صقل الموهبة بالدراسة .. روشتات مجربة من أهل الحرفة لهواة الفن

صقل الموهبة بالدراسة .. روشتات مجربة من أهل الحرفة لهواة الفن

العدد 677 صدر بتاريخ 17أغسطس2020

في مثل هذا التوقيت من كل عام تبدأ استعدادات أكاديمية الفنون بكل معاهدها، وكذلك الأقسام المتخصصة في المسرح بالكليات والجامعات المختلفة لاستقبال الوافدين الجدد، الحالمين بالالتحاق بها وبتنمية مهاراتهم وصقل مواهبهم كبداية لطريق الاندماج في سوق العمل الفني، في مجالاته  المختلفة من تمثيل وإخراج وديكور ونقد وغيرها من التخصصات. ومع هذا يبرز التساؤل المحير والمثير للجدل دائما: ما مدى الاستفادة التي يحققها الطلاب من الالتحاق بالدراسة العلمية؟ وهل تكفي الموهبة وحدها لصنع فنان متميز؟ وإذا كانت لها أهمية كبرى فلماذا برز نجوم كبار لم يلتحقوا أو لم  يتموا دراستهم بالمعاهد والأقسام المتخصصة؟ ولأن الأعداد التي يتم قبولها بالمعاهد قليلة جدا, فما هي فرص صقل الموهبة وتنميتها وتطوير القدرات بالنسبة لمن فاتهم قطار الالتحاق بالعهد لظروف تخطي السن أو ارتفاع أسعار التعليم الموازي بها؟ عدة تساؤلات مهمة في هذا التوقيت نبحث لها عن إجابات بين نخبة من المسرحيين المتخصصين والأكاديميين.
في البداية يحدثنا المخرج والناقد د. عمرو دوارة موضحا دلالة بعض المصطلحات قائلا: بداية أود أن أوضح أن كلمة «الموهبة» وبرغم من وضوح دلالاتها إلا أنه يصعب تحديدها أو تقديرها حيث لا يوجد لها معيار أو مقياس ثابت، وذلك ببساطة لأنها نتيجة تضافر عدة عناصر أو عوامل يصعب فصلها عن بعضها البعض، فهي نتيجة عدة مزايا أو هبات من الله تؤثر وتتأثر بالأبعاد الثلاث لكل إنسان (المادي والاجتماعي والنفسي)، ومن عناصرها المتداخلة: القدرة على الفهم والاستيعاب، عشق القراءة والمتابعة للفعاليات الفنية والأدبية، القدرة على التحليل والاستفادة من التجارب السابقة، والتعامل مع المواقف المختلفة، والقدرة على الحفظ سواء للنصوص أو للصور التي تمر أمام العين أو الأصوات التي تلتقطها الأذن، وكذلك الثقة في النفس وامتلاك طاقة الصبر والإصرار، وأيضا القدرة على كسب العلاقات العامة والاجتماعية، وذلك بخلاف بعض العوامل المادية الأساسية كاللياقة الجسدية والقبول المريح والوجه المعبر المحبب للكاميرا، وطبقات الصوت المناسبة ومخارج الألفاظ السليمة. ونظرا لكثرة العوامل المؤثرة في الموهبة وتداخلها يصعب بالطبع قياسها أو قياس كل عنصر ومدى تأثيره في العناصر الأخرى، لذلك يكون من المنطقي أن يختلف كثير من الأساتذة فيما بينهم حول تقييم كل موهبة من المواهب.
وهنا نصل إلى نقطة أخرى مهمة وهي كيفية صقل الموهبة؟  وهي تتطلب التعامل مع كل عنصر من العناصر على حدة ومعرفة كيفية صقله وتنمية المهارات الخاصة به، ولكن بصفة عامة أقرر بأن الدراسة برغم أهميتها بوصفها تنظيرا مفيدا ونتيجة لرصد وتحليل جميع الخبرات السابقة في كل مجال من المجالات، وبالتالي فهي اختصار رائع لفترة اكتساب الخبرات إلا أنها لا تستطيع وحدها أن تغرس الموهبة - بعواملها المتداخلة - فيمن يفتقد تلك العوامل أساسا، ربما توجهه إلى ضرورة الالتزام واحترام آداب المهنة، ولكنها لن تغرس فيه الالتزام كسلوك عام، أو تحبب إليه عادة الاطلاع والقراءة، وربما يفسر هذا تطور بعض الفنانين من خلال الدراسة ونمو مهاراتهم بشكل ملحوظ واكتسابهم لخبرات جديدة دون باقي زملائهم، وذلك سواء كانت الدراسة بالمعاهد الرسمية أو ببعض الورش الجادة وليست تلك الورش الوهمية التي تستغل أحلام البسطاء وطموحات الشباب لتحقيق المكاسب التجارية فقط.
