بين الدور التنموي .. وأحلام المخرجين الخاصة مسرح الثقافة الجماهيرية في الميزان

 بين الدور التنموي .. وأحلام المخرجين الخاصة  مسرح الثقافة الجماهيرية في الميزان

العدد 720 صدر بتاريخ 14يونيو2021

«إن الثقافة الحقيقية هي النابعة من القاعدة الشعبية، وكلما تعمقنا في الجذور ارتفعنا إلى العالمية» بهذه العبارة لخص «نجيب محفوظ» نهاية عام 1966 دور الثقافة الجماهيرية التي  تعد خط الدفاع الأول عن ثقافتنا لما تلعبه من دور بارز في مواجهة كل أشكال التعصب، بالإضافة إلى الانفتاح الثقافي على البيئات المختلفة في شتى ربوع مصر..
ومن هذا المنطلق نناقش: هل من الضروري أن تقدم في مسرح الثقافة الجماهيرية عروضا تلائم البيئة والموقع الجغرافي الذي تقدم به أم لا؟
اختلف المسرحيون في هذا الشأن، فالبعض يرى ضرورة تقديم نصوص تلائم البيئة أو الموقع، بينما يرى البعض ضرورة تطويع النص حتى يتناسب مع الشريحة المتلقية، وخصوصا إذا كان ما يقدم نصا عالميا. ويرى آخرون أن هناك انفتاحا مجتمعيا على الثقافات الأخرى ما يسقط حجة انغلاق البيئة على تلقي فنون بعينها تناسب ثقافتها.. نستعرض في هذه المساحة حجج هؤلاء وهؤلاء.

قال الكاتب المسرحي د. السيد فهيم: يجب أن نتفق أولا أن المسرح في الأساس للجماهير، بدأ بما عرف اصطلاحا بالفرجة الشعبية بمعناها الحرفي، فهو مجهود فني بذل فيه الكثير من الجهد بدءا من كتابة النص المسرحي، مرورا بتدريب الممثلين إلى بناء الديكور واختيار الموسيقى والأغاني المناسبة لجذب انتباه المشاهدين والاستحواذ على تركيزهم وتفاعلهم مع ما يقدم على الخشبة طوال دقائق العرض المسرحي، وهذا لن يتحقق إلا إذا وجد المشاهد ما يشغله أو يستفز مشاعره من أحداث وقضايا، ولن تكتمل حلقة التواصل إلا إذا كانت لغة الحوار مناسبة ومألوفة للمتفرج، وهذا لا يعني بالضرورة أن تقدم أعمالا باللهجة الصعيدية في الصعيد وريفية في الدلتا ومحافظات الوجه البحري، وليس بالضرورة أيضا أن تقتصر القضايا المطروحة على قضايا الثأر والأرض وغيرها من القضايا التي باتت تقليدية ومستهلكة، بل يجب طرح ما يشغل المشاهد من قضايا حياتية فعلية قد تبدو بسيطة دراميا لكن يمكن رصدها وتقديمها بحرفية فنية، وهذا ليس بالجديد على المسرح المصري، فقد شاهدنا في الستينات عروضا مسرحية عبرت عن واقع المجتمع المصري في تلك الفترة الانتقالية من تاريخه، وهناك نماذج في مسرح نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه ولطفي الخولي ونجيب سرور قدمت تنويعات راقية بالغة العمق والأثر وعبرت بحرفية شديدة عن المواطن المصري وهمومه.
وتابع قائلا: يلجأ بعض المخرجين في الثقافة الجماهيرية، قصور الثقافة حاليا، إلى تقديم نصوص من المسرح العالمي، هذا في حد ذاته لا يعد عيبا، فقد يكون تحديا شخصيا للمخرج ولفريقه بتقديم قيمة فنية راقية وتعريف الجمهور بكلاسيكيات عالمية، لكن هذا يتطلب نمطا محددا من الجمهور وغالبا لا يتناسب مع الجمهور المستهدف من عروض الثقافة الجماهيرية، الجمهور الذي لا يتكبد مشقة البحث عن عرض مسرحي أو دفع ثمن تذكرة مشاهدة، أو يبحث عن نجم كبير يستمتع بأدائه.. فهو غالبا جمهور من أهالي وأقارب وأصدقاء فريق العمل أو جمهور مار بالصدفة يتوقع أن يجد عرضا بلغة أقرب إلى ثقافته، وتقنيات تتناسب مع وعيه وإدراكه، لذلك نجد عزوفا من قطاع كبير من الجماهير عن هذه النوعية من العروض لوجود أكثر من حاجز بين ما يقدم من مادة فنية وبين المتلقي مثل اللغة والبناء الدرامي والقضايا المطروحة.. إلخ. وأول إشارة لهذا العزوف هو عدم انضباط صالة الجمهور وانشغالها أثناء العرض.
أضاف السيد فهيم: لرفع الوعي الفني لدى الأجيال الناشئة يجب أن نبدأ أولا في المسرح المدرسي بتقديم تجارب بسيطة من هذه النوعية من المسرح، عالميا أم محليا، بهدف رفع الوعي الفني لدى الأجيال الناشئة، وتقديم عروض قصيرة على هامش العروض الطويلة على مدار العام في قصور وبيوت الثقافة لتعريف الجمهور بهذه النوعية وتكثيف ندوات الحوار والمناقشة، ولا بأس من إقامة ورش ودورات لشباب الممثلين والمهتمين بالمسرح لرفع الذوق العام والتنوع فيما يقدم ظاهرة صحية، لكن ما يحدث هو أن تكتفي الإدارة بخطة عروض مسرحية واحدة طوال العام، وهذا لا يكفي للنهوض بالحركة المسرحية.
التلاؤم ضرورة 
 وقال المخرج أحمد عجيبة « يجب على كل مخرج يقوم بالإخراج في أي  موقع ثقافي من مواقع الهيئة دراسة طبيعة هذا الموقع وما هي النصوص التي يجب ان يستعين بها في هذا الموقع،  خاصة ان رسالة مسرح الثقافة الجماهيرية  هي  خدمة رواد الموقع ، لذا فلابد أن تكون المادة التي يقدمها تتناسب مع المشاهدين، لأنهم أصحاب الحق فى هذه الخدمة التنويرية 
تابع:  «للأسف هناك بعض الاختيارات التي تتنافى مع هذا المبدأ و كثير من النصوص المسرحية التي تقدم لا تناسب مع مواقعها، وبناء عليه يرجي من القائمين على ادارة المسرح بالهيئة ان يوجهوا المخرجين لهذا الأمر الهام، كما يجب على كل مخرج ان يتناسب مشروعه إنسانيا وتعبيريا مع الموقع.  وغير ذلك يكون إهدارا للمال العام.                                                           

