نساء بلا غد صرخة إنسانية مبحوحة في وجه العالم

نساء بلا غد صرخة إنسانية مبحوحة في وجه العالم

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

عن نص «نساء بلا رب» للكاتب والمخرج العراقي جواد الأسدي، قامت المخرجة السورية نور غانم بإعداد وإخراج عرض «نساء بلا غد» من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي قدمته في قاعة مركز الإبداع ضمن عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الرابعة والعشرين.
يبدو منذ البداية في تغيير الاسم، أن المخرجة في الإعداد عبر الحذف والإضافة تقدم بوعي رؤيتها الخاصة المبنية على اقتراب حميم من التجربة، وربما معايشة لواقع كارثي تمثل في خسارة نساء العرض حياة بأكملها تتمثل في تهجيرهن القسري من موطنهن وعدم تقبلهن من المجتمع الجديد الذي يقبلن عليه، ويقابلهن بالتشكك والريبة، ويحرمهن من غد يأملنه.
ثلاث نساء من خلفيات اجتماعية مختلفة جمعهن مأوى واحد في ألمانيا، وطاولة تحقيق واحدة في أمر قبول لجوئهن، هكذا تسير الحكاية في مسارين متجاورين، مسار تتصاعد فيه الحدة والتوتر بين شخصيات العرض، الذي ينتج عن الاختلاف الطبقي ثقافيا واجتماعيا بين الشخصيات القادمة من خلفيات ثقافية مختلفة من نفس الوطن، ويعتبر هذا المسار هو المبرر الدرامي للمسار الآخر حيث يبرّر تصاعد الخلاف هنا، التصاعد والتطور الذي يحدث في جلسات التحقيق في أمر قبول اللجوء للثلاث نساء، فتنكشف لنا عبر جلسات التحقيق حقائق أكثر وأكثر كلما تعددت الجلسات متوازية مع حدة الخلافات حتى تصل لذروتها في النهاية.
يبدأ العرض أمام منصة التحقيق حيث تعلن كل واحدة منهن عن رقمها وتحكي شذرات متناثرة تنتقيها عن خلفيتها الاجتماعية والثقافية، لكن ذاك شيء لا يهم سيادة المحقق بالتأكيد، الذي لا يريد سوى ضمان أمان بلاده. فيما تستمر النساء في سرد حكاياهن وما بدا وكأنها محاولات استرضاء وإعطاء المحقق الضمانة وصك الأمان كي يقبل بلجوئهن، فمنهن من تطمئنه عبر خلفيتها المتدينة المسالمة حيث تعيش - حسب زعمها - وأهالي بلدتها جميعهم متبتلين متضرعين إلى الله، ومنهن من تحاول طمأنته عبر ثقافتها وكونها ممثلة مسرحية أدت أدوارا عظيمة على خشبة المسرح، والثالثة عبر كونها من طبقة اجتماعية متحررة ومنفتحة.
المحقق لا يظهر في العرض، ولكن المخرجة ببراعة اكتفت بوقوف الممثلات أمام الجمهور لتتشكل هيئة التحقيق من الجمهور/ العالم الذي يقف ويتفرج ولا يتدخل لينقذ الضحايا ولو بمجرد لجوء كريم، لكن فقط ليسأل ويتقصي ويحاكم ويحافظ على أمنه متشككا في الضحية التي سُلبت منها إنسانيتها عبر صور متعددة لمعاناة حقيقية عاشتها وما زالت تعيشها الشخصيات، لنصبح وكأننا أمام كوميديا سوداء تحاكم الضحية وتحولها إلى جانٍ وموضع اتهام، كما وظفت المخرجة الإضاءة لخدمة هذا الإيحاء حيث اتخذت من الكشاف الأمامي يمين القاعة، ما يشبه كشافات الإضاءة المسلطة على وجوه المتهمين في غرف التحقيقات.
