أزمة الدراما في المسرح بعد الدرامي (2)

أزمة الدراما  في المسرح بعد الدرامي (2)

العدد 681 صدر بتاريخ 14سبتمبر2020

مسرح مفعم بالحيوية
يقتبس جان فرنسوا ليوتار مثالا جميلا من مسرح برلينر، يصبح فيه التمثيل مشكلة: «حين أعاني من ألم في الأسنان، وأثبت قبضتي، وأظافري تحفر في يدي، هما توظيفان لليبيدو . فهل نقول إن فعل راحة يدي يمثل الشغف بأسناني؟ وهل توجد إمكانية لكي نقلب أحدهما والآخر؟ يتحدث ليوتار عن فكرة المسرح المتغيرة التي يجب أن نفترضها حتى نتمكن من فهم المسرح من وراء الدراما . ويسميه « مسرح مفعم بالحيوية» . ويمكن أن يكون هذا مسرحا بلا معنى بل له قوة وكثافة وتأثيرات حاضرة. وإذا لم نلاحظ الحيوية، مثلا، في جوقة اينار شليف وتحركها في تجاذب تجاه الجمهور، ونبحث بدلا من ذلك عن العلامات والتمثيل، فسوف نسجن ألمشهد في نموذج المحاكاة والحبكة وبالتالي الدراما . وترتبط هذه الجوقة بهذا الواقع ليس باعتباره تمثيلا، ولكن مثل قبضة اليد، قبضة من جراء ألم الأسنان . بالطبع، يمكن أن يجد ليوتار فعلا الصور والمفاهيم في أعمال أرتو التي توضح ذلك، ففي المسرح، من الممكن أن تشير الإيماءات والرسوم التوضيحية والترتيبات الي مكان آخر بطرق مختلفة باستخدام العلامات الأيقونة والاشارية والرمزية . فهي تلمح أو تشير اليه وفي نفس الوقت تقدم نفسها كتأثير للتدفق، أو الأعصاب أو الغضب. ويمكن أن يكون المسرح المفعم بالحيوية مسرحا ما وراء التمثيل – فالمعنى بالطبع، ليس بدون تمثيل، ولكن لا يحكمه المنطق. وبالنسبة للمسرح بعد الدرامي، يجب علينا أن نفترض نوعا من العلامات التي يسميها أرتو في نهاية مقال «المسرح والثقافة« (في كتابه « المسرح وقرينه») بدعوته إلى أن نكون مثل الضحايا المحروقين علي المحك، وهم يشيرون من خلال اللهب . ولا يجب علينا أن نتعامل مع النغمات المأساوية لهذه الصور من أحل الحصول علي فكرة حاسمة عن المسرح الجديد : وهي فكرة إطلاق الإشارات والتبلور من الإيماءات الصوتية والجسدية والداخلية . وهذه الفكرة أكثر توافقا مع فكرة أدورنو عن المحاكاة – حيث يفهمها باعتبارها شيء قبل رمزي وعاطفي يشبه شيئا ما، بمعنى «المحاكاتية mimetisme”، بدلا من المحاكاة بالمعني الضيق للتقليد .
 تتضمن إشارة أرتو من خلال اللهب، ومحاكاة أدورنو صدمة وألم مكونين للمسرح . ولم تمح صورة ليوتار للمسرح المفعم بالحيوية والتكثيف هذا العنصر . ويؤكد أرتو وأدورنو أيضا، رغم ذلك، أن هذا التشنج ينظم نفسه في علامة،،ان التمثيل، كما يقول أدورنو، يحقق من خلال عملية العقلانية الجمالية والبناء . فهو يكتسب منطقه، بقدر ما يكون ماديا، من خلال التنظيم الموسيقي . ولن يمثل المنطقي (للحبكة علي سبيل المثال) المعطى بشكل سابق علي العلامات المسرحية. ويبدو أن مقولة أدورنو حول هذه الفكرة تذكرنا بمثال ليوتار :
 لم يعد الفن صورة طبق الأصل من الشيء بل انه موضـوع الإدراك . وإلا فانه يحط من قدره حين يصبح نسخة مكررة من شيء ما . (وقد وجه هوسرل نقدا مقنعا للازدواجيـة في مجال المعرفة الاستطرادية ) . وما يحدث فعلا هو أن الفن يقدم إيماءة تشبه الواقع للتراجــع بعنــف لأنه يلامــس ذلك ذلك الواقع .
