التمثيل (والحقيقة) في الأداء المسرحي

التمثيل (والحقيقة) في الأداء المسرحي

العدد 677 صدر بتاريخ 17أغسطس2020

 في أعقاب ما يعد البنيوية والتفكيك، ظهرت فكرة الحقيقة وتمثيلها في أوقات عصيبة داخل المؤسسة الأكاديمية. ونظرا لأن تصور (نيتشه Nietzche) الذي اختزل الحقيقة في النظام الاستعاري التعسفي الذي فرضه البشر علي فوضى الحقيقة، وأيضا قراءة (سوسير Saussure) التي يدعي فيها أن العلاقة بين العلامة والمرجع تعسفية، فلم تصبح الحقيقة المرجعية سوى الكفاءة المحددة لأنساق القوة المنطقية. وهذه الطريقة في التفكير لا تعترف بتناقضها الأدائي: نظرا لاستنتاجها أن الحقيقة تعسفية، لا يمكنها أن تدعى لنفسها وصفا حقيقيا لما هو أكثر مما تأمل في استبداله .
 وتنطوي كل من التقاليد التحليلية والأوروبية للفلسفة علي ارتباطات مع الكيفية التي تمثل بها اللغة الواقع. والفرق الرئيس هو أن جزءا كبيرا من التقاليد الأوروبية قد اتخذ قراره الي حد ما لصالح الأطروحة التي وصفتها للتو، وجعلها (دريدا) غير مؤكدة وأكثر سيولة دلاليا وفرضها علي أعمال ( فوكوه)؛ إذ كان يمكن لأي أحد يعمل داخل الأطر النظرية أن يتناولها كبديهة نظرية . والفلسفة التحليلية، بداية من (فريج Frege) و(راسل Russell) وصولا الي (فيتجنشتاين Wittgenstein) و(ألفريد تارسكي Alfred Tarsky) و(دونالد ديفيدسون Donald Davidson) في هذه الثقة البديهية، وتستمر في التفكير في كيفية عمل الحقيقية، وكيف توظف الإشارة المرجعية، وكيف نفهم بعضنا بعضا ونشارك في المعنى(2) .
 من الواضح أن هناك علاقة وثيقة بين أسئلة الحقيقة وأسئلة التمثيل، علي الأقل بالمعنى العادي لمعرفة ما يجب تصديق عندما نسمع شيئا أو نراه أو نقرأه، ولاسيما المعلومات التي نحتاج الى أن نعمل وفقا لها . ولكن يصبح السؤال أكثر تعقيدا عندما نتعامل مع القصص الأدبية أو العروض المسرحية، عند هذه النقطة تكون الحقيقة التي نسعى أليها أو نراها ليست مجرد مسألة مرجعية مباشرة . ولأن ما نقرأه أو نراه هو شكل من أشكال الاعتقاد، ندخل إليه بإرادتنا إذا فهمنا أنه مسرح، وندخل إليه دون وعي إذا كان لعبة ثقة، فانه يثير مستوى من القلق فيما يتعلق بالثقة أو عدم الثقة بما نتوقع أن نتقبله باعتباره حقيقة عموما .
 وفي نظريات المسرح، كان التمثيل أو التقليد مسألة محيرة، لأن أعداء المسرح في الماضي كانوا يخلطون بين استخدام الإيهام التمثيلي mimetic illusion أو التظاهر make believe وبين الكذب (من ثم كانت استجابة “سيدني Sidney” أن الشاعر لا يؤكد وبالتالي لا يكذب أبدا). ولكن في عالم المسرحية، أوضح فنانو المسرح أنفسهم مدي سهولة استخدام البعض منهم للوسائل المسرحية لتقديم صورة زائفة لماهية الحالة – فيما يتعلق بكلمات شكسبير بأن الفن والتظاهر علامتان مشبوهتان دائما للتآمر الخبيث – ولكن يمكن استخدام نفس الوسيلة أيضا كحيلة لكشف الزيف (كما في مسرحيتي “هاملت” و“مكيال بمكيال”). وفي العصور الأكثر حداثة استخدمها بريخت في مسرحه الشارح كسلاح مضاد للإيهام المسرحي في المذهب الطبيعي، بقصد توضيح أعمال الفكر غير المؤكدة . وفي ضوء أكثر جمالية يستكشف (مارتن بوشنر) في كتابه “رهبة المسرح Stage Fright” أن الدراما والمسرح الحداثيين هما مسرح أفلاطوني وأعني بذل أنهما ليس مسرحا للأفكار المجردة بل مسرحا مليئا بأنواع المسرحانية المضادة التي تطورت لأول مرة في مسرحيات أفلاطون القرائية Plato’s closet dramas. وتعطينا إشارة ( بوشنر) إلى مسرحيات أفلاطون القرائية فكرة عن القضية الحقيقية: يفهم الكثيرون أن أفلاطون معاد للتمثيل، ولكن المفارقة هي أن مسرحياته القرائية هي نفسها منتجات تمثيلية وسقراط هو الشخصية الرئيسية فيها .
 وفي هذه المقالة أجادل بأن مفهوم التمثيل ليس من الضروري أن يتم تخصيصه تلقائيا للمثالية الأفلاطونية أو نظرية الأشكال، وأن أفلاطون - أو سقراط، في كتاب “ الجمهورية “ بالأحرى ليس معاديا للتمثيل . انه ليس مجرد التمثيل في حد ذاته الذي يزعج سقراط (علي الرغم من أنه يشير إلى مكانته المتدنية بالقياس إلى المثالي) ولكن الاستخدامات الخاصة به، وهي استخدامات لا يجب أن تزعجنا بنفس الطريقة، ولاسيما بعد مراجعات أرسطو . فسقراط يتأرجح بين الرغبة في الإدانة الصريحة للتمثيل باعتبار أنه قابل لإساءة الاستخدام، في نفس الوقت يعتبره حتمية ضرورية لتعليم ولاة الأمر. في النهاية ليس التمثيل في ذاته هو الذي يقلقه، ولكن الاستخدامات غير الملائمة فيما يتعلق بأهدافه اليوتوبية (وبشكل حاسم الأهداف العقائدية والرواقية).