تتصاعد المواقف وتشتد الخلافات بينهن في الملجأ بناء على اختلاف اجتماعي ثقافي بينهن، وإن جاز هنا لنا طرح التساؤل، هل كان هذا الاحتلاف الثقافي كافيا كمبرر درامي لهذه الحدة والتوترات التي ظهرت؟ هل مواجهة المحنة التي يمرون بها بالانقسام والخلاف الذي وصل للشجار البدني، كان مبررا أم ربما كان مطروحا منطقيا أن يواجهنها بالقرب والاحتواء؟ ولكن في النهاية كان اختيار العنف، لنكتشف أن ضحايا العنف يلجأن أنفسهن للعنف لحل خلافاتهن، وتجدر الإشارة هنا لمستوى آخر من التأويل يصل إلى أبعد من تسليط الضوء على معاناة الشخصيات، بينما يمتد لطرح وجهة نظر وحلول للصراع، يمكن تلمس هذه الرؤية عبر سؤال على لسان الفنانة المثقفة تسأله لرفيقتيها بعد الشجار، هل لم نعد نستطيع حل مشكلاتنا سوى بالعنف؟ في إشارة ذكية أن سبب العنف يكمن في طرفي النقيض، من الأصولية المتشددة والحرية غير المنضبطة التي لا تناسب ثقافتنا الشرقية، والصراع المستمر بينهما، وحل هذا الصراع هنا وما يفرزه من استقطابات وعنف، حسبما تطرحه المخرجة عبر شخصيتها هو في الفن والثقافة والوعي والحوار.
مع وصول الصراع لذروته بالشجار، يصبح من المستحيل أن يعشن داخل ملجأ واحد، فيقفن جميعهن ليصلن بالمشهد الأخير لذروة حكيهن عن معاناتهن، التي نبعت من خلفية كل منهن أيضا، وكأنهن يتعرين بشكل كامل، ربما ليفضحن العالم أكثر، حيث تعرضت الأولى التي تتظاهر بالتدين، بينما تتكاثر شكوك حول مرافقتها لرجل بوسني، تؤكدها هي نكاية في رفيقتيها ثم تنفيها، تتعرض هذه الشخصية الأصولية المقهورة لحالات اغتصاب متكررة بداعي نكاح الجهاد من شباب جهادي في بلدتها، بينما المتحررة المنفتحة التي تمادت في السكر بداعي الحرية، نعرف منها أنها خسرت وليدها الذي حملت به من فتى رافقته سنوات، وبعد رحلة مرضية للطفل بثقب في القلب وشفائه منه، ثقب قلبَه رصاصةُ حرب، والثالثة الفنانة المثقفة، بعد أوج الشهرة والذيوع، تُسحب وتسجن قهرا لا لشيء سوى لكونها من أسرة ثرية، وتهرب في سيارة مع الحيوانات يكون فيها الحيوان في الأعلى بينما هي في الطبقة السفلى.
تنكشف الحقائق جميعها، كي تتداخل الأصوات وتتشابه حركات الجسد لهنّ جميعا لنصبح أمام ضحية إنسانية واحدة في صور مختلفة، أوجه لنفس العملة، التي مهما اختلفت تفاصيلها لكنها تتوحد في المعاناة وتجاهل العالم لهن ولمعاناتهن، ليسألن جميعهن بأصوات مبحوحة ونشيج مختلط، سؤال العرض الجوهري في تصوري «أم أن هذا لا يعنيك سيادة المحقق؟» وهو السؤال الذي يشهره في وجوهنا نحن الجمهور بالأساس، لينتهي العرض بين هذا السؤال على ألسنتهن وتأكيد أرقامهن في كشوف اللاجئات.
جاءت موسيقى العرض – من إعداد محمود نبيل - حادّة تناسب الحدة العامة للعرض سواء المبنية على خلفية حدة الحرب التي هربت النساء من ويلاتها أو تصاعد حدة الخلاف بينهن في المأوى الذي يجمعهن، ولكن دائما هناك من وسط أشد اللحظات صعوبة، ما تأتي بعض لحظات النشوة والفرح، فتأتي لحظات راقصة بموسيقى التانغو وإيقاعها المرح.
أداء الممثلات سماء إبراهيم، وبسمة ماهر، ونهال الرملي، كان موفقا ومعبرا عن التباين في الشخصيات، ورغم الخط العام الذي يجمعهن كلاجئات من نفس الوطن، فإن ذلك الخط العام، لم يمحُ الاختلافات، أو يذيب الفروق الشخصية للشخصيات المختلفة التي حافظت الممثلات على إبرازها، وأجدْن في ذلك غير بعض الهنات اللغوية التي تناثرت هنا وهناك صادرة عنهن.
عرض “نساء بلا غد””، كان عرضا موفقا – حسبما أرى - في غالبية عناصره البسيطة وشديدة الدلالة بما يناسب حالة العرض، ويعبر عن معاناة إنسانية عميقة ولدتها الحرب التي تولد عنها أيضا تشوه تداخل شخصيات العرض ذاتها، التي كانت في رحلة تكشف وتصاعد للغضب، لنصبح أمام شخصيات سلبتها المعاناة شعورها بإنسانيتها في النهاية لتتحول لمجرد أرقام تتراكم، تأمل في غد أفضل، لكن العالم يحرمها بكل قسوة ولامبالاة، من هذا الغد.


أحمد منير أحمد