سوف يتضح في الاكتشاف التالي أن مصطلح «المسرح بعد الدرامي» يرتبط بشكل حميم بالمسرح المفعم بالحيوية. ولكن من الأفضل للأخير لكي لا يغيب عن بالنا الخلاف المستمر مع تقاليد المسرح والخطاب حول المسرح وتداخل الإيماءة المسرحية مع ممارسات التمثيل واجراءاته .
الدراما والديالكتيك: الدراما والتاريخ والمعنى
في الجماليات الكلاسيكية، كان ديالكتيك شكل الدراما وتداعياته الفلسفية محل اهتمام مركزي . وبالتالي، فان تأمل ما يتبقى عندما يتم التخلي عن الدراما فمن الأفضل أن نبدأه هنا . لقد اعتبرت الدراما والتراجيديا الشكل الأعلى أو أحد أعلى أشكال تجلي الروح . وقد أخذت الدراما علي عاتقها دورا مميزا في تقنين الفنون بسبب الجوهر الديالكتيكي للنوع ( الحوار والصراع والحل ودرجة التجريد العالية الضرورية للشكل الدرامي وتوضيح الذات في حالة الصراع. وباعتبارها شكلا فنيا يعنى بالمعالجة، فإنها تتميز، حتى الآن، بالحركة الجدلية للاغتراب والاندماج. ولذل ينسب (سوندي) الجدلي إلى نوع الدراما والتراجيديا. وزعم المنظرون الماركسيون في بعض الأحيان أن الدراما تجسد جدلية التاريخ . ولجا المؤرخون مرارا وتكرارا إلى استعارة الدراما والتراجيديا والكوميديا لوصف الإحساس بالوحدة الداخلية للعمليات التاريخية . وتم تعزيز هذا الاتجاه من خلال العنصر الموضوعي للمسرحانية في التاريخ نفسه . وبالتالي، وعلاوة علي كل شيء، تم تصور الثورة الفرنسية بمداخلها ومخارجها الكبيرة وإيماءاتها وخطبها، مرارا وتكرارا، علي أنها دراما ذات صراع وحل وأدوار بطولية ومتفرجين . ولعرض التاريخ علي أنه دراما، رغم ذلك، فلا مفر من تقديم التكنولوجيا والرسم باتجاه منظور له معنى بشكل نهائي – المصالحة مع الجماليات المثالية والتقدم التاريخي في علم التأريخ الماركسي . فالدراما تعد الديالكتيك . وقد ابتعد بعض العلماء بهذا المعنى الجمالي للتاريخ لدرجة أنهم ذهبوا الي القول بأن التاريخ نفسه له جمال درامي موضوعي . وبالعكس، تجنب مؤلفون مثل صامويل بيكيت وهاينر موللر الشكل الدرامي ليس بسبب تكنولوجيا التاريخ الضمنية .
 وكثيرا ما لوحظ التشابك الضيق للدرما والديلكتيك، وبشكل عام الدراما والتجريد . فالتجريد ملازم للدراما . وإدراكا لذلك، وضعه جوته وشيللر الفرق بين الدراما والملحمة في مقدمة تأملاتهما لمسألة الاختيار الصحيح للموضوع ( الملائم لشكل الدراما) . فما الموضوع المناسب للسماح بأن يتألق تماسك الكينونة المفسرة، بدون الزخارف المفرطة في المعلومات الواقعية التي تعتم علي رؤية البنية المجردة للمصير والصدام التراجيدي والديالكتيك في الصراع الدرامي والمصالحة ؟ تؤكد لفتة الكاتب الملحمي علي التفاصيل الإضافية بدقة ( التي تظهر في الدراما كمضيعة شاقة للوقت) من أجل إثارة الشعور بالوفرة والمصداقية . وبالمقارنة، تعتمد الدراما علي انجاز تجريدي يرسم عالما نموذجيا تتجلى فيه وفرة الواقع بشكل عام، بل ان غزارة السلوك البشري في حالة التجريب هي التي تصبح واضحة . فقبل اختراع بريخت لمسرح عصر العلم، مال الشكل الدرامي التجريدي نحو المفاهيمي ونحو التكثيف المقلص . وهذا أيضا هو أساس التشابه الذي نلاحظه في الرواية القصيرة والمسرحية .
