ورقة الشرقاوي عن «تشيكوف» تفتتح عروض (اضحك- فكر - اعرف)

ورقة الشرقاوي عن «تشيكوف» تفتتح عروض (اضحك- فكر - اعرف)

العدد 668 صدر بتاريخ 15يونيو2020

في افتتاح  مبادرة  (اضحك- فكر - اعرف)  التي أطلقها البيت الفني للمسرح، والتي يقوم خلالها بتقديم عدد من العروض المسرحية المنتجة حديثا، وبثها عبر  صفحة وزارة الثقافة على الإنترنيت( أون لاين)  قدم المخرج الكبير جلال الشرقاوي عبر الفيديو، ورقة  بعنوان « من هو أنطون تشيكوف « و ذلك بمناسبة أن العروض التي يتم تقديمها خلال هذه المبادرة مأخوذة  عن أعمال الأديب الروسي الشهير. قبل قراءة ورقته قدم  الشرقاوي التحية  لوزارة الثقافة على ما تقدمه عبر قناتها من مادة ثقافية لتعويض توقف النشاط الثقافي والمسرحي بسبب الحظر. بعد ذلك تلا المخرج الكبير ورقته التي أعدها حول الأديب الروسي  قائلًا: ولد انطون تشيخوف عام 1860 وتوفي عام 1904 أي أنه توفي وعمره لا يتعدى الـ 44 عاما. قصيرة كانت تلك الرحلة لكنها كانت عامرة خصبة بالورود والأزهار والريحان التي نشرت عطرها على العالم أجمع منذ ذلك العصر الماضي، ولا نزال نتنسم شذاها حتى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله.
ولد تشيخوف في عائلة صاحب حنوت صغير في بلدة ريفية لم يجد ما يقوله فيها بعد سنوات إلا أنها مملة وشوارعها مهجورة وسكانها جهلة كسالى،  وكانت العائلة تجد صعوبة شديدة في تدبير أمور حياة أطفالها الستة، خصوصا وأن الأب كان منشغلا عن عمله بالأمور الفنية، فقد علم نفسه بنفسه العزف على الكمان كما أصبح رساما يرسم الأيقونات الدينية، وقد أثرت هذه الميول الفنية للأب على أبنائه، حيث لم  يهمل عمله بسببها فحسب، إنما  كان يقسو على أولاده قسوة بدنية شديدة، وقد دفعه حبه للموسيقى الدينية لتدريب أبنائه على الغناء في جوقة الكنيسة قبل أن يبلغوا سن المدرسة، فكان عليهم أن يستيقظوا قبل طلوع الفجر ليشقوا طريقهم إلى الكنيسة مهما كانت حالة الطقس.
كتب تشيخوف بعد ما يزيد عن ربع قرن من ذلك التاريخ: «كنا ونحن أطفال نشعر وكأننا نؤدي عقوبة طويلة الأجل من الأشغال الشاقة»، وعن طفولته المبكرة كتب يقول: «كانت تربيتنا قاسية، بدأ أبي يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري، وكان أول ما يخطر لي حين استيقظ هل سأضرب هذا اليوم أم لأ، والعادة المتبعة كانت هي أن أطأطئ الرأس وهو يلهب مؤخرتي بعد أن أضرب لأقبل اليد التي عاقبتني بكل تلك القسوة».
وكتب في وقت لاحق قائلا بمرارة: «لم استطع أن أسامح أبي في أي يوم من الأيام، لأنه كان يضربني بالعصا حين كنت صغيراً»، كما يقول عن معاملة أبيه لأمه في رسالة لأخيه بعد أن شارف على الثلاثين من عمره: «أود أن أذكرك بأن الاستبداد والأكاذيب دمرت شباب أمك، كما دمرت طفولتنا، حيث أنني أحس بالرعب والغثيان حين أفكر بها حتى في الوقت الحاضر، الاستبداد سلوك إجرامي إلى أبعد حد».
ويتذكر انطون تشيخوف فيما بعد كيف كان عليه أن ينصرف عن اللعب ليقضي يومه في تشغيل «الدرَّاسة» التي تعمل بالبخار، بحيث يتأكد من أن حبات القمح تسير في المسار الصحيح، وبعد 15 عاما كتب لمحرر مجلة الأزمنة الحديثة أليكس سوفرين يقول: «الصفير والأزيز والطنين الصاخب للآلة وهي تدور بسرعة، صرير العجلات وماشية الثيران المتكاسلة، سحب الغبار، الوجوه المتعرقة لخمسين رجل أو يزيد كلها أمور محفورة في ذاكرتي لا تغيب».