 تتخبط المحاولات المعاصرة لتقويض التمثيل باعتبار أنه شيء جوهري وضار في حد ذاته في تنظيرها للمصطلح ؛ فهذه المحاولات المعقدة في الواقع ليست ضرورية لأهدافها النقدية المحددة. ففي القراءات التفكيكية لاستخدام أفلاطون لكلمة “ تمثيل Mimesis” بوجه خاص، يحدث الارتباك عندما يفترض أن يٌفهم التمثيل، منذ عصر أفلاطون، إما أن يكون حقيقي في طبيعته أو مثالي في طبيعته أو دينى، وبناء عليه يجب توضيحه باعتبار أنه ميتافيزيقي وشكل من أشكال الوعي الزائف . وهذا يجافي الصواب في الاستخدام الصادق أو الزائف المحتملين (وهو محايد بحد ذاته) بالنسبة للتمثيل باعتباره صادقا أو زائفا فيحد ذاته . فمن الواضح أن تمثيل الحقيقة يعتمد علي عملية المحاكاة، ولكن يجب ألا تكون عملية التمثيل صادقة ؛ فهو يمكن أن يقدم الزيف والخداع كذلك، كما فهم سقراط .
 ولكي نبدأ في توضيح مشكلة مواجهة فكرة التمثيل فانه تتم قراءتها باعتبارها فكرة أفلاطونية لا لبس فيها، لتوضيح كيف يفترض أن تقدم أسوأ ملامح الممارسات الاجتماعية والسياسية الاقصائية في الغرب، وبعد ذلك، نوضح أنه تم هدم تصنيف الحقيقة أيضا بواسطة التخريب الواضح في فكرة التمثيل الأفلاطونية هذه، وسوف أدرس نظرية التمثيل في كتاب (الين داياموند Elin Diamond) “هدم التمثيل Unmaking Mimesis”. ونموذجها في الهدم هو مصطلح “المحاكاة Mimetism” عند (لوسي اريجاراي Luce Irigaray)، وهي منظرة نسوية كان معلمها والمؤثر فيها ( جاك دريدا Jacque Derrida ) . ففي كتاب (دياموند)، وفقا لمقصدها، تتميز المحاكاة الأفلاطونية بأنها اما قضيبية وذكورية أو أنثوية جوهرية، تٌفهم باعتبار أنها ذات طبيعة مائعة متغيرة الشكل، كما أنه تهديد أصيل لمثاليات وحدة الذات عند أفلاطون. في تخلط بين نقد أفلاطون للسلوك الأنثوي ومعاناة الأبطال التراجيديين الذكور، وحظر أرسطو للبطلات الترجيديات من الإناث، كدليل علي الطريقة الأساسية التي تجعل بها المحاكاة من تمثيل النساء أمرا مستحيلا. وإذا كان هذا صحيحا، فلم يكن أفلاطون ليصدر هذا النقد، ولم يحظر أرسطو الأبطال النساء، كما قالت . فكما جاء في ترجمة “هاليويل Halliwell) لكتاب “فن الشعر“ في الفصل الخامس عشر: “لأنه من الممكن أن تكون لدينا امرأة ذات شخصية رجولية، ولكن ليس من المناسب أن تكون المرأة رجولية وبارعة “. وبالرغم من كلام أرسطو، فان مسرحية سوفوكليس (أنتيجون) ومسرحية يوربيديس (ميديا) تتحدثان ضد هذا الحظر. ومع ذلك، صحيج أن (اريجاري) تطالب للمرأة أن يكون لها صوت في في المجتمع الذكوري “ فان التحدي الأنثوي المباشر لهذا الشرط يعني المطالبة بالتحدث كذات ذكورية، أي أن هذا يعني أن نفترض وجود علاقة مع المفهوم الذي من شأنه المحافظة علي اللامبلاة الجنسية. وهذا هو بريق الشخصية الرجولية عند أرسطو، والطريقة التي يتم بها وصف كل من (ميديا) و (انتيجون) من قبل نظرائهم الذكور القلقين بمجرد دخولهم في مساحة جدلية المدينة. فالمحاكاة أو التشابه، بالنسبة لـ(اريجاراي)، تتمميز بمحاولة النساء محاكاة الأنثى كما يفهمها الوعي الذكوري ليس من أجل التلاعب بالصورة، بل لإظهار أنفسهم باعتبار أنهن يلعبن بها لتحديد وساطتها في مكان آخر، غير المحددة بنزعة أبوية . واهتمامها هو أن تبقي النزعة الأنثوية، مع كل ما يصاحبها من خلال محاكاة الأنثى، بينما تتهرب أيضا من المحظور الذي يرمز بالضرورة إلى كل خطاب باعتباره خطابا ذكوريا . ولكن هذا يفترض أن التمثيل يجب إدراجه باعتبار أنه ذكوري، بدلا من رؤيته كعملية محايدة ترى من خلالها بعض الممارسات الثقافية المهيمنة أنه من الضروري تنظيم مصطلحاتها المحددة. وإذا تحدثت النساء فإنهن يٌنتقدن باعتبارهن “ذكور”، وإذا أظهر الأبطال التراجيديون الذكور حزنا عاطفيا فإنهم يوصمون بصفة أنثوية (بواسطة أفلاطون علي أي حال) . ولحسن الحظ هناك العديد من أمثلة التمثيل المسرحي عبر القرون تجاهلت هذا الحظر المميز. بينما تعكس هاتان الخاصيتان النزعة الجنسية لمجتمع بعينه (وهناك عدد غير قليل)، كما أن التسمية لا تعد ميزة أساسية في عملية التمثيل نفسها. وعند نقطة معينة تزعم (دياموند) أن التمثيل مزدوج بشكل مستحيل، لكي تحدد أنه ذكوري بمعنى أن الذكوري هو الموحد والمتماسك والعام، والمؤنث باعتباره المتغير والمتعدد والمدمر للأشكال، اذ تٌرى كل الأشكال محاكاة ملائمة، وأن هذا الأخير هو التمثيل الذي يهدد تماسكه وقوته . ورغم ذلك، فان ما يفعله هو ببساطة إعادة تأكيد، علي مستوى أكثر تجريدية، لقابلية تطبيق الاختلافات الجوهرية بين الخصائص الذكورية والأنثوية المرتبطة بنوع الجنس، من خلال إسناد النوع الأخير – الأنثوي كمحاكاة للمرأة – يختزل كفاءته إلي أشكال النفي مهما كانت هزلية وممتعة شخصيا . فن الممكن أن أدعي أن المحاكاة والتقليد يمارسان بطرق مختلفة من جانب الرجال والنساء على حد سواء وأن كلاهما شكلان محايدان للتمثيل، وأن الازدواجية التي تراها (دياموند) فيهما هو الخلط بين المحاكاة نفسها واستخداماتها الأيديولوجية . ونظريتها غير ضرورية ومفرطة في تجريد المؤثرات التي من المرجح أن تعمل كما هو مقصود تماما أو حتى يفهمها المتخصصون، كما لن يفهمها حتى أولئك المشاركين في النظرية . فالنظرية تريد أن تحافظ علي نقاء القصد حتى لو لم تستطيع تفسير التأثير .