متطلبات الجمهور 
واتفق المخرج أشرف النوبي مع حول أهمية تناسب النصوص للموقع الذي تقدم به وقال « علي كل مخرج يتصدي لنص مسرحي أن يراعي مدي تأثير هذا النص في البيئة التي يقدم فيها العرض، وخصوصا في مسرح الثقافة الجماهيرية الممتد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأن يراعي ماذا يقدم ولمن يقدم ومتي يقدم؟ و وجب علينا التأكد من تفاعل الناس مع العرض، وهذا لن يكون إلا بدراسة واعية لمتطلبات هذا الجمهور ومدي ثقافته ونوعيته، من أجل تحقيق رسالة العرض ووصوله لناس الموقع الذي يقدم به .
وأضاف « هناك استثناء لبعض العروض التي تقدم بنصوص عالمية، واذكر هنا أني  قدمت مع  فرقه ببا المسرحية عرض الحضيض لمكسيم جوركي، و هي بلده ذات طابع خاص ببني سويف، و كان العرض مغامرة كبري ، و كان لابد من معالجة وتهيئة النص دون إخلال بإحداثه ومعطياته، وقدم العرض ولاقي استحسانا نقديا وجماهيرية في حينه.. هذا يأخذنا إلى ضرورة الوعي الثقافي والاجتماعي والقدرات الفنية في حال تقديم نص عالمي ، وهذا ما قصدته بالاستثناء ..
وقال المخرج أحمد يوسف الجمل « التجربة المسرحية في مسارح القرى البسيطة مهمة جدا لأنها تخاطب جمهورا بسيطا لا يعرف المسارح الفلسفية والمعقدة، لذا فمن المهم أن يقدم له مسرحا بسيطا يرتبط بموروث تلك القرية من العادات والتقاليد أو أهم مشاكل تلك القرية ، وقد كانت لي تجربة هذا العام بفرقة بيت ثقافة الاقالته ضمن التجارب المسرحية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث قدمت مسرحية «الهانم» عن زيارة السيدة العجوز للكاتب دورينمات، مصرها الكاتب حسام عبد العزيز وقدمها من خلال السيرة الشعبية شفيقة التي عادات تنتقم من حبيبها بالقرية بأموالها،  وقد ربطت  أنا كمخرج بعض المشاهد بأسماء أولياء الله الصالحين بقرية الاقالته، وكذلك بالموالد ،  وتميزت كلمات الأغاني والملابس  والديكور بقربها من عالم القرية وذلك أسهم بشكل كبير في ان يصل العرض إلي جمهور تلك القرية البسيطة.  

