العدد 694 صدر بتاريخ 14ديسمبر2020
في الإطار الجمالي في فن المسرح لعبت التقنية الرقمية دورها الأبرز في خلق واقع جديد للتجربة الجمالية من خلال لا نهائية الإمكانات المتاحة في المعالجة الفنية للقيم الدرامية وبما البس العرض المسرحي بكامل أطره لبوس قدرة التأثير الفائق في إعادة تشكيل الوعي البشري من خلال الفعالية الفائقة لوسائط التعبير ومن تلك الوسائط كانت الإضاءة المسرحية التي انتقلت من مفاهيمها التقليدية في المعالجة ومحدودية إمكانياتها الى التجسيد الفائق والحضورية بمديات شاسعة لنقل القيم الدرامية وتصميمها في فضاء العرض المسرحي عبر خلق التركيبات المعقدة في الإنشاء البصري المحكم في التنفيذ والتجسيد لتلك القيم فما عادت مهمام الكشف والإظهار والتكوين والطابع السيكولوجي وتعيين مستويات الحضور هي الاشتغال المحوري والوحيد لمصمم الإضاءة فمع معطيات التقنية الرقمية أصبحت هنالك إمكانيات هائلة في بناء وتشكيل الفضاء الدرامي حسيا عبر التصميم المحكم للضوء الذي هو سحر المسرح ودونه ينطفئ المكان وتتلاشى قواه وأثره في إزاحة العالم الواقعي باتجاه تجربة عيش طقسي ينتظم عبرها فهم الذات لذاتيتها وموقعها من عالمها ومصيرها ومبدأها ومنتهاها فلا مسرح بلا ضوء والضوء في معطيات التقنية الرقمية أصبح منبعاً سحرياً لا متناهي الإمكانات فتطرح الإضاءة المسرحية البديلة مغايرة ثورية لتراث المعالجة الفنية واحتواء خطابات الدراما في بنية بصرية حضورية فائقة التحقق.
إن التجريد الرقمي الذي أعاد تشكيل منظوماتنا المفاهيمية للعالم مثلما هو قد اثر في خلق نمط الثقافة التي تمحي فيها فروق الواقعي والمصطنع لترجمة التفاعل الافتراضي والانغمار في عالم هو فائق الواقعية, كذلك هو عمل على إعادة تخليق الإطار الجمالي لفعالية الوعي الإنساني ذاته وتجسداته بالفنون الجميلة فانتفاء الفجوة ما بين الإرادة وبين التحقق في العالم الرقمي قد خلق حضورية فائقة الفعالية (Hyper activity) سواء كان ذلك الإطار الجمالي في فن التشكيل أو فن المسرح وهو ما انعكس على وسائط التعبير والمعالجة للفكرة الإبداعية وتجسيدها فنيا بوضعها في حيز التداول والتفاعل الجمالي. إن ذلك الحضور وبتلك المعطيات قد أزاح تراثا عالميا من التجارب الجمالية التي خاضها الوعي البشري وتشكل من خلالها لحساب معطيات التقنية الرقمية المعاصرة. ومع هذا المعطى التقني الهائل تغير المنظور في المعالجة الفنية من المنظور البشري المحدد بهاجس الكائن والممكن في التجسد إلى واقع الإمكانية الفائقة في التحقق للإرادة الإبداعية ومعالجة القيم الفنية ووصولها الى كامل مدياتها للتأثير ضمن التجربة الجمالية فما عاد الخط واللون والكتلة وسائر القيم التصميمية في المعالجة ضمن هاجس المبدع ولكن أصبح هاجسه هو الاختيار بين الكم اللامتناهي من الإمكانات المتاحة.
إن هذا الكتاب يعد جرأة ومغايرة ومخاطرة أشبه بمحاولة هدم المعبد ولم شظايا تعاليمه في بناء ثوري لا يمكن أن يوصف إلا بأنه تحريك للساكن وهرطقة جمالية تتيحها مشاعر الامتلاء بالقوة والقدرة للإنسان المعاصر, إنسان خالق بقوة التكنولوجيا لإرادته ومحقق بقدراتها مواضع ذاته حضوريا في الهنا والآن خارج محددات الطبيعة بمفهومها التقليدي حيث إن كل عالمه هو سيلات من الإشارات الاليكترونية التي تمثل امتدادا عصبيا لجهازه الذهني بالخلق والإنشاء بعد إن تلاشت الفجوة ما بين الواقعي والافتراض. فالتاريخ قد علمنا بحقائقه الحتمية إن كل إزاحة وتحريك تبدأ هرطقة فتكون ثورة وتنتهي واقعا جماليا جديدا يمتلىء بحقائقه ومعطياته كما في هرطقة (كوبرنيكوس) و (غاليلو غاليلي) و (مارتن لوثر) وهكذا هي الإضاءة المسرحية البديلة بمعطيات التقنية الرقمية كذلك هي تدشن واقعا جماليا مغايرا للتراث والمألوف وتترك بجمالياتها أثراً لإزاحةٍ بالغة في إستراتيجيات الذوق والتلقي الجمالي للعرض المسرحي.