 فكرة (دياموند) هي اختزال المحاكاة في عملية التشابه : المحاكاة تنمط الاختلاف داخل التشابه . فهي تأخذها إلي أبعد من ذلك : دعونا نلقي نظرة علي تعريفها الحديث الملعون : “ تطرح المحاكاة علاقة حقيقية بين العالم والكلمة، والنسخة والنموذج، والطبيعة والصورة، والمدلول والعلامة، التي تندرج تحتهما الفروق المحتملة بواسطة التشابه. وهذا بالكاد هو موقف أفلاطون، لأن مخاوفه الرئيسية هي ما يتعلق باستخدام هوميروس للزيف ( الجمهورية، الكتاب الثاني) . وتحاول علي مدار كتابها أن تهدم أو تدمر هذا المفهوم المثالي للتشابه من خلال استخدام باستخدام “المحاكاة” عند (اريجاراي). فهي تربط تقنية (اريجاراي) باغتراب (بريخت)، بزعم أن المحاكاة تعمل بشكل نموذجي مثلما أن التشابه هو نفس الشيء الذي تسميه الواقعية، وأن المحاكاة والاغتراب يقوضان الواقع بالمثل . وبهذه الطريقة فان نزعتها البريختية المعترف بها تجعلها تخلط بين الواقعية والطبيعية، دون ملاحظة أن (بريخت) اعتبر نفسه واقعي في مقابل المذهب الطبيعي . إذ تعتمد واقعيته علي نقاط المرجع فيما يتعلق بطبيعة القهر الفعلي في العالم، وإلا لن يكون لأعماله الدرامية أي معنى. مثل هذا الاستخدام للواقعية الذي يشبه الحصان المطارد هو ميل شائع مغامر للمدافعين عن طليعة سياسية أكثر نقاءا.
 تختزل (دياموند) كل مقاربات المحاكاة إلي صيغة نموذجها الأفلاطوني . بينما تحرض في لحظات متعددة أن تلاحظ التمييز بين أرسطو وأفلاطون لأهداف عامة، فهي تتجاهل الفرق المهم وتسمي الأمر كله “ النموذج الكلاسيكي للمحاكاة “، وبالتالي تساوي نفسها مع فكرة الفكرة المتجانسة كما قدمتها (اريجاراي) و(دريدا). وكما لاحظ (ستيفن هاليويل) في كتابه المهم “جماليات التمثيل Aesthetics of Mimesis” :
 إن الفشل في إنصاف هذه الجدلية (المقاربات الأفلاطونيـة
 في مقابل الأرسطية) هو نقطة الضعف الرئيسية في تناول (جاك دريدا) لتاريـخ التمثـــيل، وهو التنـاول الذي يفســر ذلك التاريخ باعتباره محكوما بالالـتزام الضروري بقيمــة الحقيقـة والذي يصمـت دائـما عن أهميـة فهـم أرسطـو غير الأفلاطوني ككل، ولكن نظريات التمثــيل ليست مرتبطــة بشيء موحد، ولا تحتاج الي ذلك، ناهيك عن الميتافيزيقا الأفلاطونية .
ويستمر قائلا :
 علاوة علي ذلك فان نقد (دريدا) للتمثيل عرضة لاعتراض  طرحته بشكل عام ( هيلاري بولمان) ضد تفكيره عمومــا،  وتحديدا نموذج التمثيل الأفلاطوني، والذي يبدو أنه يتطلب  غــير دائمــة للحقيقة الفلســفية، مع تمثيل قصير، ويحسب   صعوبات السابق (التمثيل) كسبب للطعن في أي مفهوم للحقيقة.
 تصبح محاولة نفي مسألة الحقيقة في التمثيل لأنها مرتبطة بالأفلاطونية مشكلة خاصة لأي نظرية، مثل نظرية (دياموند) التي تهدف إلي إقناعنا أو إدانتنا سياسيا، فيما يتعلق بآثار واحتمالات الأفعال والأحداث التاريخية . ولكن نظرية التقليد أو المحاكاة في حد ذاتها يجب أن تكون تقليدية – أي لا تستسلم للآثار المفزعة والمزعزعة للاستقرار التي تسعى إلى وصفها – دون الوقوع في التراجع أو الانحدار بلا حدود . فلا يكن اختزال كل الفلسفة المعنية بالتوظيف الملائم للتمثيل – الملائم لاحتياجاتنا وفهمنا، أو بمعنى آخر، يهتم بقيمة الحقيقة – في المذهب الأفلاطوني . فالتمثيل ليس هو الفكرة الغربية المتجانسة، والبشر الذين يشعرون بالقهر من تمثيلات الهيمنة التي لا تنحصر في مجرد الاختيار بين المثالية الأفلاطونية والتقليد الذي يهدمها . ومع ذلك عند الكتابة عن المسرح، هناك قدر كبير من الحقيقة في فكرة أن نموذج المحاكاة لا يسعه إلا أن يشارك في التخيل المثالي الذي يبدو أنه أفلاطوني، هذا نتيجة حتمية لفن الشعر، الفن الذي يربطه أرسطو بالمسرح، حتى لو كان تفكير أرسطو محبطا بمخاوف بشأن التطابق الملائم مع الأشكال المثالية . ومن المفهوم عموما أن المسرح قد يستحضر جوانب من العالم الحقيقي، ولكنه ليس ذلك العالم، ولا هو التمثيل المطابق لهذا العالم . فلا يمكن أن يساعد شكل المسرح ذاته – الواعي بنفسه بشكل لا مفر منه باعتبار أنه إيهام – بالرغم من تعليق عدم التصديق من أجل المشاركة العاطفية – لا يمكنه ألا أن يقدم سوى صورة مثالية . وهذا هو الفرق الذي يبدو أفلاطوني مع أنه ليس كذلك . ولا أعني بكلمة “ مثالي” نموذج تام بمعنى ديني أو أبدي، بل بالأحرى باعتباره شكلا ليس له مرجع مادي دقيق . المسرح، بغض النظر عن كيفية تجسيده، يبدو مثاليا في شكله ويبدو أنه يجعل كل شيء يمثله مثاليا، ولو فقط بمعنى أنه مستبعد من الحقيقة . وهذا ينطبق علي معظم الدراما التسجيلية المدروسة جيدا أيضا . لأن (بريخت) يقول، بدون أن يحل المشكلة، “ إن المسرح يمسرح كل شيء “ . ومن الناحية الأخرى، فان انعكاسية بريخت المسرحانية المفرطة تميل إلى مسرحة كل شيء . والميل الأخير ليس إجابة كافية بالضرورة أو حلا للأول .
