العدد 625 صدر بتاريخ 19أغسطس2019
تأتي مسرحية “المتفائل”, التي يقدمها مسرحنا القومي العريق , لتكشف عن وقائع الخلل, التي يشهدها واقعنا الثقافي الآن ,من حيث الاستهانة بالكيانات الفكرية الكبرى , والتفريط في أبجديات الأمانة العلمية , واستباحة العلامات الفارقة في تاريخ الإنسانية , وتدمير القيم الفنية , وهدم كل معاني مصداقية الفن وقدسية المسرح , والإسهام المخيف في تزييف وعي المتلقي , والتكريس للردة والجهل والغياب .
هذه المسرحية مأخوذة عن رواية” كانديد” أو التفاؤل , للمؤلف والفيلسوف والمفكر فولتير, وهي تحمل أنضج وأجرأ أفكاره , عن الحرية والديمقراطية والوعي , وجدل العلاقة بين الوجود والإنسان ,كما أنها منسوجة من السياسة والاقتصاد والسلطة , وعذابات الإنسان , تموج بالرؤى الثائرة , وتدين القهر والتسلط والرضوخ , وتبحث عن المعنى والإرادة وامتلاك الذات , وهي تتميز أيضا بالدهشة والحركة والإيقاع والتفاصيل الغزيرة , واندفاعات الروح والجسد والأعماق , فقد انطلق فولتير بعيدا عن الأطر المرجعية الثابتة , وكتب ما أراد أن يقوله , وصل صوته إلى العالم , وعثر على الوسيلة التي , أتاحت له حق الاختلاف والإبداع والمواجهة , كان يرى ضرورة تغيير العالم , وليس تفسيره, فتجاوز قوانينه ومطلقاته , واندفع بعيدا عن الدوران , في أفق الثابت والكائن .
تناول المخرج” إسلام إمام “ , رواية كانديد وأعدها للمسرح , مؤكدا أنها تنتمي لفولتير- - , ولكن كان من المؤسف أنه اغتال فكر فولتير ودمر فلسفته , وانتهك رؤاه وحولها ببساطة إلى النقيض , فجاء بطل عرضه كانديد , كرمز للتفاؤل المطلق , الذي يرفضه ويدينه المؤلف المفكر , حيث يؤكد أنه كتب هذه الرواية بالتحديد , ليشرح وجهة نظره في رفضه لهذا المفهوم , وفي هذا السياق غاب فولتير تماما عن إعداد إسلام إمام , وانتفى وجوده , وأصبح اسم كانديد هو نوع من التزييف السافر ,لرؤى المؤلف الفرنسي الشهير , وحتى تتضح الحقائق علينا أن نتأمل ما يلي- -
“تعتبر رواية كانديد , هي أشهر قصص وروايات فولتير على الإطلاق , فهي النموذج الأوضح الذي يصور فلسفته
الساخرة , وهناك أحداث تاريخية هامة توضح دوافع فولتير لكتابة كانديد , ففي العام 1750, كان الفكر الرومانسي المتفائل مسيطرا بقوة على الفرنسيين , وذلك بتأثير نظرية الفيلسوف الألماني “ليبنتز”, التي تتلخص في( أن كل شيء على أحسن ما يرام ), وأن هذا العالم هو أفضل عالم يمكن أن يكون , ويذكر أنه في نوفمبر 1755, حدث زلزال لشبونة ,وبعده نشبت حرب السنوات السبع , وهما الكارثتان اللتان, دمرتا أرواح مئات الألوف من البشر , وفي هذا السياق كتب فولتير قصيدة , احتوت على تيارات من السخط والعذاب والتساؤلات الكثيرة عن العناية الإلهية , التي لم تجنب العالم هذه الكوارث, سواء من الطبيعة ,أو من شرور وآثام الإنسان .
عندما قرأ “جان جاك روسو”, هذه القصيد ة كتب إلي “فولتير”, يعاتبه وينكر عليه سخطه على الحياة, فرأى فولتير أن يرد على النقاد , وعلى كل المتفائلين , بتأليف رواية” كانديد” أو التفاؤل , التي يسخر فيها من نفاق الفلاسفة والبشر , ومن روح التفاؤل والرجعية , والتواكل عن الكفاح من أجل عالم أفضل , بحجة أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان “(1)
1-كتابي , حلمي مراد , مقدمة رواية كانديد , الكتاب 38 , السنة الرابعة, مايو 1955.