أرسطو: مفهوم قابلية الدراسة (الشمول)
يتصور كتاب أرسطو «فن الشعر« الجمال وترتيب التراجيديا علي أساس المنطق. ولذلك فان القاعدة أن تكون التراجيديا وحدة واحدة لها بداية ووسط ونهاية، إلى جانب مطلب أن الحجم ( الامتداد الزمني ) يجب أن يكون كافيا للوصول الي نقطة التحول ( التغير المفاجئ في الحبكة) وصولا إلى الكارثة، ويتم تصور ذلك وفقا لنموذج المنطق . فالدراما من وجهة نظر كتاب “ فن الشعر” هي بنية تقدم ترتيبا منطقيا ( وتحديدا ترتيبا درامي) للفوضى المحيرة ووفرة الوجود . هذا النظام الداخلي، مدعوما بالوحدات الشهيرة، يغلق بشكل تأويلي الشكل ذو المعنى الذي يمثله الشكل الفني للتراجيديا، ويؤسسه داخليا من الواقع الخارجي، في نفس الوقت، كوحدة كاملة ومتصلة . فتكامل الحبكة، وهي خيال تنظيري، تجد المبدأ العقلاني لكمالها، الذي يُفهم من خلاله الجمال داخليا اعتباره هيمنة التقدم الزمني . فالدراما تعني تدفق الزمن المسيطر عليه والقابل للحصر . مثلما يمكن أن تتضح نقطة التحول كتصنيف منطقي فعلا، ولحظة الانكشاف Anagnorsis، هي فكرة عميقة أخرى في كتاب فن الشعر، وهي تحديدا التأثير العاطفي للإدراك، وهي موتيفة تتعلق بالإدراك . ولكن بطريقة خاصة : من أجل صدمة الانكشاف (“انت أخي يا أورست!“، “أنا ابن لويس ذاته وقاتله“) تقدم في التراجيديا بوضوح تزامن البصيرة مع العجز عند فقدان المعنى . إذ يلقي الاعتراف المؤلم الضوء علي كل الأحداث، وفي نفس الوقت، وفي نفس يطرحه علي أنه لغز غير قابل للحل: وفقا لأي قواعد نشأت هذه الكوكبة المضيئة الآن؟ وبالتالي فان لحظة الاعتراف هي بشكل ساخر لحظة انقطاع، مقاطعة الاعتراف. ويظل هذا ضمنيا في كتاب فن الشعر، لأن أرسطو يهتم بالفلسفي في التراجيديا . وينظر إلى التمثيل باعتباره نوعا من «التعلم«، التعلم الذي يصبح أكثر متعة من خلال الاستمتاع بادراك موضوع التمثيل – وهي متعة مطلوبة لكل الجماهير، وليست مطلوبة من الفيلسوف .
 الفهم ممتع للغاية، ليس فقط للفلاسفة، بل للآخرين أيضا بنفس
 الطريقة، علي الرغم من قدرتهم المحدودة علي ذلك . وهذا هو السبب الذي يجعل الناس يستمتعون برؤية الصور، فما يحـدث هو أنهم عندما ينظرون إليها يفهمون كل شيء ويحددونه (أي أن هذا الشيء هو كذا وكذا ) .