من هذه الانطباعات المبكرة ربما نبع ذلك الممقت الشديد للحياة الرتيبة لهذه الطبقة الرثة والتي عالجها «تشيخوف» في كثير من قصصه، وتعبر عنها شخصيات مسرحياته في الكثير من الأحيان، ويقول على لسان أحد أبطاله في مسرحية «الشقيقات الثلاث»: «الناس هنا لا يفعلون شيئاً سوى الأكل والشرب والنوم ولإدخال بعض التنوع على حياتهم وليتجنبوا الملل فأنهم ينغمسون في النميمة التي تدعو للاشمئزاز، وشرب الفودكا والمقامرة كل هذه الفظاظة والتفاهة تسحق الأطفال وتخمد أي جذوة لديهم لذا يتحولون هم أيضا إلى مخلوقات بائسة نصف ميتة، يماثل أحدهم الآخر تماما ويصبحون مثل آبائهم وأمهاتهم»
علق الشرقاوي: ومع ذلك لم تخمد تلك الجذوة الدفينة في داخله، فكل السير الذاتية التي كتبت عنه تتحدث عن مرحه وحيويته، وقد أظهر منذ أن كان فتى يافعا شجاعة وميلا للمزاح لم يفارقه حتى وهو على فراش الموت. كما أظهر طاقة هائلة على العمل، وتعاطفا واسعا وهو يقول في رسالته لأخيه «نيكولاي»: «إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار، والقراءة الدءوبة والدراسة، والسيطرة على الإرادة، فكل ساعة من الحياة فانية»، ولم تكن تلك وصايا فارغة لإنسان ثرثار، بل دستورا يلتزم به تمام الالتزام في حياته اليومية، وبما أن جده كان عبدا فقد استطاع أن يشتري حريته وحرية أولاده ومنهم والد «انطون» قبل سنوات من إلغاء نظام العبيد في روسيا في عام 1861، ويشير «تشيخوف» في إحدى رسائله إلى أنه أخذ يعتصر العبد من داخله شيئاً فشيئا، قطرة قطرة، حتى أنه استيقظ في أحد الأيام اللطيفة وهو يشعر بأن دم إنسانه الحقيقي يجري في عروقه، عوضا عن دم العبيد.
تابع المخرج جلال الشرقاوي: وبعد سنوات المعاناة في «تاغانروغ» انتقل إلى موسكو، حيث بدأ يدرس الطب، وأصبح في نفس الوقت العائل الرئيسي لأسرته عن طريق الكتابة التي لم تكن تعني له في تلك السنوات أكثر من وسيلة لكسب عيشه ومعيشة أسرته، وبعد أن أنهى دراسته جمع بين مهنة الطبيب والكتابة الأدبية، وكان يحبهما كلاهما، يقول: إنني أشعر بتيقظ حين أدرك أنني امتلك مهنتين وليست مهنة واحدة، فالطب هو زوجتي الشرعية، أما الأدب فهو عشيقتي».
ظل «تشيخوف» شديد التواضع في نظرته إلى كتاباته طوال حياته على الرغم من كل ما حققه من شهرة، إذ يقول في إحدى رسائله: «تتراكم خلفي جبال من الأخطاء، وأطنان من الورق المليء بالكتابة، وبعض نجاح مفاجئ، غير أنني بالرغم من ذلك أشعر بأنني لم أكتب سطرا واحداً له قيمة أدبية حقيقية، وأنني أتوق لأن اختبئ في مكان ما لمدة خمس سنوات أو نحو ذلك لأنجز عملا جادا ، على أن أدرس وأتعلم كل شيء من بدايته، غير أنني ككاتب إنسان جهول تماما.
علق الشرقاوي : هذا هو تشيخوف»..كان يتمسك دائما بالبساطة المطلقة في أسلوبه القصصي وفي شخوص مسرحياته وحين كان الممثلون يطلبون منه أن يوضح كيفية أدائهم لأدوارهم كان يؤكد على أن كل شيء يجب أن يكون بسيطا شديد البساطة، وأن الأمر الأساسي هو عدم اللجوء إلى الأسلوب المسرحي المصطنع، ولقد قال هو نفسه بأنه أراد تصوير الحياة الحقيقية كما يعيشها الناس العاديون، إذ يقول: «يجب أن تكتب المسرحية حيث يجيء الناس ويلعبون ويتناولون عشاءهم ويتحدثون عن الطقس، ويلعبون الورق، يجب أن يتم تصوير الحياة كما هي تماما، وأن يتم تصوير الناس كما هم في الواقع، ليس كأنهم يمشون فوق رافع خشبية، ف ليكن كل شيء على خشبة المسرح يمثل بساطة حدوثه في الحياة الفعلية».