 أضاف: بصفة عام أوضح أن جيل الرواد  كنجيب الريحاني، علي الكسار، حسين رياض، سليمان نجيب، يوسف وهبي، زينب صدقي، فاطمة رشدي، عبد الوارث عسر، أمينة رزق، زوزو نبيل، الذين ساهموا كثيرا في نشأة وتطور الفنون العربية بمختلف القنوات (المسرح، السينما، الإذاعة، الدراما التليفزيونية) لم يحققوا مكانتهم التي أبهرتنا بأعمالهم السينمائية إلا بعد اكتساب خبرة عشرات السنوات التي لا تقل عن ربع قرن، في حين أن كبار النجوم في النصف الثاني من القرن العشرين كسناء جميل، سميحة أيوب، عبد المنعم إبراهيم، عبد الله غيث، نور الشريف، أحمد زكي لم يحتج كل منهم سوى أربع سنوات دراسة نظرية وعملية ثم أربع سنوات مثلهم لاكتساب الخبرات الفعلية لتحقيق مكانته وتميزه وتألقه.
وأخيرا أود أن أنوه بكل صراحة إلى أن «الجمعية المصرية لهواة المسرح» إذا كانت تعتز دائما بدورها المؤثر والفعال خلال مسيرتها الفنية - التي قاربت الأربعين عاما - في اكتشاف عدد كبير من نجوم الصف الأول حاليا والمساهمة في صقل موهبة كل منهم ، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر: عبلة كامل، خالد الصاوي، محمد هنيدي، محمد رياض، عمرو عبد الجليل، ماجد الكدواني، حنان شوقي، ياسر ماهر، منير مكرم، والراحلين: ممدوح عبد العليم، خالد صالح،  فإن عدد الموهوبين الذين لم تسنح لهم فرصة إثبات مواهبهم واستكمال مسيرتهم أكثر بكثير جدا، مما دفعهم إلى التخلي عن أحلامهم وطموحاتهم. و تظل المشاكل والمعوقات قائمة  ومن أهمها ارتفاع تكلفة الدراسة الموازية والالتحاق بالورش الخاصة، وكذلك صعوبة الحصول على عضوية نقابة المهن التمثيلية أو حتى الحصول على تصاريح العمل، وذلك بخلاف ندرة الفرص التي تمنح لأصحاب النفوذ والعلاقات وعدد كبير من أبناء الفنانين.
لا مفر من التعلم
أما د. مدحت الكاشف عميد المعهد العالي للفنون  المسرحية فيوضح أهمية تنمية القدرات الذاتية من خلال التعلم بقوله: نحن نعيش اليوم في عصر العلم والتقدم العلمي في كل المجالات , فمن باب أولى بهذا العلم  المجالات الإبداعية التي هي أصلا تعتمد على موهبة موجودة ومتأصلة في شخص ما. هذه الموهبة تتطلب نوعا من أنواع الصقل وهو دائما يكون بالدراسة. والدراسة دائما تكون معتمدة على العلم, والعلم يكون في البداية تجارب قبل الوصول إلى نتائج, ثم الوصول إلى نظرية. وأعتقد أن فن التمثيل منذ اليونان وحتى اليوم استطاع أن يبلور مجموعة من النظريات بقدر الإمكان فيها نوع من التوثيق العلمي لممارسة المبدع, وخصوصا في مجال التمثيل. وهذا يظهر الممثل الموهوب فقط من الموهوب الدارس, فممثل دارس فقط يمكن أن يمتلك الحرفية أو التقنية ولكنه لا يمتلك الأصالة, أو الموهبة أو الاستعداد للتمثيل. الدراسة شرطها الموهبة والموهبة وحدها لا تكفي للتطور. قد يؤدي ممثل دورا ببراعة في بادئ الأمر لكن بالتدريج يبدأ في التراجع لأنه ليس لديه الخلفية المعرفية المتعلقة بممارسته لمهنة التمثيل.
