«حريم النار» لوحة كانافاه مغزولة بحرفية

«حريم النار» لوحة كانافاه مغزولة بحرفية

العدد 644 صدر بتاريخ 30ديسمبر2019

عن نص الشاعر الأسباني “جارسيا لوركا” “بيت برنارد ألبا” كتب المصري شاذلي فرح نصه “حريم النار” الذي أخرجه محمد مكي ويعرض الآن على مسرح الطليعة.
وحين ذكرت “لوركا” قلت الشاعر ولم أقل الكاتب لسببين أولها أن كتابة الشعر سبقت كتابة المسرح عند لوركا، أما الثاني فهو اللغة الشعرية التي حرص الكاتب عليها رغم تحويل النص إلى اللهجة الصعيدية وهو من أهم الملامح التى أثرت العرض، خاصة مع إضافة فن العديد الذي يعتبر من أهم الطقوس المميزة للمجتمع الصعيدي.
كما أن الكاتب شديد الحرص على روح النص الأصلي فيما عدا اختصار الشخصيات على الأم وبناتها وخادمة واحدة وحذف شخصية الجدة والخادمة الثانية والمعزيين، وكذلك الحيلة التي لجأ إليها لإيجاد تبرير لتسلط الأم وشدتها في التعامل مع كل الناس مما جعلها مكروهة في بلدتها لدرجة عدم حضور أحد من أهل الزوج لتقديم واجب العزاء بعد وفاته، وهو القهر الذي وقع عليها حيث كان زوجها الأول مسن فلم تشعر معه إلا بالقهر خاصة أنه كان يضربها بالسوط بداية من يوم الصباحية، ثم زواجها من آخر حرمها من حقوقها كزوجة، وقد أوضح ذلك خلال مشهد مونودراما طويل لبطلة العرض الفنانة عايدة فهمي والتي استعرضت من خلاله قدراتها كممثلة بتعبيرات الوجهة والإيماءات وتوظيفها لعلم الصوتيات وتوحدها مع الشخصية والتنقل بين التراجيديا والكوميديا والسوداء، وبصرف النظر هل كتب المؤلف هذا الجزء خصيصًا لزيادة مساحة الدور للفنانة الكبيرة عايدة فهمي أم أنها وجهة نظره الخاصة لإضافة ما يسمى بمنطقة الأشياء أو إرجاعها لسبب منطقي يقتنع به المتلقي، أو أراد أن يضيف إلى النص على سبيل الإعداد لمجرد أن يثبت وجوده، فالنتيجة واحدة هي أن هذا المشهد إضاف للعرض ثراءً وتأثيرًا، كما أنه جعل وفاة قوت القلوب بسبب خروج طلقة من بندقية الأم من دون قصد فتصيبها ولم تنتحر كما حدث في نص لوركا، وربما اختار هذه النهاية لها لأنها أكثر ملائمة مع طبيعة شخصيتها المحبة للحياة، كذلك إقدام أخواتها جميعًا في لحظة واحدة على الانتحار. وفي رأيي أن هذه النهاية لم يكن لها تأثير كبير على العرض لكنها وجهة نظر الإعداد. لكن ما يؤثر فعليًا وقد أراه غير منطقي هو تمسكه ببقية التفاصيل كما هي رغم الاختلاف الشديد بين المجتمع الأسباني أو بمعنى أدق “الحضري” عن مجتمع الصعيد المصري، فما حدث من تفاصيل بين جدران هذا المنزل المغلقة أبوابه ونوافذه، تحدث فعليًا فكبت الحريات يولد الجرائم ولكن هذه الجرائم هي المسكوت عنها كأن تقع ثلاث شقيقات في حب رجل واحد، أو أن تلتقيه إحداهن في حظيرة الماشية، كل ذلك وارد لكن هل من الطبيعي أن تتحدث الفتاة في هذا المجتمع المنغلق مع خطيبها من خلال الشرفة حتى الواحدة بعد منتصف الليل؟ وأن تكون الأزمة الحقيقية أين كان من الواحدة حتى الرابعة فقط وأن تتقبل الأم ذلك ببساطة؟ كما أن وجود صورة الخطيب مع خطيبته في هذا السياق شيئًا عاديًا-وبالطبع لم أقصد هنا سياق المجتمع الصعيدي بل سياق هذا البيت- اعتقد أنه كان لابد من الانتباه لهذه الجزئية خاصة أن الإعداد شمل مناطق أخرى لم يكن لها هذا التأثير.