 وإذا تأملنا الفرق بين أشكال أفلاطون المثالية والنماذج المثالية عند (ماكس ويبر)، فيمكننا أن نتناول المحاكاة في المسرح بشكل مختلف قليلا . بمعنى أنه، في الفصل الأول من كتاب “ الاقتصاد والمجتمع Economy and Society”، يوضح (ويبر) النقطة المهمة بأنه من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، تعريف الأشياء في فئات – وبالتالي يتم استخدام هذه الفئات وفقا لقرارنا – بدون تعيين هوية محددة ومتسقة عبر مجموعة معينة من السياقات . ونفعل ذلك بينما نعرف أنهم لن يتطابقوا بدقة مع توقعاتنا لهم، وتغيير هذه الظروف أيضا (18) . ولكن، كما هو الحال في أي علم، فان مقياس قيمة حقيقة شيء ما هو مقياس لإمكانية التنبؤ به لأنه يساعدنا في تعريفه كنوع مثالي . هذا المفهوم العملي في استخدام الأنواع أقرب بكثير إلى تفكير أرسطو التجريبي، الذي أشار إلى أنواع من الشخصيات والأفعال، عنه من تفكير أفلاطون المثالي . وبالتالي، مثلا، في كتاب “ فن الشعر” يعارض أرسطو نفي أفلاطون للمحاكاة، باعتبار أنها تشوه الحقيقة المثالية لهوية شيء أو شخص، مع فكرة المعقولية التي بنوع الخبرة الاجتماعية المشتركة : نماذج وأنواع الشخصية والسلوك الإنساني التي ندركها بالفعل ضمن وجودنا الاجتماعي . فالمعايير الجمالية والأخلاقية التي وضعها أرسطو لكل من استجابة المتفرج والفعل في كتاب “ فن الشعر “، هي بشكل أساسي أنواع مثالية بالمعنى المنسوب الي (ويبر) لتقديم ما يعتبر أنه الدراما الأكثر تأثيرا . هناك يتلاقي “التمثيل” و”العرض” في منتصف الطريق – وهو ما يشير إلى أنه لا يوجد في الدراما أي محاكاة بدون فن الشعر، وهو عمل إبداعي، وصنعة (19) . يحاول تمييز أرسطو بين التاريخ والشعر أن يوضح مشكلة المحاكاة بقدر ما يفترض أن يوضح التاريخ ماهيته، وما يمكن أن يكون عليه الشعر (علي الرغم من أنه يتضح لنا اليوم أن التاريخ ينطوي علي صنعة بلاغية أيضا ) . علاوة علي ذلك، حقيقة أن المحاكاة الدرامية مصنوعة من فن الشعر – تشارك في صنعه – تشير بالفعل في مكان آخر عند أرسطو أن الفن لا يعكس الطبيعة بل يكملها . فالشاعر ببساطة لا ينسخ بل يخلق من خلال استخدام تشابهات ما هو مألوف ومفهوم . ولكن هذا الإبداع هو في نفس الوقت تفسير، كما يقول ( جادامر Gadamer) في كتابه “الحقيقة والمنهج Truth and Method “ .
 ولا يزال الأداء في المسرح، بغض النظر عن كيفية تجسيده، متجاوزا، حتى لو كان ذلك خلال الانزلاق والإمكانيات المتنوعة للدلالة والمعنى والطبيعة المتغيرة للاهتمام والتركيز . في هذا الأمر يبدو وكأنني أؤكد نوعا من الميتافيزيقا التفكيكية، ولكني أفهم أن المسرحي، في تقديمه لعالم محتمل آخر، هو من أجل ما ينتهي به الأمر الي تقديم نفسه كمثالية لغوية ( أو سيميوطيقية) . وهذا هو الذي يمنع المسرح المادي حقا من أن يكون ممكنا في أي وقت مضى . فحتى مسارح التفكيك التي لا ترحم مثل “ فرقة ووستر جروب Wooster Group” تطور هالة حول طبيعة استخدامها للتفكيك . وتصبح وجهة النظر الحقيقية التي تقوض عملياتها الخاصة محورا لكل الاهتمام بطبيعة الاهتمام . ولا شيء مما قلته هنا تنفيه التجربة المادية والحركية للمسرح باعتبار أنه وسيط مادي موجود . وهذا في الواقع هو الأساس الذي يٌبنى عليه المسرح، ولكنه لن كون كذلك ببساطة . اذ تتم مواجهة تسامي المسرح داخل تجربة أنه يبعدنا عن عقلياتنا المعتادة وينقلنا عاطفيا خلال المعاني التي تستدعيها لغة حواره وإيماءاته وصور وأشكاله .
 منذ سنوات مضت، اكتشفت أثناء اللعب مع طفلتي الرضيعة، أعني، أنني عندما كنت أغير شكل وجهي أثناء اللعب معها كانت تعيد صنع نفس الشكل، أو عندما كنت أصدر صوتا كانت تعيده الي، وقد واجهت مشكلة في تفسير ذلك أحيانا. بمعنى أنني اعتقدت أنني كنت أشارك في محاكاة بسيطة، بتقليد أصواتها، حتى أشجعها علي فعل المزيد، فقد بدا لي أننا نشارك بالفعل في نوع من المحادثة . ولكني لاحظت أيضا أنني شعرت عند نقاط معينة وكأنها تمارس محاكاتي كنوع من السخرية، ولم يكن واضحا دائما متى بدا لها أني تجاوزت الحد . وقد كنت واضحا جدا عندما كانت تصدر أصواتا غاضبة أو مزعجة – فتقليد هذه الأصوات سيحفزها أكثر (مما يجعلها تبدو كسخرية) . ولكن حتى عندما كانت تصدر أصواتا مبهجة، فربما يعتبر الإصرار الذي أصدرت به هذه الأصوات مرة أخرى، ولاسيما إذا بدا أنها تكتسح جهودها الخاصة، أمرا عدائيا . فأين ومتى وكيف نضع خطا فاصلا بين المحاكاة البسيطة والسخرية؟ وما الذي يؤدي الي حدوث هذا في سياق التلقي ؟ إذا كانت هذه هي القضية، فلا يمكن أن تكون هناك سيطرة كاملة مقصودة علي هذا التفسير .