هكذا يتضح أن إعداد هذه المسرحية , قد افتقد مقومات وجوده , وشرعية انتمائه للفن والنقد وأساليب المعالجة , فلماذا نزيف فولتير ؟ ولماذا يكتب المخرج نصه الخاص ؟ ويندفع إلي مغامرة غير محسوبة , أدركنا معها الفرق بين” كانديد فولتير”, و”كانديد إسلام إمام”, الذي أفرغ النص تماما من محتواه الفكري , ومن جمالياته الفنية والفلسفية , ففقدت الحالة المسرحية كل شراستها الأخاذة, وتحولت إلى وجود مهزوز , غابت عنه القوة والإرادة والعمق السياسي والوجودي والإنساني , ولم يتبق إلا الاستهانة بعمل مرموق ينتمي لفولتير, الذي ستظل أفكاره ورؤاه تتردد , وتقبل الاشتباك والتفاعل , مع وقائع التناقضات الإنسانية المخيفة, وهكذا يعيش المتلقي حالة من التغييب والتسطيح , والاندفاع اللاواعي خلف براءة الأحداث الكوميدية , لنصبح في النهاية أمام انطبع قوي بأن ما نشاهده هو عرض أطفال أخلاقي , شديد المثالية , مغرق في التفاؤل والرومانسية.
من المؤكد أن المفهوم العلمي للإعداد , يتنافى وبشدة م ما يحدث على خشبة المسرح القومي , فعندما نتوقف أمام شخصية كانديد فولتير , نستطيع أن نلمس بوضوح ملامح تغير واختلاف ونضج الشخصية , حيث نراه في البداية فتى شابا ساذجا , عاش سنوات عمره في قصر خاله البارون , لا يعرف معنى الحياة والحب ,لكنه يؤمن بكل رؤى معلمه “بانجلوس”, الذي أكد له أن هذا الكون يسير على أفض حال , وعندما خرج من القصر , ودفعته الظروف إلي مواجهة العالم, أدرك شيئا فشيئا أن الوجود الإنساني مسكون بالعذابات والشر والتناقضات , محكوم بالمؤامرات والزيف والحرب والقهر والغياب , واستطاع أن يمتلك ذاته ويواجه أقداره, ففي الفصل الثامن من الرواية نقرأ عن ذلك اليهودي , الذي مش انقض على كانديد مشهرا خنجره المدبب , فاستل كانديد سيفه , وسرعان ما ألقي بالرجل جثة هامدة , وكان الفتى يقول لنفسه - - , بدأت أغمس يدي في الدم , ولا داعي للتردد, واندفع بقوة وقتل كبير المحققين , ثم هرب بعد ذلك وترك حبيبته كوندا, التي عشقها الحاكم , وفي سياق متصل نعلم أنه اضطر إلي قتل شقيق” كوندا “, الذي ظل يرفض زواجه من أخته , رغم أنها فقدت كل جمالها , وأصبحت جارية تباع وتشتري.
خان الفتى حبيبته كوندا , ومارس الحب مع الماركيزة الفرنسية , وبكى وهو يعلن بقوة “أواه بانجلوس – إنني مضطر أن أنبذ تفاؤلك , فمن المكابرة الزعم , بان كل ما في الدنيا خير , في حين أنه شر “ , وهكذا يتضح أن براءة بطل فولتير , قد ذهبت إلي غير رجعة , وأنه تحول إلي ابن شرعي, لواقعه الشرس المخيف , فهرب من الحرب, سرق , قتل , خان , وارتكب الخطيئة , ونبذ التفاؤل, وتخلى عن الثقة في أن كل ما في الدنيا خير, بعد أن عرف وجهها القاسي سلام أمام في دائرة البراءة المطلقة , والتفاؤل المثير , ظل طفلا بريئا مشاغبا خفيف الظل ,لا نستطيع إلا أن نحبه , وظلت شخصيته بعيدة تماما عن أي ملمح من ملامح التصاعد أو التطور, لم يتفاعل مع الظروف القاسية التي , تعرض لها وظل متفائلا, بعيدا عن المواجهات الدامية وعن جرائم السقوط الأخلاقي, ويذكر أن مشهد مقتل اليهودي وكبير المحققين , قد جاءت صياغته الجمالية والدلالية , لتؤكد انتفاء الإرادة والإصرار, وتوضح أن ما حدث قد جاء بالصدفة , وبأسلوب الخطأ, الذي يكرس لبراءة كانديد , عبر تيارات الكوميديا والجروتسك , وموجات الضحك الساذج.
اضطر المخرج وصاحب الإعداد إلى إلغاء العديد من شخصيات وحوارات نص فولتير , وذلك وصولا إلي إفراغ العمل من محتواه الفكري المتمرد, لنصبح أمام حالة فاترة , تكرس للسائد والكائن , وتتجه بقوة نحو نفي رؤى الجدل السياسي والوجودي والإنساني, وفي هذا السياق نتعرف على ذلك الحوار الخلاب , الذي حذفه المخرج , رغم جمالياته الإنسانية الثائرة , فقد كان بانجلوس يشرح نظريته للسيد جيمس , الذي يعمل في نسيج الحرير الفارسي , مؤكدا أن كل شيء قد خلق , بحيث لا يمكن أن يكون خيرا مما هو -- , لكن جيمس يعارضه قائلا
“ لابد أن الجنس البشري قد انحرف في بعض أموره , عن براءته الأولى , لان الناس لم يخلقوا ذئابا , ومع ذلك تراهم يطاردون أحدهم الآخر , كما تفعل الضواري , إن الله لم يمنحهم مدافع ولا سيوف , ومع ذلك صنعوا المدافع , ليقضي كل على الآخر.”
