عبد الحسين عبد الرضا ..البرج الرابع (1)

عبد الحسين عبد الرضا         ..البرج الرابع (1)

العدد 615 صدر بتاريخ 10يونيو2019

في أوائل عام 2016 اتصل بي الأستاذ جمال اللهو – مدير مهرجان الكويت الدولي للمونودراما - وأخبرني بأنه سيقوم بإصدار كتاب عن الفنان الكبير عبد الحسين عبد الرضا، وسيصدر الكتاب في معرض الكويت للكتاب، وسيتم توزيعه مجاناً في المعرض، وفي حضور الفنان عبد الحسين، الذي سيوقع على النسخ المجانية للجمهور. وأخبرني الأستاذ جمال أيضاً بأن الكتاب سيشارك في كتابته مجموعة من الأساتذة الأفاضل، وعلى رأسهم أستاذ الأجيال الدكتور كمال عيد، وكذلك الصديق الدكتور محمود سعيد، بحيث سيتولى كل أستاذ كتابة فصل من الكتاب. واستمر الأستاذ جمال في حديثه، قائلاً: إن الفنان القدير عبد الحسين عبد الرضا اختارك بالاسم لكتابة الفصل الخاص ببداياته المسرحية، لما هو معروف عنك من دقة وموضوعية في هذا الجانب، ثم استدرك قائلاً: وهذا الاختيار أكده الأستاذ محمد حجازي بفرقة المسرح العربي، والذي كان حاضراً، وتحمس لاختيارك في كتابة فصل من أهم فصول الكتاب، وهو فصل بدايات عبد الحسين عبد الرضا المسرحية!!
وبالفعل، بدأت في الكتابة والنبش حول بدايات عبد الحسين المسرحية، ووصلت إلى نتائج مرضية، بفضل الوثائق والدوريات القديمة. وفي بعض الأحيان، كنت أخالف الفنان فيما ذكره عن نفسه في بعض اللقاءات أو الحوارات الصحافية!! فعلى سبيل المثال مسرحية “مضحك الخليفة أبو دلامة” التي عُرضت عام 1963، قال عبد الحسين في لقاءات تلفزيونية إنه شارك في تمثيلها!! والحقيقة إنه شارك في تمثيل تدريباتها (بروفاتها) – بوصفه احتياطياً – بدلاً من الممثل الأساسي للدور، وهو عبد الرحمن الضويحي، الذي أدى الدور أمام الجمهور!! ووقع جمال اللهو في حيرة أمام هذه المعلومة، فقام بالاتصال بالفنان عبد الحسين في لندن، حيث ضحك الفنان وقال: كلام الدكتور سيد علي هو الصحيح، لأنني بالفعل كنت أمثل البروفات، ولم أمثل هذه المسرحية أمام الجمهور، والأمر اختلط عليّ ولم أتذكره بعد مرور خمسين سنة علي حدوثه!!
وفي يوليو 2016 أنهيت دراستي، وسلمتها إلى الأستاذ جمال اللهو، وكانت بعنوانين للاختيار بينهما: الأول “عبد الحسين عبد الرضا مؤسس الكوميديا الخليجية”، والعنوان الآخر “ عبد الحسين عبد الرضا بين فرقتي المسرح العربي والوطني”. وبعد عدة أشهر، سألت الأستاذ جمال عن مصير الكتاب، فقال إنه أخذ موافقة الفنان عبد الحسين عبد الرضا على كل كلمة مكتوبة في الكتاب، واعتمد كل شيء، وشاهد الفنان بنفسه تصميم الكتاب وصوره ومقاساته وألوانه، حتى عنوان الكتاب، تم اختياره، وهو “عبد الحسين عبد الرضا .. البرج الرابع”؛ كناية على مكانة هذا الفنان في الكويت، التي تشتهر بأبراجها الثلاثة، لذلك يُعدّ عبد الحسين عبد الرضا البرج الرابع في الكويت، كما نقول في مصر – عندما نفتخر بشخص – إنه الهرم الرابع!!
مرّت الأيام، واتصلت بالأستاذ جمال لمعرفة آخر تطورات الكتاب، فقال إنه في انتظار عودة الفنان عبد الحسين من لندن؛ حيث سافر للقيام ببعض الفحوصات الطبية. وشاء القدر ألا يعود الفنان بروحه، بل عادت جثته!! فقد توفاه الله في لندن يوم 11 أغسطس 2017!! وموته كان صدمة للجميع؛ لأنه فنان لا يتكرر مرة أخرى!! وتوقعت أن الكتاب سيصدر بعد أيام من وفاته؛ وفاء له، وتذكيراً للأجيال القادمة بدوره الكبير .. وللأسف لم يصدر!! فتوقعت صدوره في ذكرى وفاته الأولى العام الماضي .. وللأسف الشديد لم يصدر!! أما توقعي الأخير، فكان صدور الكتاب في ذكرى وفاته الثانية هذا العام في أغسطس 2019 .. لذلك اتصلت بالأستاذ جمال اللهو، الذي صدمني قائلاً: الكتاب لن يصدر في ذكراه الثانية، ولا أظنه سيصدر مستقبلاً؛ بسبب بعض العراقيل الخارجة عن إرادته!!