 يبدو أن الانتقال من المحاكاة إلى السخرية، كما واجهت مع ابنتي، يتميز بانفصال مفاجئ وتحول من فعل واضح الي فعل واضح تجاهها، ووعي باستخدام قوي بدلا من تجربة التعبير الفوري في حد ذاتها . من الواضح أن الطفل في هذه السن لن يفهم هذا التمييز بين المحتوى و الاستخدام علي مستوى متطور مثل الطفل الأكبر سنا . ومع ذلك، فان إدراك نوع القوة الكامنة وراء التعبير تصبح معروفة وهي مسألة انتباه واهتمام من جانبها . وقد حدث هذا برغم أي قصد من جانبي لاستخدام المحاكاة كقوة منفرة .
 فهل هذا ينذر أيضا بانتقال إلى السمة الخيالية Fictive والمسرحانية الشارحة metatheatrical؟. إننا نفهم، علي أية حال، أن السخرية هي شكل من أشكال المحاكاة الذاتية الاشارة، حيث نرى علامات الاقتباس حول تعبيراتها . إنها علامات الخوف في الواقع : التي لا تميز، من خلال تقديم الخاص المبالغ فيه الذي يصبح فجأة تجريدا منفصلا، الاستخدام العدواني الذي يستنكر أو يرفض في الوقت نفسه قيمة حقيقتها المحتملة. (في سن أكبر يشارك الأطفال غالبا لعبة مزعجة تتمثل في تكرار كل ما يقولونه لأطفال آخرين لمجرد أن يشاهدوهم وهم يتفاعلون مع الإحباط) . وتحول هذه الاستراتيجية التعبير الصادق للآخرين إلي قناع فارغ وعقيم . ولكن من الغريب أن استخدام مثل هذه السخرية، أو ربما الإفراط في استخدامها، هو ما يمكن أن يكشف عن فراغ وعقم السخرية أو أي وسيلة استطرادية أخرى تقاوم حالة الشخص أو تصنعها . وهذه هي الحالة، سواء وجدناها في أكثر الأشكال بساطة في مقاومة الأداء أو في الكتابة المسرحية . فكلما وجدنا علامات الخوف في المقالة، علي سبيل المثال، قل احتمال وجود حجة فعلية ملائمة لأهدافها النقدية المزعومة . فالمقالة ربما تكون موعظة للجوقة، علي عكس محاولة اقناع الآخرين غير المستعدين في دائرة الكاتب .
 فكرتي هي أن العنصر الخيالي في هذا الانتقال من المحاكاة المشتركة الي سخرية مفروضة يمكن أن يجلب معه فهما للوسائل البلاغية التي توضح قصدا بعينه لم يكن مفهوما قبل هذه الفكرة. فهل هذا يعني أن البلاغي يتضمن الخيال (بمعنى آخر، لا يؤاخذني علي كلامي)؟ وهنا يجب أن نستعد، لأننا عندئذ يمكن أن نفكر أن أي وسيلة نتواصل بها مع الحقيقة هي في ذاتها ليست حقيقية وبالتالي من المرجح أن تلغي الحقيقة التي من المفترض أنها تنقلها . ويجادل ( هايدن وايت Hyden White) بأن الخيال والتاريخ هما شيء واحد بهذا المعنى، فالوسائل البلاغية للتعبير عن كل منهما واحدة . وهناك الكثير لنسي دبه في هذا الوضع . ولكن اذا كان المعنى استخدام طبقا ل (فيتجنشتاين) ( فهم الفرق بين المحاكاة والسخرية هو هذا بالضبط)، فيجب عندئذ أن ينشأ الفرق بين الوسيلة والمعنى . لأن الاستخدام ليس وسيلة فقط، بل هو القصد وإطاره، الذي يحفز وسيلة بعينها في اتجاه معين، والذي نجادل بأنه حقيقة الموقف .
 وعندما تزعم (دياموند) في النهاية أن هناك حقيقة يجب نقلها في الأداء، فان ذلك أساسا هو الاحتمال في موقفنا التاريخي(21) . فحقيقتنا التاريخية تفسر دائما من موقفنا التاريخي غير المستقر والذي يتطلب تأكيدا من إنتاجنا الذاتي للهوية كأساس . وهذا يثير المفارقة التاريخية التي تتوقف فيها حقيقة لحظة تاريخية أخرى علي تفسيرنا الناتج عن لحظة تاريخية خاصة بنا، والتي هي محتملة أيضا، ويتحدى تدفق الزمن تلك الحقيقة باستمرار . انه مثل محاولة إطلاق النار من قطار متحرك علي هدف في فقطار آخر . ولذلك مع كل هذا الاحتمال حول اسم آخر للصدفة أو الظرف – مهما كانت الحقيقة غير محددة الي حد كبير – فمن الممكن أن يكون المطلب الواحد جيدا مثل الآخر . وإذا كان الأمر كذلك، فيصبح مفهوم الحقيقة نفسه مشكوك فيه . والأكثر من ذلك أننا نستطيع أن نتساءل الي أي مدى يمكن أن يوظف المسرح باعتباره ناقلا للمعرفة التاريخية، والتي هي مطلب للكيفية التي يعمل بها التاريخ في المقام الأول . في الواقع هناك بعض الحقيقة في هذا الأمر، باعتبار أنها مشكلة دائمة للمسرح، وربما بشكل أكبر بالنسبة للسرد المكتوب . فهل فكرة (بريخت) أن المتفرج سوف يشاهد نفسه تاريخيا بمشاهدة الأحداث وهي تعمل تاريخيا علي خشبة المسرح فعلا ؟ أم أنها ببساطة تتملق موقفنا التاريخي ( أو موقفه) الأكثر إقناعا بينما نفترض أن إدراكنا النقدي لزيف الاعتقاد الاجتماعي الزائف سوف يقودنا تلقائيا الي فهم زيفنا ؟ (22) . ولكن مرة أخرى، تبدو مشكلة تأكيد الحقيقة التاريخية والزيف قليلة الأهمية بالنسبة ل (دياموند)، فبالنسبة لها، من المفترض أن ينجح التأريخ عدم اليقين وعدم المعقولية في قلب النموذج التمثيلي البطريركي (الأبوي) للحقيقة دون إعلان حقيقتها ( وربما رغبتها في أفضل الأحوال) . ف (دياموند ) تميز الموقف بهذه الطريقة : “ يفترض التأريخ البريختي كل من التاريخ غير الرسمي والمؤرخين غير الرسميين ويعززهما .... وهي حركة لا تقدم الحقيقة، بل تقدم المتعة والإتقان (23) .. فهل أنا وحدي الذي يبحث عن هذه “ المتعة والإتقان “، المثير للقلق سياسيا ؟ .