اذ إنَّ عملية البرمجة العصبية التي يتعرض لها المدرك الحسي في خضم عملية التلقي والإدراك الحسي لمنظومات العرض المسرحي ، تعد من أهم مراحل التطور في التقانات الثقافية في تاريخ الفن المسرحي بما أتاحه من تعديلات جوهرية في آليات الإدراك الحسي وتشكيل المفاهيم للمدرك الحسي، ومن ثم كانت بأنه علينا إعادة قراءة شاملة لثقافة التخاطب وتشكيل المفاهيم، بما يتلائم مع المعطى التكنولوجي للعصر, لان التقنية الرقمية بدخولها للمسرح بشكل عام والتقنيات المسرحية بشكل خاص اصبحت حقلاً للدرس الجمالي، على مستوى البناء الجمالي للخبرة المتحققة، معرفياً ومفاهيمياً، وعلى مستوى البناء المادي لأنظمة العرض المسرحي, ليمتاز بالحيوية والتجدد بما أسهمت به التقنيات الرقمية في بنائه وتطوره بمستجدات من أبحاث وبرمجيات تعد الركائز المهمة للبناء الفكري الجمالي للمسرح المعاصر. إذ يمثل التفاعل ما بين المؤثرات الحسية وتطبيقات التقنية الرقمية حافزاً مهما للتقنيين المسرحيين لتقديم صيغ جديدة للتفاعل مع التقانة الرقمية وما تطرحه من إمكانيات جديدة ومؤثرة فضلا عن ما تمتلكه وتتيحه من إمكانات وتحديات تقانية جديدة ناتجة عن التصاعد المتسارع في تطور برمجيات الكمبيوتر للإضاءة الرقمية وما أفرزته من إمكانات في عملية التوظيف لهذه التقنية أثناء العقود الثلاثة الأخيرة للفن المسرحي. لذلك يمكن القول بعد هذا بان الكمبيوتر والبرمجيات من أبرز مظاهر الثورة الرقمية التي عملت على توسيع فعالية الخطاب الحسي للعرض المسرحي والموجه للمشاهد المسرحي بزيادة القدرة على مخاطبة جميع حواسه والتأثير بمدركاته العقلية وبما أن الكمبيوتر ومكوناته هو مكون أساسي لوسائط عِدّه, والتي كانت على مستوى عالي من الجودة والأهمية في تحقيق التكامل بين العلوم والفنون لذا فأنَّ بنية الكمبيوتر التقنية وسعت الإمكانيات المتاحة للمسرح التقليدي بإضافة قوة أضافية إلى المخرج ومصمم الإضاءة وكُتاب الدراما والكيفية التي تؤثر على المتلقي, وهذا ما دفع المصمم إلى إستعمال الأداء الذكي من خلال الكمبيوتر لجعل المؤثرات شيئاً سهلاً وممكنا من خلال استخدام التقنية الرقمية والتوظيف الجمالي لجهاز(الداته شوData Show Projector) كبديل ضوئي عن جهاز الإضاءة التقليدي في العرض المسرحي من خلال الإفادة من الأنظمة الرقمية وخاصة نظام الألوان الضوئي (RGB) الذي أتاح للمصمم التحكم في نسبة كل لون بمقدار يتراوح ما بين الصفر إلى 255 لون وان التغير في مقدار كل لون يتيح فرصة الحصول على أكثر من 16 مليون درجة لونية مختلفة وان السبب في هذا الكم الهائل من الألوان يعود إلى إن نظام الـ(RGB) هو نظام خاص للتصميم المرئي الذي تستعمله الأجهزة الرقمية القائمة على مبدأ الضوء فعمل المصمم على المزاوجة العلمية والفنية بين نظام الـ(RGB) اللوني الرقمي وجهاز الداته شو وأحد البرامج المختزنة بالكمبيوتر ليقوم بإنتاج جهاز بديل ضوئي وفر معالجات متعددة تُفرز عن طريق أي عرض مسرحي ومن أهم هذه المعالجات :
يحقق جهاز البديل الضوئي خلال عموم أي عرض مسرحي خصائص تقنية اتسمت بالمرونة العالية بالتصميم والقدرة على التعديل في الإنشاء الضوئي وكذلك سرعة إجراءات التنفيذ والتعديل وهو ما انعكس إيجاباً على العلاقة الإبداعية ما بين الرؤى الإبداعية للمصمم والرؤى الإبداعية
إن معالجة جهاز البديل الضوئي للإنشاء الضوئي وفي عموم مفردات العرض المسرحي إنما جرت باتجاه تأكيد الغايات الجمالية للفضاء المجرد حيث إن التقنية الرقمية بالبديل الضوئي تتيح كما هائلا من إمكانات التركيب المتعدد الوسائط للأشكال التفسيرية للثيمات الدرامية في ديناميكا الأحداث الدرامية.