أضاف المخرج : ليس من اليسير أن تحصي عدد المقالات والأبحاث والكتب والمراجع التي كتبت أو ترجمت عن «تشيخوف» وأعماله، ليس فقط لغزارة إنتاجه ما بين القصص القصيرة والمسرحية ذات الفصل الواحد والمسرحية الطويلة، ولكن لأنه اختط في كتاباته منهجا مختلفا عما كان يعتنقه عظماء الأدب الروسي والذين عاصر معظمهم في ذلك الوقت، ولذلك كان من العسير عليّ أن أختار نقاط بداية لهذا البحث الصغير، تابع : «في الأسبوع الماضي كنت في زيارة لمسرحي  «مسرح الفن» فإذا بي أمام شعار كنت قد حفرته بالطوب الفرعوني على مدخل المسرح، توقفت على الفور.. لقد وجدت البداية من هذا الشعار الذي يقول على لسان تشيخوف: «اعطني خبزا ومسرحا، أعطك شعبا»، الخبز يعني الحياة الكريمة من مأكل ومشرب ومسكن والمستشفى والمدرسة، والمسرح يعني الثقافة.
وعلق الشرقاوي : «ليس من المستغرب إذن  أن يهتم تشيخوف رغم انشغاله الدائم بعمله كطبيب وبحبه كأديب بالتعليم الذي كان يعتبره بوابة الثقافة، يقول لأحد أصدقائه: «لو كان لدي الكثير من المال لبنيت هنا مصحة لمعلمي الريف المرضى، مبنى مضيئا يملئه النور بنوافذ متسعة وسقوف عالية، ولزودته بمكتبة رائعة وبمختلف أنماط الآلات الموسيقية وبمجموعات من خلايا النحل، وأحيطه بحديقة واسعة وبستان لأشجار الفواكه ونظمت فيه محاضرات حول أصول الزراعة، وأحوال الطقس وعلم الأرصاد، وما إلى ذلك من العلوم، فمن الواجب أن يعرف المعلمون في كل الأمور يا صديقي، وأن يلموا بكل الأشياء، يجب أن ندرك جيداً حاجه الريف الروسي للمعلمين الحاذقين جيدي الثقافة، وبكل بساطة علينا أن نوفر للمعلمين ظروف حياة ممتازة، وأن نفعل ذلك بأقصى ما نستطيع وبسرعة فنحن نعلم أن بلدنا سينهار إذا لم يحصل الناس على تعليم يتناول جميع جوانب الحياة، على المعلم أن يكون ممثلا وفنانا وإنسانا مغرما بعمله، أما معلمونا فهم بسطاء، سذج، أنصاف متعلمين، يذهبون إلى القرى قسرا، يعلموا أبنائنا وكأنهم يساقون إلى المنفى، ويتضورون جوعا، ويعيشون في رعب دائم من أن يفقدوا مصدر رزقهم، يجب أن يحتل المعلم المركز الأول في القرية، وأن يكون قادراً على الإجابة عن كل الأسئلة التي يطرحها عليه التلاميذ، حتى يصغوا لما يقول ويكنوا له الاحترام والتقدير، بحيث لا يجرؤ أحد على الصراخ في وجه معلمه أو الحط من كرامته كما يفعل الجميع في الوقت الحاضر في القرى».
تابع:  أخذ انطون تشيخوف يجاهد كي يتقدم في دراسته متجاهلا معدته الفارغة، وهموم أسرته الكثيرة التي تشغل ذهنه، وتحول من ذلك الإنسان المستغرق في أحلام اليقظة في بداية حياته إلى إنسان قادر على العمل بجهد، فأخذت درجاته تتصاعد باستمرار، بحيث أصبح أمله في الحصول على شهادة الدبلوم وفي دراسة الطب أمرين يصلان إلى درجة الهوس، وفي العطلات الرسمية وأيام الإجازات كان يتجه إلى المكتبة العامة التي فتحت حديثاً يقرأ كل ما يقع تحت يديه من كتابات، وبدأ تشيخوف يحلم بالكتابة ليس كأمر جدي بعد بل كوسيلة للتكسب، فمنذ شهر نوفمبر 1877 أرسل إلى أخيه «الكسندر» المقيم في موسكو بعض الأقاصيص، كي يعرضها على بعض المجلات هناك، لكن كانت النتيجة رفضا تاما، وفي عام 1879 استطاع أن يحصل على شهادة الدبلوم بعلامات مرتفعة من ممتاز إلى جيد جداً، وفي 6 أغسطس 1879 ركب القطار إلى موسكو لدراسة الطب.