أضاف: عندما أتحدث عن التعلم فلا اقصد بالضرورة الحصول على شهادة علمية. ولكن التعلم بأي شكل من الأشكال, التعلم الذاتي ومراقبة الذات  واكتشافها, التعرف على القدرات الشخصية , ويمكن للموهوب الالتحاق باستوديو أو بورشة أو مدرسة غير رسمية فيحصل على قدر من التعلم. وكل من فاتهم قطار التعلم بشكل رسمي  لابد ان يختاروا الطريق المناسب لهم، وعلي أن أبحث عمن تتوفر فيه القدرة على التدريس والتعليم لأن هذا الموضوع شائك جدا, لأن معلم التمثيل يعلم بشرا قد يؤثر فيهم بالسلب كما يؤثر فيهم بالإيجاب. فكرة التعلم أساسية و لابد منها, وأكبر مثال لدينا هو الفنانة سعاد حسني الموهوبة حتى النخاع فهي لم تحصل على تعليم لكنها حصلت على تدريبات قاسية جدا مع أساطين الفن في فترة كبيرة جدا, فمن علمها الإلقاء ومن علمها الرقص ومن علمها الغناء, ومن علمها الأداء والتمثيل وكل شيء بحيث اصبحت مستعدة دائما, غير هذا لا يوجد امتداد لعمل الممثل إن لم يتعلم.
يصنع أكاديميته الخاصة
ويبين د. مصطفى سليم رئيس قسم الدراما والنقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية, أهمية تجذر الموهبة وتأصلها اولا قائلا: لا شك أن مسألة الدراسة تصقل الموهبة ولكن هذا الصقل له شروط وعلى رأسها أن تكون الموهبة متأصلة في المتقدم للدراسة من زمن وليست شيئا طارئا عليه أو اكتشاف مفاجئ لم ينتبه إليه, فعلى سبيل المثال أتذكر في تجربتي الشخصية أني بدأت كتابة الشعر والتمثيل على خشبة المسرح وأنا في السنة الخامسة من المرحلة الابتدائية. وحين جاء الممثل القدير/ محمد جبريل لعمل عرض مسرحي بالمدرسة قدم له الأساتذة الطلاب الذين يرون فيهم القدرة على التمثيل وقالوا له هذا الصبي يقول الشعر. ثم اختارني لدور البطولة في هذه المسرحية فاكتشفت أن لدي القدرة على التشخيص أيضا, و في المرحلة الإعدادية والثانوية حصلت على جوائز كثيرة في الشعر ومثلت مع الأستاذ مصطفى عبد المجيد «رحمه الله» المسئول عن النشاط المسرحي بالمدرسة السعيدية وهو شخصية مرموقة وله مكانته. إذن هناك تسلسل في وضوح الموهبة وتأكيدها عبر سنوات الدراسة وبالتالي حين التحقت بالمعهد لم يكن المعهد بالنسبة لي مكانا للدراسة وإنما مكان لإبراز مواهبي. ذهبت إليه قاصدا متعمدا ولم أقم بتحضير نفسي كما جرت العادة بل جلست مع زملاء أعزاء وجيران مثل الأستاذ مازن من الرقابة وكان جاري في الجيزة والأستاذ محمد زعيمة وكان جاري في العمرانية ومع الأستاذ نبيل الحلوجي , ثم دخلت الامتحان ونجحت بتفوق. إذن الموهبة يجب أن يكون لها جذور, ولا تطفح فجأة. وهي ربما تحقق النجاح الجماهيري مصادفة, هذا أمر آخر لأنه قدري, أما من يكتشفون أنهم موهوبون فنسب نجاحهم تزيد بعد ذلك بالدراسة .