فالتراجيديا تبدو وكأنها نظام منطقي نظير. ومعيار قابليتها للتحديد، يستخدم أيضا كمعالجة فكرية لا يشوبها الاضطراب، فكتاب فن الشعر يجادل بأنه لا يمكن التفكير في الجمال بدون حجم معين (الامتداد) :
 “لهذا السبب، لا يمكن لأي شيء أن يكون جميلا اذا كان صغيرا للغاية، لأن الملاحظة تصبح مشوشة كلما اقتـرب من التلاشـي أو صار كبيرا للغاية (لأن الملاحظة عندئذ لن تكون في وقــت واحد، ويلاحظ المشاهدون أن معنى الوحدة والشموليـة مفقــود من مشاهدتهم، أي أن هناك مسافة ألف ميل). لذلك في حالـة الأشياء المادية والكائنات الحية، فيجب أن يكون لهم حجم معين اذ يجب أن يكون كذلك بحيث يمكن استيعابه بسهولة في رؤيــة واحدة (eusynopton)، ولذلك في حالة الحبكات: يجب أن يكون لها طول معين، ويجب أن تكـون كذلك حتى يمكــن أن نحتفظ بها في الذاكرة . “
الدراما نموذج . ويجب أن يخضع المُدرك لقوانين الفهم والاحتفاظ في الذاكرة . فأولوية الرسم ( المبدأ العقلاني) علي اللون ( الحواس)، التي أصبحت مهمة لاحقا في نظرية الرسم، مطلوبة للمقارنة هنا، مع ترتيب بنية الحكاية – العقلانية المحلقة فوق كل شيء : إذا استخدم شخص ما الألوان الجميلة بشكل عشوائي فسوف يقدم متعة أقل مما صوره بالأبيض والأسود . والتراجيديا طبقا لأرسطو، وبسبب بنيتها الدرامية المنطقية يمكنها أن تعمل وحدها دون تقديم علي خشبة المسرح، وأنها لن تحتاج المسرح لتطوير تأثيرها الكامل، وهذه هي الخلاصة المنطقية الوحيدة النتيجة القصوى لهذا المنطق . فالمسرح نفسه، وهو العرض المرئي علي خشبة المسرح هو بالفعل بالنسبة لأرسطو هو عالم الأحداث العرضية – ولاسيما الزائلة والعابرة، وهو أيضا بشكل متزايد مكان الإيهام والخداع والاحتيال . علي النقيض من ذلك، تُنسب العقلانية الدرامية منذ أرسطو مع تقدم المنطق من وراء الإيهام الخادع . إذ يكشف فنها الدرامي القوانين من وراء المظاهر . فلم يعتبر أرسطو التراجيديا أكثر فلسفية من علم التاريخ : فهي تُظهر منطقا خفيا مخالفا لذلك طبقا لضرورة مفاهيمية واحتمال يمكن فهمه تحليليا . ومع اختفاء الاعتقاد إمكانية مثل هذه « النموذجية « – المنفصلة بشكل صارم والقابلة للانفصال عن الواقع اليومي – اختفت، وظهر واقع العملية المسرحية أو عالميتها في المقدمة . فقد ذابت الحدود بين العالم والنموذج والتي عززت الشعور بالأمن . وبذلك انهار الأساس الجوهري للمسرح الدرامي والذي كان بديهيا بالنسبة للجداليات الغربية، بمعنى انهيار إجمالي العقلانية .
 تورط الدراما والمنطق، ثم تورط الدراما والديالكتيك يهيمن علي التقاليد الأرسطية الأوروبية – التي اتضح أنها حية فعلا في دراما بريخت اللاأرسطية . إذ يتم تصور الجميل وفقا للنموذج المنطقي باعتباره متغيره . ولحظة الذروة في هذه الجماليات هي جماليات هيجل . ففي ظل الصياغة العامة للمثالي الجميل the beautiful ideal بأنه المظهر الحسي للفكرة تتجلى نظرية معقدة في تحقق الروح في المادة الفنية التي يتم تلقيها، وصولا إلى اللغة الشاعرية . وفي نفس الوقت يمكن أن يتضح من جماليات هيجل لماذا كان مثال الدراما قويا جدا : كان من الممكن أن تطور هذه الفعالية بعيدة المدى إن لم تكن معدة بشكل أكثر عمقا في التناقضات بدلا من اختزالها إلى نتيجة تنتمي إلى الفن الدرامي، بمعنى ما يمكن أن يقترحه المخطط الدرامي . ولذلك سأرسم المسار المعقد لنظرية هيجل التأملية في بعض جوانبها بالاعتماد علي تأملات كريستوف مينكه .