 هناك نماذج للحقيقة الضمنية موجودة في تفسير المسرح أو تلقيه . وهذا صحيح حتى في النظريات المتأثرة بما بعد البنيوية التي هي تمثيلية مضادة أو تزعم أن الحقيقة هي مجرد أثر في بنيات القوة، المصنوعة وليس المكتشفة، ألا وهي الرؤية الأدائية في مقابل الرؤية المسرحية . وفي هذه الحلة يتم العثور علي افتراض الحقيقة فيما وراء مجرد صنعها موجود في الادعاء بأن الحقيقة هي مجرد شيء مصنوع . وهذا النموذج هو نموذج للتمييز – الأفلاطوني الجديد بحد ذاته – سواء نٌسب الي البشر او نسب الي مؤسساتهم . فهناك فكرة سائدة بأن المسرح يعمل بدون نماذج، وأنه يخلق نماذجه . ولكن هذا شيء مغلوط : إن المسرح لا يعمل من أشكال مثالية بل يعمل من أنواع حياتية، كما فهم أرسطو . وان لم يفعل ذلك، فلن يستطيع ممثل أن يؤدي شخصيات غير مفهومة، ولا يملك أي متفرج إمكانية فهمها، ناهيك عن التطابق معها . ولا ينبغي أن تقودنا درجات التجريد من النماذج الممكنة، مهما كانت مؤتلفة، إلى افتراض أنها نتاج مرحلة فريدة أو سابقة .
 تكمن المشكلة في النقد ما بعد البنيوي للمحاكاة في الإسقاط التفسيري النموذجي لتعريف كل شيء أو لا شيء حول ما يدعي أن نقد، حتى عندما لا يزعم مثل هذا أبدا المؤلفون الذين هم هدف النقد . إذ يقال إن المحاكاة تختزل كل الاختلاف الي التشابه والى الهوية الكاملة . ولم يدع أحد هذا، ولا حتى أفلاطون . ففي الكتاب العاشر من “ الجمهورية “، نتذكر مقولة ملاحظة سقراط عن أن تسليم الرسام للسرير يوضح أنه لا يرقي إلى حقيقة السرير المثالي، وأقل بكثير من السرير المصنوع، وسوف يظل كذلك دائما . وهذا بالنسبة لأفلاطون هو أحد مشاكل التمثيل، لأنه ليس مخلصا للأصل المثالي ولن يكون كذلك أبدا - لا يجعله واقعيا تماما لدرجة أننا نشعر بالارتباك . فمثلا، قد نواجه هذا بالقول بان المشكلة الأخرى بالنسبة لأفلاطون هي مشكلة المشاهد الذي أصبح يحاكي ما أصبح نموذجا للسلوك وينظر إليه علي خشبة المسرح من خلال خلطه بالواقع . ولكن افتراض العادات السيئة من خلال تمثيل الشخصيات السيئة ليس تمثيلا مربكا للواقع . وهذا مؤهل للكبار عندما يلاحظ سقراط أن الأطفال غير قادرين علي فهم ما يرونه ويسمعونه “ مجازيا “، ولكن لا يجب الخلط بين الواقعي Literal والفعلي Actual . يمكن لنا أن ندرك أن فعل القسوة الجسدية من جانب الممثل مزيف، وفي نفس الوقت مستوحى من اللاوعي بالقدر الكافي في سياق نواياه لمحاكاة السلوك . فما يمكن أن يدعيه هو أن قوة المحاكاة التي تناشد العواطف تميل إلى تجاوز قوة العقل العليا في الروح . ويعلق سقراط علي المهارة التي يظهرها هوميروس بهذه السهولة لتحقيق المتعة، وهذا بالتحديد بسبب هذه المهارة – التي رغم أنه يعجب بها – فإنها في غاية الخطورة . ولكن مرة أخرى، انه استخدام خاص للمحاكاة – مهما كانت الجدوى الفعلية لمزاعم أرسطو حول الاستخدام – وليس المحاكاة نفسها .
 يصبح التمثيل كانعكاس للمثالي في الفكر بعد البنيوي انعكاسا للاهتمام الطبقي والمعاني المهيمنة . ولكن تظل عملياته في مختلف الإعدادات الأيديولوجية هي نفسها وظيفيا، حتى لو كان هدفها مختلف . ويفترض استخدام (دياموند) لكلمة Mimetisme باعتبار أنها محاكاة مع الفارق، فانه يمكن أن توجد محاكاة بدون اختلاف، وكذلك الحاجة إلى المحاكاتية . ولكن، في الواقع، اذا كنا ننكر التوظيف المتقن للتمثيل كمفهوم، ألا يتعين علينا أن نقول ان كل محاولات التمثيل تؤدي الي المحاكاة ؟ ليس باعتبارها تشويه متعمد (أو ينبغي أن أقول اعادة تشكيل تفسيري ؟ ) لأهداف شخصية، ولكن كقصور مستمر بسبب حتمية عجزنا عن تحقيق أهدافنا . وتصبح المحاكاة عرضا للإشارة الى عدم القدرة الحتمي أن تكون تمثيلية باعتبارها شيئا مقصودا، أو كما تقول ( جوديث باتلر Judith Butler) “تعمل بذكاء علي ضعف الفشل الحتمي للاستقرار المتكرر فيما يتم التعبير عنه “ . ويمكن أن يكون العكس صحيحا أيضا، إذ يعترف “بوزو”، في مسرحية “ انتظار جودو “، بعد خطبته أنه تعثر في النهاية، بينما اعتقد “ جوجو” أنه متعمد . وربما يوجد نفس الأمر فيما يتعلق بقصدية ما يسمى “ الجوهرية الاستراتيجية Strategic Essensialism “ .
 الشيء الغريب في ردود الفعل علي أفلاطون هو الطريقة التي يبدو فيها أن الناقد التفكيكي، الذي يزعم أنه مضاد للأفلاطونية، يؤمن بما يقوله، بينما يبدو مناقضا لموقفه حول قيمتها . فقد اعتقد ( والتركوفمان Walter Kaufamamm) مثلا أن بريخت كان أفلاطونيا (26) . ويبدو أن هذا غير مرجح لأنه من المفترض أن يكون بريخت ماديا وكان أفلاطون مثاليا . ولكن من المرجح أكثر أن عدو عدوي صديقي . بمعنى أنه لأن أرسطو عدو بريخت وقد أعاد أرسطو النظر في رؤى أفلاطون حول التمثيل، والعواطف في المسرح، فان أفلاطون الآن هو صديق بريخت . ورؤية أرسطو هي رؤية حميدة . ويبدو أن أفكاره عن التطهير تجيب علي قلق أفلاطون فيما يتعلق بإثارة العواطف غير العقلانية في جمهورية عقلانية والهدم التمثيلي لنماذج الخير عن طريق تقديم نماذج الشر . فبريخت، برغبته في رؤية المسرح كقوة ثورية، يجب أن يجد طريقة للتغلب علي نظرية أرسطو المتمثلة اليأس القمعي ؛ باستعارة لتعبير ( ماركيوز Marcuse)، وايجاد حليف له في نظرته الهدامة لمسرح أفلاطون . فقد أضافت طبيعة بريخت التدميرية الي ما كان يخشاه أفلاطون، ولكنه يؤكد الحقيقة المفترضة في وجهة نظر أفلاطون . ففي كثير من الأحيان نجد علماء المسرح يبحثون بفعالية عن المسرحانية المضادة عند الآخرين كوسيلة لإثبات مدى فعالية المسرح والقلق الناتج عنه، بينما من غير المرجح أن مسرح اليوم، في الواقع، لديه إمكانيات كبيرة لمثل هذا . والتأكيدات المستمرة بأن ( جون أوستن J.L. Austin ) مضاد للمسرح بسبب ما قاله عن عدم وجود الظروف الاجتماعية والقانونية للسعادة في أفعال كلام معينة مثل وعود الزواج علي خشبة المسرح هو حالة من المغالاة والإفراط في هذه النقطة .
 وبنفس الطريقة، فان (دياموند)، المتأثرة بالتفكيك، تعارض أفلاطون بسبب افتراض أن مفهومها عن التمثيل يتوافق مع نموذج مثالي أو الهي للحقيقة، والذي يشجع في نظرها مفهوم ثبات الطبيعة الأبدي . وبالنظر الي السياق البطريركي، فان هذا يعني أن النساء لن يكونوا قادرين علي التعبير عن حالتهن طالما تم إصلاح نموذج التمثيل . ولذلك يجب تخريبه . ولكن هل هي والفنانين الذين تمثلهم يقومون بهدم نموذج التمثيل (التمثيل نفسه)، أم هل يعتقدون أنهم أمثلة محددة تهدم تطبيقا بعينه لنموذج التمثيل؟. يبدو أن ( دياموند) تتناول كلام أفلاطون حول علاقة التمثيل بأشكال مثالية، بدلا من أن تقول ببساطة : ان مفهومه عن التمثيل خاطئ، وأن الأمر كذلك علي الإطلاق . وإذا ظنت أن فكرة التمثيل لم تنجح، فلن تكون هناك فائدة من محاولة هدمه . وبالتالي يبدو أنها تؤمن بمفهومه حول كيفية عمل التمثيل، حتى لو لم يعجبها الكيفية التي يعمل بها التمثيل . ولكن أرسطو يفسد كل ذلك. ففكرته عن التمثيل يتم التعبير عنها من خلال صيغة إبداع فردي سماها فن الشعر – وهذا ليس مجرد تكرار للمثل الموجودة مسبقا ولكنه شيء يصنعه الفرد برؤية الفرد، ويوضح بالفعل الفرق الذي لا مفر منه والذي يقيم دائما في التمثيل . فلا يوجد تشابه . فربما أن المحاكاة هي صيغة أخرى واستخدام للمحاكاة الأرسطية بالإضافة إلى فن الشعر بدون معرفته .
 وأكثر من ذلك، علي الرغم من أن (دياموند) تشير في وقت ما إلى (هومي بهابها)، الذي يقوض أيضا فرضية التشابه التي تحفز الخطاب الكولونيالي العنصري بقدر ما يعمل الخطاب الجنسي. فبالنسبة له، فان التمثيل المفروض علي الهند المستعمرة من قبل البريطانيين ليست مٍسألة تشابه، بل تحويل المستعمرين إلى نسخ من الانجليز ( وليس العكس : قراءتهم علي أنهم الآخرين الهمج)، بل جعلهم نفس الشيء ولكن ليس بالكامل لتبرير الاستعمار المستمر علي أنه مهمة حضارية . ( ولكن حتى هنا فان مشكلة افتراض هذا الاختلاف هي ببساطة مسألة قصد وليست نتيجة حتمية). ومن وجهة نظر معاكسة، أولئك الذين يخشون من عولمة الثقافة الأمريكية بأنها عملية تجانس – أو تحويل الجميع إلى حيوانات أمريكية مستنسخة – لا يمكنهم رؤية الفرق الذي يأتي حتما من التأثيرات الخلقية في النماذج الغربية، والتي تنتعش مرة أخرى في النموذج الغربي وتغيره أيضا . ويمكننا أن نذهب الي أبعد من هذا ونسأل ما الذي يبقى غربيا في هذه العملية من الأساس . اذ لا توجد طريقة بسيطة للمفاضلة في فهم العمليات التمثيلية .
 وعندما نفكر في طبيعة المسرح، والتقدير الذي يجلب إليه الإعجاب بتأثرات الممثلين علي وعينا وعواطفنا، فذلك لأننا نقبل، ان جاز التعبير، حقيقتين في وقت واحد (أو تقريبا علي الفور) – ونوعية التفاعل لاستحضار الحقائق التي نجدها متجمعة أن لم تكن ضرورية . بمعنى أن أحد الحقائق هي الممثل ومهارته ؛ والثانية هي الدراما نفسها، التي يعيدها الممثل من خلال مهارته الي الحياة ؛ وتنشأ من التفاعلات الأكثر مهارة و تحصنا الوقائع التي تنشأ منها الحقيقة المعنى عن حالتنا ونحن نفهمها كوجود أو احتمال . فليس من الضروري، كما يٌعتقد غالبا، أن تختفي حقيقة الممثل تماما في حقيقة الدراما لأن الأداء له تأثير علينا . فقد يتوقف إعجابنا بالممثل، وربما يتشوه أي فهم لأي حقيقة يمكن أن نتلقاها منه جزئيا . فإعجابنا بمهارة الممثل في إعادة الحقيقة الخيالية إلى الحياة لن يبدد بالضرورة أي حقيقة (نفسية ’ وسياسية) يتم نقلها من خلال الأداء . ومع ذلك يظل سؤال ما إذا كنا نستطيع أن نلمس كلى الحقيقتين – المسرحية والدرامية – في ذهننا في نفس الوقت، أو إذا لم يكن مؤثرا علي التبديل كما هو الحال اللغز الأساسي (الأرنب/ البطة، صورتين / مزهرية واحدة) . فنحن نقع أسرى في خيال الدراما وننسى المسرح لحظيا، حتى عندما نعود الي المستوى المسرحي في الإعجاب بمهارة الممثل .
 كل هذا يبدو مقصور علي المسرح . ولكن هل هو كذلك؟ عندما نقرأ نظريات البناء الاجتماعي، فإننا نواجه باستمرار تكوين نصف الثنائي الذي يرغب في التغلب علي الآخر التعويضي مع عدم الفرار منه مطلقا. وأنا أفكر في البناء الاجتماعي اللانهائي / الخصومة الأساسية. فالمصطلحات التي نواجهها في النظريات المسرحية التفكيكية يمكن أن تتساوى ضمنا : المسرحانية = البنائية ، والدراما = الجوهرية. بمعنى أننا نقرأها في مصطلحات المدافعين علي الطليعية الواقعية المضادة الذين يرون الواقعية الدرامية باعتبار أنها غموض ايديولوجي أو نزعة أساسية. ومع ذلك، ما المحاولة في امكان وجود شكل مسرحي مكون من الأداء بالكامل؟ أي أكثر من مجرد نظرة بنائية اجتماعية للواقع بالكامل لا تنزلق لحظة إلى التفكير الأساسي . ولعكس الأمور، كيف نعرف أن الاغتراب المسرحي سيكون له أي سلطة أكثر من الموقف الدرامي الذي يضعه في إطار ؟ فهل يمكن أن نقرأه بشكل معكوس ؟ فالموقف الدرامي يضع التعبير الحركي في إطار، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يفهم بها الناس دال الاغتراب . يبدو أن محاولة استبعاد التمثيل والأدوار هي الطريقة الأولى لاستبعاد الواقعية تماما من المشهد وإنشاء نزعة مسرحية متشككة . ومع ذلك هل يمكن أن تكون لدينا مسرحانية بدون أدوار ؟ تعود مثل هذه الأشياء دائما الي غموض المؤدي نفسه باعتباره ماهرا – بلاغيا وجسديا وجدليا وما الي ذلك . وبالتالي فان الراحل (سبالدنج حراي Spalding Gray) حقق الغامض في فعل الكشف الذاتي نفسه . فلا ينبغي أن يفهم صدق أدائه مع التأكيد علي الفترة الأولى، ولكن علاقته الغامضة والمتصارعة في فترته الثانية هو أمر مهم . وهذا هو تأثير الصدق علي المتفرج حتى عندما تتم الإشارة إلى آليات إبداعات الأداء، وهو ما يفسر المكون الدرامي الأساسي بشكل لا غنى عنه .
 بعبارة أخرى، يريد البناء الاجتماعي الراديكالي أن يكون لحظة التفوق الوحيدة، وهو نوع من الإحساس، بكل ما في الكلمة من معنى، الذي يعتقد أنه يمكن يخلقه بدون أي عمي جوهري . ولكن هذا مستحيل، كما يتضح من التناقض الذي نراه في مقال نيتشه عن “الحقيقة والكذب بمعنى غير أخلاقي Truth and Lying in an Extramoral sense”، حيث يريد أن يدعي بأن الحقيقة هي دائما تأثير يتم ابداعه بواسطة الاستعارة الميتة، ولكن هذا يعني أن حقيقته عن صنع الحقيقة تستدعي سؤال الطبيعة الفعلية لادعائه : إما تراجع لا نهائي أو تناقض . وقد حاول (فوكوه Faucault) أن يجعل هذه الفكرة أقوي من خلال التنشئة الاجتماعية للمسألة باعتبارها “ أنظمة الحقيقة “ ولكنه لم يكن أكثر نجاحا من نيتشه في تفادي التناقض . ويمكن إنتاج الكثير من الشيء نفسه من خلال الاختلاف حول موضوع إنتاج الحقيقة : مثاليات الأدائي الجديد . ولكن الأدائي – رغم أن دريدا وباتلر قد قرأ أوستن – كشكل للبناء يعتمد علي الإيمان الأساسي الذي تم الحصول عليه من منح بنية أساسية تدعمها وتمكنها في المقام الأول . ان الادعاء بأن كل عنصر ثابت دائما يكون مؤسسا اجتماعيا وليس له قيمة أكثر وضوحا من أي أداء تابع آخر هو الانخراط في نوع من التراجع اللانهائي وفقا لتأسيس نيتشه للحقيقة في إنشاء الاستعارات.
 بينما من السهل أن نتخيل أن الدراما التي نراها تتكشف في تصديق خيالي مبدع تعتمد فحسب علي الأساس المسرحي أو الاجتماعي، فربما من الأسهل أن نلاحظ أن صورة المسرحانية الواعية بذاتها نفسها تعتمد علي أساس لا جدال فيه في الاعتقاد في قوة المسرحانية لخلق هذا الخيال الدرامي . بمعنى أن هذا يدفع إطار خشبة المسرح النفسية ولكن خطوة الي الخلف (لاحظ ما قيل سابقا عن فرقة ووستر جروب). وهذا مماثل، مرة أخرى، لمشكلة، أنه لكي نصدق مفهوم نيتشه في انتاج الحقيقة، فلا بد لنا أن نعلق تقديمه للحقيقة ونقبلها علي أنها حقيقة تتجاوز مجرد تقديمها من جانبه. فتعليق عدم التصديق فيما يتعلق بالتناقض الادائي عند نيتشه الذي يعفي زعم حقيقته من مجرد التقديم المجازي – ادعائه فيما يتعلق بهذا التقديم صحيح – يعكس بشكل غريب الشرط الأنطولوجي للمسرح نفسه، حيث من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نفصل الظاهراتي عن الأنطولوجي . فهو طبيعة جوهرية لبناء كل من المقبول والمنسي علي حد سواء .
.......................................................................................
جون اريكسون يعمل استاذا للأدب الانجليزي في جامعة ولاية أوهايو، وله العديد من المؤلفات في مجال المسرح والأداء منها علي سبيل المثال ، “مصير الشيء : من الشيء الحداثي الي العلامة بعد الحداثية في الأداء المسرحي “
نشرت هذه المقالة في مجلة the Journal of dramatic theory and Art criticism .


ترجمة أحمد عبد الفتاح