أضاف: تقدم الدراسة للموهوب عالما ثقافيا متعددا ومتنوعا و تساعده على تكوين رؤية للعالم. كما  تدربه فيكتسب مع الموهبة المهارة فيصبح محترفا. و تقدمه للوسط الثقافي أو الإبداعي الذي يتخصص فيه وتفتح له المجال و تجعله يصنع شبكة صغيرة من العلاقات تمكنه من إيجاد فرص في المستقبل. و تميزه عن باقي الممارسين للمهنة لأنه يمتلك ثقافة المهنة ومصطلحها النقدي السليم ويستطيع أن يتحدث عنها بما يجعلنا نثق في موهبته. لذلك عندما كنا نستمع مثلا إلى الفنان الكبير نور الشريف عندما يتحدث عن فن المسرح أو التمثيل نكتشف أننا أمام ممثل من طراز مثقف. لأنه كان متفوقا في دراسته فاكتسب الثقافة وهذا لم يؤخره أبدا عن أن يكون نجما بل بالعكس جعله نجما من نوع خاص. وسأذكر حادثة أخرى خاصة بالاحتكاك بالنجم نور الشريف تؤكد أهمية الدراسة للموهوب, ففي مسرحية «كاليجولا» عملت مساعد مخرج منفذ للإخراج وكان الفنان نور الشريف يأتي قبل مساعدي الإخراج والمخرج وجميع أفراد العمل بساعتين، يحمل مراجع باللغة الفرنسية والانجليزية والعربية عن شخصية «كاليجولا», يقرأ ويدرس ويتعمق في الشخصية, يضع خطوطا أسفل السطور الهامة ويبدأ في معالجة ما قرأه كل ليلة في البروفات من خلال تجسيده للشخصية, إلى أن يصل إلى الشكل النهائي. و بعد أن يشعر بالرضا يأتي في موعد البروفة, هكذا يكون الفنان الذي يعرف قيمة المعرفة بالنسبة للموهبة . المعرفة تصقل الموهبة وتعمقها وتجعلها تنتقل من مرحلة الهواية إلى آفاق العبقرية.
تابع : أما من فاته التقدم للدراسة الرسمية المتخصصة فيستطيع أن يصنع أكاديميته الخاصة ببحثه عن المعرفة في كل مجال, يستطيع من خلال مكتبته, من خلال السؤال والبحث, من خلال قراءة الرسائل العلمية, من خلال حضور ندوات والاشتراك في ورش, والاحتكاك بالأكاديميين, يستطيع ان يصنع أكاديميته من خلال متابعة المحاضرات التي أصبحت تتاح على وسائل التواصل الاجتماعي, محاضراتنا أصبحت موجودة, يسجلها الأبناء ويرفعونها على الشبكة العنكبوتية وتتاح للجميع. إذن هو يستطيع أن يصنع هذا بنفسه لنفسه كما فعل عباس محمود العقاد. فقد صنع أكاديميته أو جامعته بنفسه.
سوق العمل
ويشرح د. علاء قوقة الأستاذ بقسم التمثيل والإخراج بالمعهد ضرورة الدراسة والتدريب للممثل بقوله: إن جهد الممثل كي يطور من أدواته يضع له سمات خاصة تميزه. و يوجد خريجين درسوا الجانب التعليمي بشكل جيد وبعد التخرج عملوا على مواصلة التدريب من أجل صقل وزيادة مواهبهم وقدراتهم. أذكر ممن كانوا يدرسون معي مادة حرفية الممثل أيتن عامر ومحمود حجازي وولاء الشريف وندى موسى وريم أحمد وطه خليفة ومحمد علام وتامر كرم, عدد كبير منهم استفادوا من التدريبات وطوروا من أنفسهم, وهم كأشخاص لهم يد في تطوير أنفسهم، والجانب الآخر المتعلق بتدريبات الحرفية التي دربتهم عليها ولها علاقة بتنمية تركيز المخ لدى الممثل فقد غيرت أشياء, المسألة كما قلت ترجع إلى قابلية الشخص ورغبته في تطوير نفسه،  وقد خرج من عباءتنا أعداد كبيرة جدا, من ذكرتهم الآن عدد ضئيل جدا منهم.
أضاف: أما بخصوص سوق العمل فليس له علاقة بإمكانيات  الممثل الحقيقية،  وإنما له دخل بأشياء أخرى، و قد تكون إمكانية الممثل ومهارته آخر هذه الاشياء التي تضع الممثل في مكانة معينة في سوق العمل , فكم من ممثلين رائعين لا يعملون وكم ممن ليس لديهم أدني موهبة حاضرون بقوة في سوق العمل. هناك مثلا من تسنح له فرصة في مسلسل وهو لم يمارس أي شيء يتعلق بالمهنة من قبل، وليس له علاقة أصلا بأي خبرات سابقة، سواء بالوقوف على خشبة مسرح أو مواجهة جمهور أو نقد أو تلقى تعليقات على أداء  أو مارس أي احتكاك, فهو يعمل مباشرة لأنه كان بالصدفة أحد أقرباء العاملين في المسلسل. فلو وضع المدربين والموهويين فعلا في سوق العمل فستكون الأعمال الدرامية لها شأن مختلف تماما. وسيكون لهم مساحات مختلفة من الحضور،  وكثير من خريجي المعهد للأسف لا يجدون مكانا في سوق العمل.