هيجل (1): استبعاد الحقيقي:
الدراما كنوع ديالكتيكي أساسي هي في نفس الوقت مكان التراجيدي الرائع . وقد نشك أن يكون المسرح بعد الدراما بدون التراجيدي . ويتغذى هذا التخمين من وضع هيجل للتراجيديا في ما قبل الحداثة . تماما كما ينتهي الفن، وفقا لهيجل، عندما تكون الروح مستقرة مع نفسها في عالم التجريد المفاهيمي الكامل ولم تعد في حاجة الي التجسد الحسي، يوجد أيضا الماضي التراجيدي، الذي ربطه هيجل في المقابل بالشعر الدرامي . ففي الفن، الشكل الأسمى والأجمل ليسا متشابهين . فقد وصل مشاركة المثالي والحسي لي ذروتها في النحت الكلاسيكي لتماثيل الإلهة، والذي يمكن أن يقول عنه هيجل ( بشغف ولكن بمنطق جدلي صارم ) : لا شيء يمكن أن يكون هناك شيء أجمل منه، أو يصبح أجمل منه . والسبب الذي قدمه هيجل فيما يتعلق بسبب بقاء النحت الكلاسيكي غير ملائم ويفرض المزيد من تقدم الفن والروح، هو افتقاره إلى الاستيعاب الذاتي والرسوم المتحركة (التي يمكن العثور عليها فيما بعد في شكل الفن الرومانسي المتمثل في صورة العذراء مريم) .ومن هنا كانت الملاحظة لمعروفة عن النحت القديم والذي تم صبغه بألوان الحداد. لأنه فيما بعد العصر القديم، يجب التغلب علي ذروة الجمال، والاندماج المثالي بين الحسي والروحاني، من أجل تقدم الروح إلى التجريد الفكري التقدمي . وهذا يؤدي إلى إبداعات أعلى من أي وقت مضى ولكنها لم تعد جميلة حتى يتم الوصول إلى الروح المطلقة، التي يجب أن يتم التفكير فيها بعيدا عن أي شكل وأي هيئة .
 بينما في النحت الكلاسيكي، أي الفن البصري، فقد تم التوصل الي الجمال المطلق. ويعتبر هيجل مسرحي سوفوكليس “أنتيجون” بالمقارنة أكثر الأعمال الفنية قناعة في كل من العالمين القديم والجديد – ولكن من ناحية معينة فقط : وهي تحديدا التمثيل المثالي للانقسام والتوفيق بين الشكل الموضوعي والشكل الذاتي للروح المثالية. والتراجيديا الكلاسيكية باعتبارها إبداع للصراع الأخلاقي، تمضي إلى ما وراء مجرد الجمال التام، حتى في مجال الشكل الفني الكلاسيكي . وهي أكثر من جميلة، فعلا وفي طريقها فعلا الي المفهوم البحت والذاتية . ولذلك يقترح (مينكه ) بين تمثيل هيجل لتفكك لشكل الفني الكلاسيكي مع نظرية نهاية الفن في الحداثة بطريقة تجعل مفهوم هذا الحل هو فقط معنى هذه النظرية . فالدراما بالنسبة لهيجل لم تعد في طريقها الي أن تكون فنا جميلا، حتى في شكلها اليوناني . ففي الدراما تبدأ نهاية الفن . وهكذا وفقا لهذا النوع من المنطق غير الرسمي لخطاب هيجل الغائي – علي الأقل منذ ظهور كتابه «فينومينولوجيا الروح« – نصل الي مكانة هامشية للدراما داخل مجال الجميل، بقدر ما تكون داخل مجال جميل، فهي تجعل الجمال نقسه موضع سؤال فيما يتعلق بقدرته علي التوفيق . واذا كان هيجل يفهم الجمال الفني باعتباره توفيق بين التعارضات متعدد الطبقات، ولاسيما التوفيق بين الجمال والنظام الأخلاقي، عندئذ يمكننا أن نؤكد بالطبع أن هيجل، في داخل مصطلح الدراما، يؤكد علي تلك السمات الجمالية التي تجعل هذه المصالحة تفشل . فالدراما ليست ببساطة مجر مظهر لا يثير إشكالية ، ولكنها في نفس الوقت الأزمة الواضحة في الأخلاق الجميلة.