لقد اشتغلت التقنية الرقمية بالبديل الضوئي على خلق معادلات حسية فائقة القدرة في المدرك الذهني للمتلقي عبر سيل من التمثلات المتحركة والمتحولة بحيث يتخذ خطاب العرض المسرحي في مفردات العينة المنتقاة نظاما مركبا من الأنساق التأثيرية الحسية والإدراكية والتعبيرية في تمثل قيم الخطاب.
إن إجراء المعالجات التقنية على مفردات العرض بالبديل الضوئي كان قد افرز الخصائص التصميمية للبديل الضوئي وأهمها هو المرونة في إجراءات التصميم والتعديل والتنفيذ وفق برمجيات مخزونة مسبقا في الكمبيوتر كما وقد ساعد التطبيق المخزون في الكمبيوتر مسبقا بوصفه محددا زمانياً بحضوره, وبحركته المكانية قد أصبح عاملا أساسياً في ضبط الإيقاع الأدائي للممثل وضبط التحولات فيه. كما يبدو جليا في الإجراءات المنفذة على مفردات عينة البحث المنتقاة.
بمقارنة معالجات مفردات العرض الرقمي الذي تم انتقاءه ما بين جهاز الإضاءة التقليدي وجهاز البديل الضوئي, نجد إن البديل الضوئي الأكثر أماناً في المسرح بسبب انعدام تسليكات الكهرباء وبالتالي عدم حصول تماس كهربائي هذا من جانب ومن جانب آخر اختيار الزاوية لا تؤثر على الجهاز البديل ولا على السلك الوحيد الموصل به لتجهيزه بالكهرباء كون الإضاءة المستخدمة فيه باردة وبالتالي فرصة انعدام التماس الكهربائي تكاد تكون معدومة بينما في أجهزة الإضاءة التقليدية إضافة إلى تعدد التسليكات الكهربائية وحصول التماس الكهربائي والذي يؤدي في اغلب الأحيان إلى الحريق كان هناك تثبيت الجهاز التقليدي بزاوية 90° في بعض الأحيان وبسبب درجة الحرارة العالية المنبعثة من المصباح والتي بطبيعة الموجات الحرارية ترتفع إلى الأعلى بحيث تضر بأجزاء الجهاز مما يؤدي إلى ذوبان أجزاء الجهاز أو الأسلاك الكهربائية وبالتالي حصول حريق.
لذلك فعملية المزاوجة بين العلم والفن أعطت دعماً إضافياً للعملية الفنية فأصبح فن المسرح تحت ظل التكنولوجيا من الفنون التي تأثرت بشكل خاص بالتطورات التقنية الحديثة ولاسيما على المستوى التقني مما ساعد المخرج والمصمم على إمتلاك القدرة بالتنوع بمجال العمل وإضافة حلول متعددة لأي مشكلة تقنية ومما لا شك فيه إن هذا التطور أدى بشكل مباشر إلى خلق آفاق جديدة أمام المخرجين والمصممين والمؤلفين لإكتشاف سبل وأدوات وإمكانيات جديدة في التجسيد الإبداعي والخلق الفني من أجل تطوير العرض المسرحي وبلورة لرؤى جديدة في توليد الشكل التقني للمسرح المعاصر وتحديد ما ينتج عنها من تصاميم رقمية على مستوى جميع عناصر العرض المسرحي, والتحول نحو أمتلاك وسائل أكثر اتساعا في التعبير والإنتاج من ذي قبل