تابع : على من لم يلتحق بالمعهد من الموهوبين تنمية قدراتهم بالقراءة  والالتحاق بورش متخصصة.
كل ممثل يصنع منهجه
ويوضح د. عاصم نجاتي الأستاذ بقسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية, ضرورة صقل الموهبة من خلال الاطلاع على أحدث الطرق والمناهج العالمية بقوله: لدينا أسماء عديدة لفنانين ونجوم كبار وشباب قدماء ومعاصرين لم يكتفوا بالموهبة بل أصروا على صقلها بالدارسة حتى بعد أن انتهوا من الدراسة بكليات جامعية أو دراسات أخرى,  منهم: فريد شوقي, حمدي غيث, شكري سرحان, عمر الحريري, نعيمة وصفي, سناء جميل, جلال الشرقاوي, سعد أردش , كرم مطاوع, سمير العصفوري, سناء شافع, وغيرهم كثيرون.. الموهبة وحدها لا تكفي فهي هبة من الله سبحانه وتعالى يضعها في إنسان وبالتالي يحتاج أن يصقل أدواته, وأدوات الممثل تنقسم كما يعلم الجميع إلى أدوات داخلية وأدوات خارجية, فأدوات الممثل بدون  استعداد وتنظيم لها لا تكفيه لان يستمر, وهناك  جيل أقدم مثل محسن سرحان وحسين صدقي, هؤلاء كانت خبراتهم كبيرة متراكمة من فيلم لآخر، وكانت مشاهداتهم للسينما الإيطالية والفرنسية ثم الإنجليزية بعد الحرب العالمية الأولى مصدر معرفي كبير, كانوا يستفيدون من تقنية أداء الممثل بمراقبتهم للممثلين العالميين ثم يدربون أنفسهم.  فلو نظرنا الى أفلام الخمسينيات في أمريكا مثلا ولاحظنا مثلا قصة شعر الممثلين بها فسنجد مثلها في الأفلام المصرية،  يأخذون الشكل الذي هو من الأدوات الخارجية للممثل وهو ما يصنع الشخصية, دون أن يعرفوا شيئا عن الدراسات التي نقدمها الآن عن استانسلافسكي, وكان هناك مخرجون كبار يتحدثون معهم ويوضحون لهم أبعاد الشخصية وتكوينها وكيفية أدائها. مثلا الفنانة الكبيرة شادية ليست خريجة معهد ولكنها اكتسبت  خبرات كبيرة بالممارسة. والآن مع عصر القنوات  المفتوحة أصبح السوق في حاجة إلى مجموعة كبيرة من الممثلين.
أضاف :أما صقل الموهبة بالدراسة فنجد مثلا الفنانين محمود يس ويحيى الفخراني ليسوا من خريجي المعهد،  ومحمود حميدة لم يستمر بالمعهد ومع ذلك درسوا التمثيل وتدربوا بمعرفتهم وتفرقوا ، وهناك في المقابل ايضا من اصقلوا موهبتهم بالدراسة الأكاديمية مثل  محمد صبحي ونور الشريف وأحمد زكي وهادي الجيار ويونس شلبي.
 لذلك فعلى من تخطى السن أو لا يستطيع الالتحاق بالمعهد  فهناك طرق كثيرة للتعلم، في العام الماضي مثلا نقابة الممثلين أقامت ورشة استعانت فيها بأساتذة من المعهد إضافة إلى الأستاذ محمد عبد الهادي وهو خريج المعهد قسم دراما ومدربين آخرين ممن تدربوا على يد مدربين من أوروبا في فن الممثل. فالورش المسرحية الحقيقية تقدم تدريبا لأدوات الممثل على مذاهب علمية. وفي هوليود فإن كبار نجوم السينما العالمية مثل آل باتشينو مثلا و كذلك شباب النجوم ا مثل جوني بيب يذهبون إلى ورشة أو استوديو قبل كل فيلم  ، وأنا حضرت حوالي أربعة ورش خاصة بمايكل تشيكوف واستيلا أدلر, وثالثة خاصة بشيء جديد على التمثيل وهي رسالة دكتوراه أعدها  أحد الباحثين المتميزين  موضوعها  كيف تبني شخصيتك من خلال الحلم؟. إن أي ممثل تفوته  فرصة  التعلم الاكاديمي ويريد أن يدرب نفسه عليه أن يسأل نفسه عندما يتصدى لأي شخصية أربعة أسئلة مهمة هي: من أنا؟ أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ إلى متى أنا موجود هنا؟ تلك الأسئلة ستصل بنا إلى كيف أؤدي الشخصية؟ كذلك عليه أن يواظب على قراءة الكتب وتثقيف نفسه، و أن يقرأ كتب إعداد الممثل، فهناك  مناهج كثيرة عبارة عن تطوير لمنهج ستانسلافسكى،  وهو  نفسه قال في أواخر حياته: على كل ممثل أن يصنع منهجه.