 وفي فلسفة الدراما نجد، علي ذروة الصياغة الكلاسيكية، وجهين رائعين، فمن ناحية، تأكيد نجاح المصالحة بين الجمال والأخلاق – متعة الإحساس وروح المضمون (وفقا لشيللر) – ولكن من الناحية الأخرى، المظهر المتضارب لانقسامهما . ودعونا نلقي نظرة فاحصة علي هذا التمزق داخل التراجيديا . فبالمقارنة مع الملحمي، يعتبر هيجل التراجيديا لغة أسمى . وفي الشكل الملحمي، فان الاختلاف المجرد للقدر والحتمية ( المصير Moira)، والمغني المجهول يظهران البطل بطريقه تجعله وهو في أوج قوته وجماله، يشعر أن حياته محطمة ويتوقع للأسف موتا مبكرا . فمشروطية غزارة الفعل الملحمي لا تعرف الضرورة الجدلية . وبالتالي، يجب استبدال صوت الراوي الملحمي، الذي يبقى خارج البطل، بالبنية الدرامية الفعلية للقدر – وفي نفس الحركة – مع التعبير الذاتي للإنسان (من خلال تجسيد المشهد). ويوضح مينكه أننا إذا قرأنا حجة هيجل بعناية في التراجيديا، فان غرابة المصير التراجيدي (المتأصل بالفعل في الملحمة) باعتباره قوة غير محددة في ذاتها، وحتمية باردة، لا تشير فقط إلى القوة التي تحطم الجمال، بل تشير أيضا الي أن المصالحة الدرامية نفسها تحمل بالفعل نواة الفشل بداخلها . وتحديدا بهذه الطريقة : تشكل تجربة القدر، في فهم هيجل، نواة الدراما . ومع ذلك، هذه تجربة أخلاقية: شيء ما يستعص علي هيمنة الانتهاك، وإلقاء المشروطية في اللعب الدرامي – وهناك يوجد لعب الروح . وهذا قاتل للمفهوم الأخلاقي. هذه المشروطية أو التعددية، التي تظهر في الإلهي بقدر ما تظهر في البشري، تدمر أي إمكانية للمصالحة النهائية. ما يميز الدرامي هو التمزق الذي يحاول إصلاحه بشكل ضئيل من أجل الحفاظ علي حقيقة المصالحة من خلال أسلوب يفرغ دراما الواقع المادي . فالدراما كفن جميل تلقي بكل شيء جانبا وهو ما لا يتوافق مع في المظهر مع المفهوم الحقيقي ومن خلال هذا التطهير فقط يظهر المثالي.
 ينتج هذا التطهير في الشكل الدرامي، إلى جانب المظهر الخارجي للمصالحة بدايات تدمير هذا المظهر. لأن ما يحفز الاستبعاد الضروري داخليا للواقعي، والذي يعرض المطالبة بالتوسيط الشامل في الوقت نفسه، ليس شيئا أقل من مبدأ الدراما نفسه. انه ذلك التجريد الجدلي هو الذي يجعل الدراما ممكنة كشكل في المقام الأول، مع أنه في نفس الوقت، يزيلها من عالم المصالحة، وهي مصالحة تحدث من خلال اختراق المادة الحسية . وفي شكل التجربة المتناقضة بشكل غير متناغم مع المشكلة الأخلاقية والمادية البغيضة، هناك بالفعل سبات في عمق المسرح الدرامي، تفتح تلك التوترات أزمته وحلها في النهاية إمكانية وجود نموذج غير درامي. وإذا كان هناك أي شيء كلاسيكي يفتقر إليه المثالي، فهو إمكانية قبول ما هو غير نقي، ثم الغريب علي المعنى/ الحس. يخلص مينكه، بشكل واضح ومقنع، بمساعدة هيجل، إلى أنه يمكن اعتبار الحداثة فعلا عالما يتجاوز النقص المادي الجميل ... والاضطرار إلى استبعاد كل النقص . فما وراء جماليات التوسيط بنموذجه المركزي في الدراما، تصبح الحداثة (أو ما بعد الحداثة) قابلة للتفكير – بالنسبة للمسرح أيضا – ولا تستبعد التعددية والاختلاف، ولكنها تتسامح معهما بدلا من ذلك .
