرح يوحد الثقافة الفردية والجماعية والنصية والأدائية . وبالتالي يقدم مفهوم الفن كفن للحقيقة . وينشئ أيضا تميز الفعل المسرحي، والعمل الفني الأدائي ووقوعه كحدث من نوع مميز، وكأداء، لا نعايش فيه الفن كموضوع بقدر ما نعايشه كحدث يمكن تكراره مرارا وتكرارا، دون تشابه مع ذلك . انه يخلق حدثا فريدا – وكما تقول جين لوك نانسي-  ما يهم في الفن، وما يجعل الفن فنا، ليس هو الجميل والمتسامي، وليس التجلي الحسي ولا جعله من أعمال الحقيقة . انه كل هذا، ولكن بطريقة أخرى ؛ انه الوصول إلى الأصل المبعثر، واللمسة الجماعية للأصل المتفرد .
جولة القوة  الفردية والجماعية الدينامية :
يجب علي الدراماتورجي المتحرر أن يقنع كل من المؤدين والمتفرجين بأن الفعل المسرحي أو الأداء هو جولة لقوة الفردية والجماعية الدينامية، وتجسيد حقيقة أنه لا توجد كينونة بدون «وجود مع «، وأن « الأنا « لا تأتي قبل « نحن « ( بمعنى أن الموجود لا يسبق الوجود مع )، وأنه لا وجود بدون تعايش .
 ولكننا لا يجب أن نتمسك باعتقاد أرتو اليوتوبي بأن المسرح يمكنه أن يؤدي فعل انتهاك مجسد بعينه، يعمل من خلاله الجسم كمكان لإعادة بناء انساق الاعتقاد الثقافية . فالمسرح المعاصر، مثل الحلم، أو ربما أشبه بجنون العصر الوسيط، يتميز كخطاب يريد أن يعود الي أصوله كحقيقة للعالم . ونستشهد بالأسلوب المجازي التنبؤي لأرتو :
ربما كان صحيحا أن سم المسرح، عندما يُحقن في جسم المجتمع فانـه يدمـره، كما أكـد القديـس أوجستين، ولكنه يفعل ذلك مثل الطاعون، وبلاء الانتقام، واستعادة الوباء عندما اقتنعت الساذجة أنهم رأوا يد الله فيها،في حين أنها لم تكن إلا تطبيقــأ القانون الطبيعي، حيث تم تعويض كل الإيماءات بإيماءة أخرى، وتعويض كل فعل برد فعل .
بهذا المعنى يجب أن يلتزم الدراماتورجي بما يسميه باديو “ التذبذب الشامل” في كتابه “ موسيقى الرابسودي للمسرح Rhapsodie pour le theatre « والذي يقول فيه : المسرح الحقيقي يجعل كل عرض، وكل إيماءة للممثل، تذبذب شامل حيث يمكن المخاطرة باختلافات لا أساس لها . ويجب علي المتفرج أن يقرر ما إذا كان سوف يعرض نفسه لهذا الفراغ ويشارك في الإجراء اللانهائي . انه ليس مدعوا للبهجة  .. بل انه مدعو للفكر .
وبهذه الفكرة سوف أختم مقالي، فهذا الأمر هو مهمة الدراماتورجي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أن يحرر متعة الفكر عند المؤدي والمتفرج، والمبدعين وجمهور العرض علي حد سواء  .
..............................................................................
توماس توبورشيتش يعمل أستاذا للدراما ودراسات الأداء بكلية الآداب بجامعة لوبليانا بسلوفانيا .
نشرت هذه المقالة في مطبوعات مسرح مالدينسكو- أكاديمية المسرح في لوبليانا.


ترجمة أحمد عبد الفتاح