تنظيم الموهبة
كذلك يرى د. كمال عطية المدرس المساعد بقسم التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية, أن الموهبة لابد من تنظيمها وضبط استخدامها لدى الممثل قائلا: الموهبة هي التي تظهر أولا فهي أساس الفن أيا كان نوع الفن سواء تمثيل أو غيره, ويظهر بعد الموهبة التنظير وكيفية تنظيم الموهبة, وهذا بالنسبة لكل الفنون. وبالنسبة للتمثيل بشكل خاص فلابد أن يكون الممارس موهوبا أولا, ولكن يمكن أن يكون هذا الموهوب لا يدرك كيفية استغلال الموهبة أو توظيفها, لذا تأتي الدراسة العلمية أو الأكاديمية للفن. فهي تعلمه كيف يستخرج كل ما بداخله وكيف ينظمه وكيف يستخدمه؟ ومتى؟ وما المقدار المحدد للاستخدام؟ فهي مسألة نسبة وتناسب, فقد يكون الشخص لدية الموهبة لكنه يسيء استخدامها فيظهر أداؤه مبالغ فيه أو يبدو أداؤه خارج نطاق الشخصية.
وبالدراسة يدرك كيف ينسق ويضبط المعايير والمقادير؟ وكيف يتعامل مع الفوارق بين أداء التراجيديا أو الكوميديا؟ وما أساسيات التعامل مع هذه الأنواع؟ وما هي أساسيات الانفعال نفسه؟  والمجال الفني تطور الآن  ولم يعد مقتصرا على المسرح فقط بل معه التليفزيون والسينما والإذاعة وكل هذه المجالات لها تقنيات أخرى مختلفة عن تقنيات المسرح نفسه. فعندما يلتحق الموهوب بالأكاديمية, فإنه يدرك كل هذا ويدرك كيف يتعامل مع الكاميرا بأشكالها وأحجامها المختلفة؟ كيف يتعامل مع المايك؟ وما الفرق بين التمثيل التلفزيوني والتمثيل السينمائي؟ إضافة إلى أنه في المعاهد الفنية والأقسام المتخصصة بالكليات فإنه يدرس بجانب التمثيل  مواد أخرى تساعده وتطور من موهبته وتنميها مثل الرقص والديكور والدراما والموسيقى وغيرها, إضافة إلى أنها تزيد من ثقافته لأن الفنان المثقف الواعي يكون أفضل في التعبير, كلما زاد هذا الإدراك والوعي, كلما كان تعبيره أعلى وأفضل عما يجسده, لأن الفنان يعبر عما يفهمه من الحوار, والفنان كلما كان فهمه أعلى كلما كان تعبيره أقوى والعكس صحيح, فمهما كان موهوبا لوكان فهمه ضعيفا فسيكون تعبيره ضعيفا عن الشخصية التي يؤديها. والموهوب الأقل في الموهبة قد يمكنه إذا تدرب جيدا ودرس جيدا ونمّا وعيه ونضج يمكن أن يعبر أفضل من آخر أعلى منه في الموهبة لأن الأخير لا يعرف كيف يستخدم إمكانياته.
إضافة إلى كل ذلك توجد أدوات للممثل  يتم تطويرها مثل جسمه وحركته وشكله وصوته، كل هذا يتطور من خلال الدراسة, وكل هذا ليس له علاقة بمسألة أنه عندما يدرس هل سيكون أفضل من غير الدارس أم لا؟  يوجد فنانون لم يدرسوا الفن لكنهم أفضل من آخرين درسوا الفن. وهذا موجود في العالم كله وعلى مستوى المشاهير أيضا ، وهذا ليس له علاقة بسوق العمل أو النجومية, يمكن أن يكون الفنان خريج معهد لكنه لا يعمل جيدا لأن هذا موضوع آخر له محددات ومعايير أخرى بغض النظر عن الدراسة أو الموهبة.