 منذ عصور ما بعد الكلاسيكية وحتى العصر الحديث، مر المسرح بسلسلة من التحولات التي تؤكد علي الحق في المتباين والجزئي والعبثي والقبيح في مقابل افتراضات الوحدة والكمال والمصالحة والمعنى . ودمج المسرح في الشكل والمضمون، بشكل متزايد، كل ذلك الذي لم يكن يريد أن يتحمله من قبل – كل ما هو مليء بالاشمئزاز . كما أن إعادة التفكير في الغموض الداخلي للتقاليد الداخلية هو نفسه يوضح، مع ذلك، أن مسرحا كلاسيكي آخر كان موجودا بالفعل في الاستجواب الفلسفي الذي يخصه، وتحديدا باعتباره إمكانية خفية للتمزق في إطار وظيفة المصالحة الملطخة الى أقصى حد . وبالتالي، فان المسرح بعد الدرامي، مرة أخرى وبالتأكيد، لا يعني مسرحا موجودا فيما وراء الدراما، ودون أي ارتباط بها . بل يجب أن يفهم باعتباره يتكشف ويزدهر من إمكانيات التفكك والانسلاخ والظهور داخل الدراما نفسها . وقد كانت هذه الفرضية موجودة، علي الرغم من أنه لا يكاد يفك شفرتها في جماليات المسرح الدرامي ؛ ولكن ان جاز التعبير، باعتبارها تيار تحت السطح الناطق للديالكتيك الرسمي .
هيجل (2): الأداء
بالنسبة لهيجل، كان من الضروري ( كما هو الحال بالنسبة لأرسطو) وليس فقط أمرا تصادفيا في الدراما أن الأشخاص كانوا يجسدون بواسطة أناس حقيقيون بأجسامهم المادية وإيماءاتهم . وبالنسبة له هناك انعكاس أدائي ذاتي في الدراما، التي وفقا لمينكه، يمكن أن تظهر نقاطا في نفس اتجاه الصدع الكامن في الفنون الجميلة بسبب الافتقار إلى المصالحة . ومن خلال تحقيق الفهم، لم يعد الأفراد يتلقون من صوت واحد للراوي أو المغني، ولكن من خلال تعدد الأصوات الضروري، يتلقون تبريرا مستقلا من داخل أنفسهم بحيث يصبح من المستحيل أن نجعل حقهم الفردي نسبيا لصالح النتيجة الديلكتيكية . علاوة علي ذلك، يدرك الممثلون، الذين يعتبرهم هيجل تماثيل يمكن تحريكهم، ويقيمون علاقات فيما بينهم، يدركون الإزاحة التي تثير الفضيحة لمثالية هيجل الموضوعية بقدر ما في الدراما من بشر تجريبيين يساعدون المثال الروحاني، والجمال الفني (الأبطال الدراميون)، لكي يصبحوا حقيقة، ويطورون أداء ساخرا واعيا . بعبارة أخرى، ما ينتج (بالنسبة لهيجل) هو ظاهرة قابلة للتأمل بأن الخاص وما قبل المفاهيمي – المؤدي الفرد الحقيقي – يعلو علي المحتوى الأخلاقي . والأخيرة، وهي الروح، تعتمد هنا علي مجرد الانجاز التمثيلي للمؤدي بدلا من فرض قوانينه علي الخاص . ويعلق مينيكه بقوله، « بدلا من كونه مجرد أداة تختفي في دورها، يعايش الممثل تبعية مقلوبة بين الجمال، أو بالأحرى الأخلاقي، والذاتية. فالتجربة الأساسية للممثل هي تقديم الملائم أخلاقيا من خلال الأفراد .