استمر «انطون» ولأسباب مالية في إرسال ما يكتبه من أقاصيص إلى المجلات الهزلية وكان محررو هذه المجلات يريدون لهذه الأقاصيص أن تكون قصيرة ومفعمة بالحيوية مثل حكايات أو صور أدبية أو خيوط محبوكة تتناول شخصيات بليدة، وتحت توجيهات أخيه «الكساندر» التزم بالقواعد المطلوبة، وبعد رفض ما كتب مرة بعد مرة وجد العبارة التالية في عمود بريد القراء موجه للكتاب الناشئين في مجلة «الذبابة الفارسية» تقول العبارة: «لا بأس على الإطلاق بما كتبت سننشر ما أرسلت ونتمنى لك التوفيق في كتاباتك في المستقبل».
وبعد ذلك تلقى رسالة من المجلة تبلغه بأنها ستدفع له خمسة كوبيكات للسطر الواحد، ولكن كان عليه أن ينتظر فترة شهرين حتى نشرت قصته والتي تحمل عنوان «رسالة إلى جار مثقف»، وقد حملت توقيعا اقتصر على الحرف  (v).
ولم تكن لـ «انطون» في الواقع أي مطامح أدبية وكان طموحه يقتصر على اكتساب قدر من المال، بعد هذه البداية المشجعة أخذ يخصص معظم أوقات فراغه للكتابة وكان مطلوب منه بشكل أساسي أن يدخل البهجة على قلب رئيس التحرير، وبما أن القصص قصيرة والأجر متدني فكان عليه أن ينشر عددا وافرا لكي تبقى العائلة قادرة على الوفاء بالتزاماتها في نهاية الشهر.
وهكذا أخذ يرسل قصة بعد أخرى إلى مجلة «الذبابة الفارسية»، وقد أرسل 9 قصص في عام 1880، و13 قصة في عام 1881، وبحلول عام 1883 وصل العدد الكلي إلى 129 قصة، كان يكتب بسهولة تثير الدهشة إلا أنه كان يخجل أن يوقع باسمه ، وعمد إلى استعمال أسماء مستعارة شتى وكانت بعض كتاباته ترفض بعبارات قاسية.
وفي أكتوبر عام 1882 التقى تشيخوف بكاتب من بطرسبورغ، يدعى «نيكولاي ليكن» ويعمل رئيسا لتحرير مجلة أسبوعية شهيرة تسمى «شظايا»، واتفقا معا على أن يكتب قصصا قصيرة يدفع له عن كل سطر ثماني كوبيكات، وكان هذا المبلغ أعلى مما تعرضه أي مجلة من جرائد موسكو، وذلك بشرط أن تكون قصصا قصيرة خفيفة مرحة،  وفي العشرين من نوفمبر ظهرت أولى أعماله على صفحات المجلة تحمل توقيع «تشيخونتي»، ثم أخذت القصص تتوالى بعضها وراء بعض وبإيقاع متزايد مستمر حتى استطاع أن يطبع منها مجموعة على نفقته الخاصة تحت عنوان «حكايات  ملبومينا»، وكانت تحتوي على 6 قصص في 96 صفحة إلا أن هذا المشروع لاقى إخفاقا تجاريا هائلا، غير أن «تشيخوف» وجد بعض التعويض عن هذا الإخفاق حيث استطاع في يونيو 1884 أن يحصل على إجازة الطب وأن يحمل بطاقة دكتور وممارس للطب العام في المنطقة.
تابع جلال الشرقاوي: وفي خطاب له إلى أخيه «الكساندر» يقول: «أنني صحفي لأنني أكتب كثيرا ولكن هذا أمر مؤقت ولن انهي حياتي صحفيا، إن مستقبلي في سماعة الطبيب وليس في القلم»، أخذ وضع «تشيخوف» المادي يتحسن يوما بعد يوم وسرعان ما أصبح قادراً على شراء بعض الأثاث بالإضافة إلى جهاز بيانو، وحين بلغ الخامسة والعشرين من عمره انتصر كليا وإلى الأبد على العبد الذي كان يعيش داخله منذ ولادته، وكانت مطامحه في ذلك الحين تقتصر فقط على تأمين معيشة شريفة مريحة، وكان همه منصبا على تسلية قرائه أو تقديم ما يمكنه من إثارة أحلامهم.
وفيما بين عام 1880 و1884 نشر 300 قصة قصيرة تحت أسماء مختلفة وفي مجلات هزلية متعددة في موسكو وبطرسبورغ، ووسط ذلك الخليط من القصص المضحكة والمسرحيات الهزلية نجد القليل من القصص التي نلمح فيها تلميحا نفسيا وسخرية بارعة مثل قصة «موت موظف» و»بدين ونحيل» و»الحرباء» و»إجراءات مناسبة».


ياسمين عباس