أضاف: أما من لم تتح له الظروف للدراسة العلمية بأكاديمية الفنون أو الأقسام المتخصصة بالكليات, فهناك ورش مسرحية مجانية تقيمها الدولة وفي مسرح الشباب ورشة «ابدأ حلمك» مثلا وفي الثقافة الجماهيرية أيضا توجد ورش فنية متعددة. ويمكنه الاشتراك في تلك الورش, وهي فرصة إذا كان يسعى لذلك. ولو لم تسمح ظروفه فعليه  بالفرجة أولا, عليه أن يشاهد جيدا أشياء جيدة الصنع وليست مجرد مشاهدة عادية. على الموهوب مشاهدة ممثلين جيدين, خصوصا أن كل المشاهدات متاحة, عما كنا عليه قديما.  عليه أن يراقب أهم الممثلين في العالم ، نصيحتي هي البحث والاطلاع, والآن كل شيء موجود في مكانك ومن أراد أن يتعلم فسوف يتعلم..
تنوع الخبرات
و يحدثنا المخرج محمود فؤاد صدقي المعيد بالمعهد العالي للفنون المسرحية, عن تنوع الخبرات الحياتية التي يتعلم منها الفنان ويصقل بها موهبته, قائلا: إن مسألة صقل الموهبة ليست متاحة من خلال المعهد فقط, توجد أماكن أخرى مثل ورشة مركز الإبداع التي يقيمها المخرج خالد جلال, أو من خلال العمل مع مخرجين كثيرين، يتعلم الموهوب من كل منهم بقدر ما. إضافة إلى أن هؤلاء المخرجين أساتذة في المعهد،  وما نطبقه في المعهد هو ما يتم تطبيقه في المسرح الاحترافي خارجه, ومعظم المحترفين هم أصلا من خريجي المعهد, فالمعهد موصول بالأجيال التي يقوم بتخريجها, مثلا الأستاذ خالد جلال خبراته الأكاديمية التي اكتسبها من المعهد هي التي يعطيها لطلبته في الورشة، إضافة لتعلمه من الخارج واحتكاكه بالمجال وقراءاته وثقافاته الخاصة. فالموهوب الذي يعمل تحت يده ولم يدخل المعهد فسوف يأخذ خبراته وكذلك  الفنان أحمد مختار أو أي مخرج آخر, فهو يمر بمجموعة خبرات واحتكاكات والدراسات بشكل موازي مع المعهد.
   أضاف : من لا يصقل موهبته يكون مثل غير ملتزم وكسول و لا تتطور موهبته ولا تنمى ولا تعيش. لكن لدينا مثال آخر لفنان موهبته متوسطة لكنه ذكي جدا ولديه إلحاح يبذل أقصى جهده ويقاتل ويقرأ ويدرس مع نفسه, والأماكن كثيرة ومتوفرة  وطرق الصقل والتنمية كثيرة بعيدا عن الدراسة داخل المعهد. الفنان شريف دسوقي مثلا حصل على عضوية النقابة وحصل على جائزة في التمثيل وهو ليس خريج المعهد, وهو يعمل منذ فترة طويلة .
وعلى من لم يستطع دخول المعهد لأي ظروف توجد ورش وزارة الثقافة مثل ورشة الأستاذ خالد جلال وورشة «ابدأ حلمك» لمسرح الشباب, وتوجد ورش تكلفتها قليلة ومعتمدة مثل ورشة الفنان «أحمد مختار», ويوسف كمال رزق ومحمد نبيل منيب. ويمكن للموهوب أن يتعلم من خلال العمل بالمسرح كثيرا حتى لو بدون مقابل. وكذلك المشاهدة مهمة فعليه أن يشاهد عروضا كثيرة ويحضر بروفات ليتعلم. الفنان لابد أن يكون مثقفا  ولا تقتصر قراءته على تخصصه, فأنا مثلا أقوم الآن بإخراج مسرحية عن الهجرة غير الشرعية. وأعكف على دراسة كل أنواع الهجرة غير الشرعية منذ عام 2010 وحتى عام 2020 وأجمع كل المعلومات الخاصة بهذا الموضوع, فما علاقتي أنا بالهجرة غير الشرعية؟ فلابد أن أقرأ في جميع المجالات, الفنان لابد أن يكون مثقفا في جميع مناحي الحياة, وكذلك الاحتكاك بالفلسفة وعلم النفس لدراسة نفسيات الأشخاص الذين يتعامل معهم. فلو أنه سيمثل شخصية صياد لابد أن يدرس حياة الصيادين كاملة.