وفي حوار آخر--, التقى كانديد وكاكامبو في السهل البهيج , أو بلاد الذهب , بالشيخ النقي العجوز فقال لهما –
إن سكان بلادنا ظلوا على نقاء نفوسهم , فنحن نعبد الله الواحد , ولكن الناس لا يرفعون إليه الدعوات , فليس هناك ما يسألونه إياه, لأنهم أوتوا كل شيء , ليس لديهم كهنة ولا رهبان , يثيرون الخلافات , ويحاولون فرض نفوذهم على الناس , ليس في هذه البلاد محاكم , أو سجون , لكن بها قصر للعلوم.
وفي موضع آخر –
التقي كانديد في هولندا , بذلك الزنجي المستلقي على الأرض ,ليس له سوى ذراع واحدة , وساق واحدة --, سأله عن أمره , فقال أنه ينتظر مولاه التاجر المشهور , فتعجب الفتى لرجل يستخدم عبدا عاجزا بهذا الشكل , لكن الزنجي قال له” هذه هي العادة هنا , عندما يفقد عامل في مصنع السكر إصبعا , يقطعون يده -- , فإذا حاول الفرار بتروا ساقه , وبهذا الثمن تحظون بالكر في أوروبا , ومع ذلك فإن أمي حين باعتني في غينيا , قالت لي , بارك يا بني سادتنا البيض , وسوف تفخر بأن تكون عبدا للسادة --, ولكني أتعجب من السادة اللذين يعلموني الدين , حين يقولون في كل يوم احد , أن السود والبيض سواء --, كلهم أبناء آدم. “, هنا صرخ كانديد وهو يقول إنني مضطر أن أنبذ تفاؤلك يابانجلوس-- , فالعالم من حولي شر مستطير.
قرر كانديد أن يختار أحد أسوأ الناس حظا وأكثرهم نحسا , ليرافقه في رحلته , وقد تناول المخرج هذا المشهد , وبعث به حالة هزلية كوميدية شديدة الوهج والتصاعد, لكنه بالطبع لم يتعرض للحوار الجدلي الدال , الذي يكشف أعماق الطالب مارتن-- , فقد سأله كانديد عن رأيه في فلسفة الحياة , وفي خير الطبيعة وشرها , فقال مارتن—
“الشيطان يهتم كثيرا بشئون دنيانا ,ولكني لا أملك كلما جلت ببصري في الأرض , إلا أن أرى أن الله قد نبذها , وتركها لمخلوق شرير, فما أكاد أعرف مدينة لا تبغي القضاء على جارتها , ولا أسرة لا تطمع في هلاك أسرة أخرى , والفقراء في كافة أرجاء الأرض يكنون البغضاء للأغنياء, حتى وهم يزحفون ويتعلقون بأذيالهم , والأغنياء يعاملون الفقراء كما لو كانوا غنما يقايضون على لحمهم .
أخيرا- - نحن أمام العديد من التساؤلات التي نبعثها للمخرج إسلام إمام - - , فلماذا دخل هذا العالم الشائك , المسكون بالفكر الثائر, ثم تراجع وتوقف عند حدود اسم كانديد فقط ؟ فما هي رسائلك ؟ وماذا قدمت ؟ وأين هو فولتير المفكر والفيلسوف والمؤلف ؟ ؟أ
نحن أمام إشكالية ثقافية كبرى , تتعلق بتزييف فكر أهم فلاسفة العصر الحديث , وهذه القضية هي مسئولية المثقفين والنقاد والمسرحيين , مسئولية المسرح القومي وإدارته ومكتبه الفني , وعلى مستوى آخر , فإن مسرحية المتفائل , قد حققت نجاحا جماهيريا مبهرا , وإقبالا عاليا , وإيرادات متميزة , ورغم ذلك فإن الحقيقة لها وجه آخر , باعتبار أن النجاح الحقيقي , لا يقاس فقط بالجمهور والإيرادات , وعلينا أن ندرك جيدا , أنكم زيفتم أعماق الجمهور , وقتلتم وعيه , وأهدرتم إمكانية معرفة الناس بفكر فولتير .
رغم التحفظات التي توقفنا أمامها , إلا أن المخرج قدم عرضا ضخما متقنا , تميزت كل المفردات بالوهج والجمال والإبهار , من حيث الملابس , الموسيقى والغناء , الاستعراضات , والتشكيل السينوغرافي , الذي كشف عن حس إبداعي رفيع المستوى, يموج بالتناسق والبساطة , ورشاقة الحركة والضوء والإبهار, ويذكر أن النجم سامح حسين , قد شارك بقوة في صناعة هذا النجاح , ومعه فريق العمل من الفنانين سهر الصايغ , يوسف إسماعيل , عزت زين , سوسن ربيع , تامر الكاشف , مع مجموعة من شباب المسرح القومي.
كان الديكور للفنان حازم شبل , والموسيقى لهشام جبر , والملابس لنعيمة عجمي , والإضاءة لبكر الشريف, والاستعراضات لضياء وشفيق,والأشعار لطارق علي.