شمل الإعداد أيضًا تغيير أسماء البطلات بما يتلائم مع المجتمع الصعيدي، واختار أسماء أخرى ذات دلالات: الأم فتحية شلجم، قوت القلوب، روح محبات، طير البر، رئيسة، رسمية.  
“حريم النار” عرض أشبه بلوحة “كنافاه” نراها صورة جميلة فحسب ولم نستطع فصل هذه اللوحة إلى العناصر المكونة لها من رسوم وألوان وخيوط متداخلة من خلال غرز غاية في الدقة والتماسك يحيطها برواز أنيق، فهو نسيج درامي غزله المخرج محمد مكي بحرفية عالية فجمع كل عناصر العرض وأدخلها هذا البرواز ليقدم لنا عرضًا مسرحيًا غنيًا بعناصره المتشابكة والمتلاحمة دون نشاذ، من النص والملابس والأداء الحركي والموسيقى، فشاهدنا إضاءة إبراهيم الفرن بلونها الأزرق البارد الذي يعكس برودة هذا البيت الكئيب ولونها الأحمر مع تصاعد الأحداث وسخونتها والذي يعكسها الديكور الذي صممه د. محمد سعد مع الاستعانة بعدد من الفوانيس التراثية كجزء من الديكور، وقد تم توظيفها أثناء تلصصهن على بعض وفي النهاية في الانتحار.
هذا الديكور الثري الذي لم يترك مفردة من مفردات المنزل الريفي -الصعيدي على وجه الخصوص-  لدرجة أنه يكاد يكون طبيعيا بكل مفرداته: النخل. الباب. الشباك. المقاعد، السجاد الصوف، الأواني الفخارية، وبعض قطع الاكسسوار مثل البراد الصاج. المقشة المصنوعة من النخل، وأهم مايميزه هو القفص الذي يشبه السجن الذي يحمل دلالة مباشرة هي النافذة التي يطلون منها على العالم ودلالة رمزية هي السجن الذي يعشن فيه بكل ما يحويه من كبت للحريات والمشاعر، أما الصليب فأراه فقط لمجرد الحرص على روح النص الذي سبق وأشرت إليه، فلا يوجد بالعرض ما يدل على ديانة أهل المنزل، كذلك العمامة أعلى النخل، فالرجل طوال العرض غائبًا ولا وجود له إلا في حوارات الأم وبناتها والخادمة.
والملابس التي صممتها الفنانة شيماء محمود والتي تعكس الحالة العامة للمكان والأحداث والأشخاص ولم تغفل خصوصية كل شخصية من خلال ملبسها، كما أن موسيقى د. محمد حسني تعبر عن صوت الضمير أو الانفعالات الداخلية لكل شخصية، والتعبير الحركي يلعب دورا مهما في الدراما فقد برع الفنان محمد ميزو في تصوير الصراع بين الأم والأخوات، وكذلك الصراع الداخلي لكل منهن.
طبعًا لا يمكن إغفال أهم عنصر من عناصر العرض وهو آداء الفنانات، الذي يمثل مباراة فنية أكثر من رائعة فدائمًا يكون الانحياز لأفضل لاعب، والحق أن كل منهن لاعبة ماهرة تمتلك من الموهبة والتدريب ما يؤهلها لحمل عرض مسرحي بمفردها، وبالطبع الكلام يخص البنات وليس الأم فتحية شلجم الفنانة القديرة عايدة فهمي وقد أشرت فيما سبق لدورها في هذا العمل الذي أراها فيه قد تفوقت فيه على آداء نجمات كبيرات ما زلنا نذكرهن رغم رحيلهن وننسى مبدعات راسخات وقديرات تنتمي إليهن الفنانة القديرة عايدة فهمي.
أما البنات فرغم ثقتي الكبيرة في محمد مكي كمخرج لديه القدرة على اختيار الفنانين ووضع كل منهم في مكانه الذي سيبدع فيه أكثر إلا أن لدي شعور قوي بأن كل منهن قادرة على آداء جميع الشخصيات: كريستين عشم “طير البر”، أميرة كامل “رسمية”، نشوى حسن “رئيسة”، نسرين يوسف “قوت القلوب”، عبير لطفي “روح محبات”،  منال زكي “وردانة الخادمة”.
العرض إنتاج مسرح الطليعة بقيادة الفنان شادي سرور والذي تعودنا في عهده على إنتاج عروضًا مسرحية متميزة منها الطوق والأسورة الذي حصد جائزة الشيح سلطان القاسمي، وجائزة أفضل عمل متكامل بقرطاج.


نور الهدى عبد المنعم