كما يوضح د. محمد عبد الهادي أهمية الدراسة الأكاديمية وصقل الموهبة بالتدريب والدراسة سواء من خلال الأكاديمية أو من خلال الورش التدريبية قائلا: إن الدراسة الأكاديمية تعطي الدارس عمقا في شخصيته وتمكنه من التعامل مع  حرفته, فهو عندما يدرس مثلا مسرحا يونانيا يحصل  على العمق مما يجعل لديه القدرة على تحليل أبعاد وأعماق الشخصية التي يؤديها، لأنه استوعب تاريخ حرفته وفنه. والممثل الأكاديمي دائما قابل للتطوير لأنه اكتسب خبرته من ألف باء التعلم بشكل متدرج، مثلا عندما تبني عمارة تضع لها الأساس يحتمل خمسة أدوار يمكنك أن تبني دورين فقط، لكن بعد ذلك يمكنك أن تستكمل بناء الأدوار الخمسة لأنك وضعت أساسا سليما من البداية، فالدراسة الأكاديمية هي تراكم للخبرة والمعرفة لذا فاكتساب المهارة يحدث بشكل متدرج من خلال المعمل الأكاديمي, حيث يتوفر للأكاديمي معمل يكتسب فيه المهارة من خلال التجربة والخطأ.لكن الهاوي يكتسب المهارة من خلال الواقع الفعلي, وبالتالي يدفع ثمن أخطاءه. فإذا قلنا إن الهاوي يكتسب خبرة عملية بالممارسة الفعلية فهذه الخبرة بالطبع مهمة جدا ولكنها تخضع للصدفة, وخبرته غير منهجية وخاضعة للظروف،  والهاوي أيضا قابل للتطوير لكن بشكل أقل من الأكاديمي أو المحترف, وأيضا تبعا لظروفه ونوعية فرص العمل المتاحة له.
وأخيرا يتحدث الفنان أحمد مختار موضحا أهمية التدريب المستمر للموهبة بقوله: إن الممثل لابد أن يواظب على التدريب طوال حياته, فلا يجوز أن يكون ممثلا موهوبا فقط, يوجد ألف ممثل موهوب, لكن خمسة فقط هم من يتدربون وهم  من يستمرون ويبرعون وهم الأفضل. المطلوب من الممثل أن يحول الشخصية الخيالية في ذهن المؤلف ورؤية المخرج إلى واقع ملموس. إلى شخصية حقيقية معاشة لها لحم ودم. فهذه هي وظيفته, وهي تكون بالتدريب،  كل منا له أدوات مثل الخيال والتركيز واستحضار المشاعر والتعبيرات بالوجه والجسم والصوت, لكن ما يميز صوت الممثل المدرب عن صوت الممثل غير المدرب أنه صوت متنوع وجذاب لكن الغير مدرب قد تكون موهبته أعلى لكن بعد قليل سيمل منه المتفرج, نفس الفكرة جسم الممثل المدرب هو جسم لطيف على المسرح يدرك جيدا ماذا يفعل وكيف يتحرك, لكن الغير مدرب وإن كان موهوبا جدا بعد قليل سيمل منه المتفرج لأنه يكرر نفس حركاته, والمشاعر أيضا لابد أن تتغير من شخصية لأخرى وهذا صعب لأنك نفس الشخص لديك نفس المشاعر تحب بنفس الطريقة وتكره بنفس الطريقة, فكيف يمكنك أن تغير طريقتك في الحب والكره والحزن والبكاء من شخصية لأخرى؟ هذا يحتاج إلى التدريب. وأنا عندما تدربت على يد الأستاذ الكبير د نبيل منيب سعيت لأعرف أكثر, فتدربت تقريبا على أيدي معظم الذين حضروا إلى مصر , منهم فرقة مومن تشونس للبانتومايم  النمساوية, وخايمي ليما من بيرو و لديه فكرة الانضباط الرهيب للممثل, وفيكتوريا جوتليز المكسيكية التي انبهرت بالصوفية المصرية وغيرت شكل الحركة وهي من اكتشفت وأبرزت التنورة, بالإضافة لأصدقائنا الفنان أحمد كمال وسيد رجب الذين كنا نتبادل معا التدريب. فمن الورش تخرج نجوم كثيرون مثل عبلة كامل وسلوى محمد على وأحمد مكي وغيرهم كثيرون.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