حق المخرج 
فيما قال الناقد والمخرج محمد النجار « الأمة العربية أمة ( قوالة ) يحتل ( القول ) فيها مكانة ليست بالقليلة وفن القول أصل وأساس حضارتها ونشأتها وبالتالي يتصدر النص المسرحي مكانة عالية ولان المشروع القومي( الثقافة الجماهيرية ) سعي للوصول للجمهور سعيا حقيقيا في أوقات عديدة من العصر الحديث إلا ان الهروب إلي النصوص العالمية لم يكن هدفه إلا الوصول لجودة مفتقدة في النصوص المحلية من جهة ومغازلة بعض أعضاء لجان التحكيم المنتمين الي الثقافة الغربية والمقللين من شأن من لا يعتنق الثقافة الغربية فضلا عن التسهيلات الرقابية والفنية للنصوص الأجنبية عن النصوص المحلية وهذا في اغلب الأحيان سبب يوضع في الاعتبار حال التطرق لنص عالمي. 
وأضاف قائلا « موائمة النص لمكان قضية شائكة وجملة مطاطة خاصة مع التطور التكنولوجي الكبير واتصال المجتمع يبعضه البعض بصورة أكثر من ذي قبل مع زحف الحضر علي الريف وبعد الصورة الذهنية السابقة عن الفلاح أو الصعيدي كما رأيناه في أفلام الأربعينات والخمسينات، و زيادة معدل التعليم الجامعي وبالتالي ليس كل ريفي غير قادر علي استيعاب نص مركب أو غربي وليس كل ريفي مستوعب للنصوص الأجنبية، فالأمور نسبية ليست مطلقة و من حق المخرج اختيار ما يراه مناسبا للموقع أيا كان مصدره، نص أدبي أو محلي أو غربي أو حتي قصيدة شعر مع توضيح حيثيات اختياره زمانا ومكانا.
فيما أكد المخرج حسن عباس على أهمية موائمة النص المسرحى للبيئة وأوضح «تعد موائمة النص المسرحى للبيئة التي يقدم فيها  أهم مقومات مسرح الثقافة الجماهيرية منذ إنشائها تحت مسمى الجامعة الشعبية عام 1945م اى أنها تتعامل مع الطبقة الدنيا في ربوع مصر المحروسة، وحتى عندما تغير اسمها إلى الثقافة الجماهيرية كان هدفها أيضا كل فئات المجتمع بمختلف ثقافاته، ولكن  خلال السنوات الأخيرة لاحظنا ان معظم العروض المسرحية غريبة على المواقع، وتلاحظ عدم الإقبال عليها  لكمية التغريب فى الرؤى الإخراجية التي لا تناسب ثقافة المشاهد ، وو وضح جليا ان ما يقدم على مسارح الثقافة لا يعنيه سوى لجان التحكيم، وعندما تتحدث مع احد الممثلين فى العرض يقول:  انا مش فاهم انا بعمل إيه؟  فما بالك بالتلقي..  والسبب هو اختيار نصوص لا تمت بصله للبيئة التي يقدم بها العرض، خاصة بعض النصوص العالمية ، رغم موافقتي على أن هناك بعض الأدب العالمي يتناسب بشكل كبير مع بيئاتنا.  وهناك  لجان المناقشة بالإدارة التي  تقوم بمناقشة المشروعات كنص مسرحي ورؤية فقط، مع عدم الاهتمام بمكان العرض والبيئة المحيطة وهذا هو الأهم ، كما تمثل المهرجانات الشيء الأهم بالنسبة لبعض المخرجين وليس العروض الجماهيرية في الموقع نفسه. 
 وتابع:  هناك بعض الأمور يجب وضعها في الاعتبار وهى الاهتمام بالنصوص الملائمة لكل بيئة والنهوض بمستوى العروض من خلال الفرجة الهادفة والقريبة من ثقافة البيئة، وهناك دور كبير يقع على إدارة المسرح فى دراسة الموقع دراسة جيدة حتى يكون الاختيار مناسبا، و على  المخرجين تقديم عروض مناسبة دون تعقيد او فذلكة ، على ان يتم التقييم بمدى تفاعل الجماهير وإقبالهم على العرض، و عمل لقاءات وندوات وورش داخل المواقع الثقافية لفناني الأقاليم،  وأيضا المشاهد المهتم بالعملية الفنية ان أمكن، مع ضرورة عمل مهرجانات إقليمية لتقييم العروض بين الجماهير ، وليست النخبة،  ويكون رأى الجمهور ضمن درجات التقييم.. و أحلم ان يعود المسرح لجميع أفراد الشعب ، وان يكون قريبا من ثقافاتهم، ويكون له دور فعال فى تغيير كثير من العادات الدخيلة علينا التي تنخر فى عاداتنا وتقاليدنا .

معالجة النص العالمي وسيلة لتقديمه 
ورأى المخرج خالد أبوصيف أنه في بعض الأحيان تحكم المخرجين بعض الأمور عند اختيار النصوص ومنها موافقة الجهات الرقابية ، كذلك موافقة المؤلف، مما يجعلهم يتجهون  إلى ما يطلق عليه «السهل الممتنع « وهو اللجوء للنص العالمي الذي لا يتطلب موافقة المؤلف أو ورثته، ثم   عمل معالجة له  حتى يتلاءم مع الموقع والبيئة التي يقدم بها  .
وأضاف «أحيانا  يقوم بعض المخرجين بتجهيز عدد من النصوص ثم  يكتشفون ان الفرقة قدمتها سابقا أو أنها لاتتلاءم مع عدد أعضاء الفرق، أو عدم ملائمة ميزانية الفرقة لتقديمها،  وجميعها أمور تعوق العمل في الفن علاوة على تحمل المخرج جميع المسؤوليات و الأمور الإدارية  


رنا رأفت