 وبالتالي فان شخصية الأداء الدرامي الفعال تفتح توترا بين المصنوع والصنع، والتي تظهر في الأداء بطريقة تجعل الأشخاص الفعليين (الممثلين) يصممون الشخصيات وأقنعة الأبطال وعدم تصويرهم في شكل سرد في الكلام الفعلي للممثلين أنفسهم . ولهذا السبب، يمكن أن يحدث كشف لهذا، في رأي هيجل، علاقة معكوسة بين الذاتية والمضمون الأخلاقي الموضوعي، وتحديدا، عندما تخرج الخوارق الكوميدية الممثلين عن الشخصية ويؤدون باستخدام القناع . فهيجل يرى بحدة كبيرة أن خصوصية المسرح هي أن يقدم وحدة الواقع الروحي والتنفيذ المادي، علي أنه نوع من النفاق : فالبطل الذي يظهر أمام المتفرجين ينقسم الي ممثل وقناع، والى شخص أثناء اللعب وشخص في الحياة الفعلية . وهذا ملحوظ بشكل مخادع للغاية في الخوارق الكوميدية حيث تعمل الذات في لحظة ما من داخل القناع وفي اللحظة التالية تظهر بدونه في شكلها العادي . فاللعبة المسرحية تقدم عموما شيئا غير متصورا أساسا لفلسفة الروح : ذات المؤدي الموضوعية منقوصة الجوهر في ذاتها ومن ذاتها التي تنتج العلامات فنيا، هذه الأنا الفردية التصادفية تعايش ذاتها باعتبارها مانحة ومؤسسة المحتوى الأساسي والأخلاقي، أو النماذج التي توحد فعلا الجميل الأخلاقي : محاكاة جوهرية العالم واضحة في الذات . والذات التي تظهر هنا في مغزاها كشيء فعلي و تلعب بالقناع الذي ارتدته ذات يوم لكي تمثل دورها .
 في حقيقة المسرح هذه يجب أن يرى هيجل تفككا عاما في أشكال الجوهر ككل في استقلالها . وبالتالي يجب أن يؤدي هذا الميل إلى التفكك منطقيا، في إطار تاريخ الروح، إلي ظهور التجريد والوعي الديالكتيكي للتفكير العقلاني، وتحديدا من الدراما التراجيدية والكوميدية إلى الفلسفة اليونانية . فالدراما بالضرورة موجودة علي هامش الفن، علي الحدود التي تفصل المثالي في الفن، والمظهر الحسي للفكرة، و التجريد الفلسفي عديم الشكل علي نحو ما . ومن المنطقي أن يربط مينكه هذا التوتر الداخلي، وعدم اكتمال الدراما، مع التسامي الرومانتيكي في الشعر . من المنطقي أن يفهم نظرية هيجل في الدراما كاستعارة لمفهوم الفن الذي يتضمن بالفعل موتيفات الجدل داخلها والتي تحول المفهوم الرسمي للمثالي الذي يعد مظهرا حسيا للفكرة إلى شبح غير قابل للتحقيق . وبالتالي تبدو نهاية الفن أقل كأطروحة تاريخية وفلسفية أكثر من كونها أطروحة لنهاية الفكرة الكلاسيكية في الفن، ونهاية الفن داخل الفن والتي بدأت فعلا . ومن منظور التطورات الجديدة في الفن وأشكال المسرح، التي تسعى إلى الابتعاد عن الجشطالت كنزعة كلية، والمحاكاة والنموذج، يثيرنا تقديم هيجل للتطورات القديمة باعتبارها نموذج لتفكك المفهوم الدرامي في المسرح .
.................................................................................
هذه المقالة تمثل الفصل الثاني من كتاب «هانز ثيز –ليمان» (المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater) الصادر عن روتليدج عام 2006 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح