الجسـد المســرحى.. تلك الشفرة المقدسة

الجسـد المســرحى.. تلك الشفرة المقدسة

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

كما أن الماء يسري في الدم كرسول حياة ونماء، فإن الجسد على المسرح هو وريد الحياة وموضع تيارها الساري؛ هو موصل الدراما الأول والأهم مهما أبدعت بقية العناصر، فهو حامل شفرة العمل معانيه الداخلية وشفرة الإنسان المتلقي بل شفرة الإنسان عموما بتاريخه البدئي، وحامل ما لم يقله النص وربما ما لا يستطيع قوله، يسكنني هذا التقديس لفكرة الجسد المسرحي وتبجيله دراميا. ومن هنا كانت هذه الفكرة هي المسيطرة وحدها عند التفكير في إعداد ملف مسرحي.. وفي هذا الملف لدينا سبعة مقالات حول الجسد المسرحي بمداخل متعددة، فتصطحبنا د. أسماء يحيى الطاهر إلى أفريقيا عالمها المسرحي المفضل والجذاب بمقالها «جدليات الجسد في المسرح الأفريقي» متناولة فيه الجسد في المسرح الأفريقي باعتباره أداة للتواصل الثقافي ومعبرا عن الهوية، خاصة أن الثقافة الأفريقية أدائية واحتفالية تقوم على الطقوس والأداءات الجسدية، وذلك من خلال تأمل لمسار التعبير الجسدي الأفريقي وتأثير الظروف السياسية والاجتماعية التاريخية على لغته وتفاعله معها مع الإشارة إلى التأثير الكولونيالي على الدراما الأفريقية ؛حيث ترى د. أسماء مدللة بأمثلة متعددة أن محاولات قهر الجسد الأفريقي امتدت «إلى فرض القواعد الدرامية الأوروبية التي تعتمد بشكل كبير على اللغة المكتوبة» بينما الخطاب في المسرح الأفريقي يتم إنتاجه عن طريق الجسد الذي يحمل دلالات لانهائية مما ترى معه أن العودة للهوية تكون بالعودة للجسد الأفريقي وشفراته. كما يقدم د. فريد النقراشي مقالا بعنوان «الجسد بين المفهوم التقني والاجتماعي» يحوي مقدمة كتابه الهام «الجسد المقدس» الذي ينطلق فيه من تطور النظرة إلى الجسد الدامي في القرن العشرين انطلاقا من تطور النظرة العلمية للجسد في علوم عدة، وظهور الكثير من نظريات الجسد مع خضوع جسد الممثل للكثير من التجارب والأبحاث التي أدت لظهور فلسفات جدلية خاصة بحركته وأدت بدورها لانتقال الجسد من السياق الوظيفي إلى الدلالي، ليكون مسمى التعبير الجسدي بديلا فنيا لحركة الجسد، ليشير د. فريد للمفهومين؛ التقني والاجتماعي، للجسد وما أفرزاه من توجهات لجسد الممثل، وصولا للمناهج الحداثية للحركة. ويتناول د. حسن عطية في مقال هام قضية الجسد بمنظور ثقافي في مقال بعنوان «جسد الإنسان وعقله.. جسد المسرح وفضاؤه» معبرا فيه عن تأثير المنظور الأخلاقي المقيد في التعامل مع الفن متأملا نماذج لحوادث ومواقف عدة، مشيرا لمأزق الفرار من مطاردة المتطرفين إلى تطرف مثله أوجد بدوره تيارا متطرفا في الاتجاه المعاكس، بينما كان الجسد في كل الحالات باعتباره رمزا للجنس وأحد التابوهات الأساسية محورا لهذا التطرف بفلسفة خاصة مغايرة، ومتطرقا لتأصيل فكرة الجسد في البناء الطقسي الأسطوري للإنسان كنواة للبناء الدرامي المسرحي فيما بعد، مشيرا بعرض ثري بالنماذج والأمثلة لخطورة الازدواجية والخصام بين الفكرة وممارستها، ويطرح د. سيد الإمام طرحا هاما في مقال بعنوان «في هامش لغة الجسد» يعرض فيه فكرة ارتباط الجسد وحركته بالفطرة الأولى للإنسان قبل تكبيلها بالثقافات المتواترة والموروثات الأخلاقية، مستعرضا بدايات الحركة لدى الإنسان ومتتبعا تأثرها بظهور اللغة وتغير الشكل الحضاري أو المرحلة الحضارية واستكشاف العلاقة بين تراجع حركة الجسد اجتماعيا وفنيا وبين صورة المرأة اجتماعيا في ربط دلالي وسياقي ثري. معنا أيضا الناقدة أميرة الوكيل ومقال بعنوان «قراءة في لغات الجسد المنسية» متأملة فيه لغة الجسد في التاريخ الإنساني مستعرضة بتدفق سلس لنماذج فنية حديثة في فنون مختلفة، وصولا لاستعراض لغة الجسد في بعض الأعمال المسرحية والإشارة لدلالاتها، وننتقل إلى لندن حيث يرصد لنا المخرج محمود سيد في مقال هام ومميز بالفعل بعنوان «مناهج الأداء المختلفة من واقع التجارب المسرحية في المسرح البريطاني الحديث»؛ بعرض يستحق التأمل لعدة نماذج لتجارب مسرحية عرضت على مسارح لندن في السنوات الأخيرة بالتركيز على لغة الجسد ودور الجسد في صياغتها مثل العرضين المسرحيين «MISSING» و»THE DROWNED MAN» وغيرهما مستخلصا أهم السمات التي ميزت هذه الأعمال. وأخيرا، يتضمن الملف مقالا لمعدته الناقدة أمل ممدوح عن المسرح الفيزيائي بعنوان «المسرح الفيزيائي.. ورقات تاريخية وتجارب حديثة» متتبعة تاريخ المسرح الفيزيائي وفلسفته وأهم رواده وارتباطه الطقسي بالتاريخ الإنساني، وصولا لاستعراض نماذج مسرحية حديثة تتبع فلسفة وأسلوب المسرح الفيزيائي.
بهذه المقالات السبعة صغنا هذا الملف عن أهم أعمدة العمل المسرحي بل عموده الفقري «الجسد وحركته» الذي رأينا أنه يحتاج إلى وقفة خاصة آملين أن يكون ملفا موفقا ومفيدا.. فقراءة ممتعة.


أمل ممدوح