وبناءً على ذلك، أقول: إلى كل من يضع العراقيل أمام إصدار كتاب “عبد الحسين عبد الرضا البرج الرابع” .. اتقوا الله فيما تفعلونه في حق هذا الفنان القدير!! فعبد الحسين عبد الرضا، ليس ملكاً للكويت فقط، بل هو ملك العالم العربي بأكمله!! ويحق للجميع قراءة هذا الكتاب، الذي قرأه واعتمده الفنان القدير قبل وفاته .. فأقل تقدير أن ننشر ما قرأه عبد الحسين عن نفسه، وارتضى أن يُنشر في حياته، فلماذا نمنع كل ذلك بعد مماته!! أما أنا .. فسأقوم بواجبي تجاه هذا الفنان القدير، وأنشر دراستي عنه في جريدة مسرحنا – على عدة حلقات – وفاءً لهذا الفنان القدير، واحتراماً لاختياره لي لأن أكتب عن بداياته المسرحية في الكويت؛ حيث إن هذا الاختيار بمثابة وصية ميت .. يجب تنفيذها!!
تمهيد
في عام 1948، فكّر أحد تجار الكويت في فتح سينما عامة للجمهور؛ ولكن السلطات رفضت، ففتحها آخرون بصورة خاصة في بيوتهم وفي الساحات والميادين، وشجعهم على ذلك التاجر مراد يوسف بهبهاني – صاحب محطة إذاعة (شيرين) أول محطة إذاعية كويتية خاصة – وهو أيضاً التاجر المتخصص في بيع الراديوهات وماكينات السينما ماركة (R.C.I) في الكويت والبحرين ومسقط ودبي. ومع انتشار هذه الآلات السينمائية، نادى عبد العزيز الغربلي بوجوب افتتاح سينما عامة في الكويت “بدلاً من العرض في البيوت الخاصة، وازدحام الفقراء أمام البيت، ورميه بالطوب، واستدعاء الشرطة لفض الجمهور، الذي يريد أن يشاهد، أو يحقد على الأغنياء”، كما نشرت مجلة البعثة عام 1954.
ومن خلال عروض السينما الخاصة هذه، بدأت موهبة التمثيل تتكوّن عند الفنان القدير عبد الحسين عبد الرضا، وهو في سن الصبا، عندما شاهد الأفلام المصرية – الأبيض والأسود، وتحديداً فلمي “عنتر وعبلة، والفارس الأسود” – التي كانت تعرضها شركات النفط، وكبار الأسر والعائلات في ساحة الصفا. وعندما يعود مع أصدقائه إلى فريج العوازم بعد المشاهدة، كان يعيد تمثيل ما شاهده مع أطفال الفريج.
وتنتقل موهبة التمثيل – عند الفنان عبد الحسين عبد الرضا - من مرحلة المحاكاة والتقليد؛ إلى مرحلة التمثيل الفعلي في عروض المسرح المدرسي بمدرستي المباركية والأحمدية. ويروي لنا الفنان – في هذا الصدد في البرنامج التليفزيوني “أسماء لها ذكرى” - قصة طريفة، مفادها: أن ناظر المدرسة – الأستاذ صالح عبد الملك – كلّف الأستاذ عبد العزيز الحسيني – مدرس الجغرافيا والتاريخ – بتدريب بعض الطلاب الموهوبين في التمثيل، على عرض مسرحية حول عدالة عمر بن الخطاب. وبالفعل وقع اختيار الأستاذ على مجموعة من الطلاب، منهم عبد الحسين عبد الرضا، وعبد الوهاب سلطان. وحضر العرض الشيخ عبد الله الجابر الصباح رئيس مجلس المعارف، ومجموعة من الشخصيات المهمة. وعندما رُفع الستار وشاهد عبد الوهاب سلطان الشيوخ أمامه في أول صف، اضطرب ونسى حواره! هنا تدخل عبد الحسين عبد الرضا محاولاً إنقاذ الموقف دون جدوى، فأمر الناظر بإنزال الستار، ووبخ الأستاذ عبد العزيز الحسيني، فقام الأستاذ بضرب عبد الوهاب سلطان بعصا الخيزران، وطارد عبد الحسين كذلك لضربه، مما أحدث جلبة وصياح سمعها الشيوخ والجمهور، لأن الميكروفونات كانت مفتوحة! ورغم ذلك أكمل الطلاب العرض، وكان الحوار بينهم يدور مختلطاً ببكائهم.
هكذا كان النشاط المسرحي في الكويت – قبل عام 1958 – متمثلاً في العروض المدرسية، وعروض النوادي الرياضية والكشفية، وعروض فرقة المسرح الشعبي الارتجالية، التي كان يقدمها محمد النشمي. وهذا النشاط بهذه الصورة؛ أصبح لا يليق بالكويت – من وجهة نظر القائمين على نشاطها الثقافي والمسرحي - بوصفها دولة نفطية فتية، تريد أن تبدأ حياتها بعد الاستقلال بصورة حضارية متطورة في كافة المجالات، ومنها المجال الفني؛ لذلك استقدمت الدولة الأستاذ زكي طليمات من أجل إقامة نهضة مسرحية على أسس علمية سليمة في الكويت.
وبالفعل جاء زكي طليمات، ومكث في الكويت شهرين وبضعة أيام - من 4 يناير إلى 19 مارس 1958 - وقام في هذه الفترة بمهمتين: الأولى، خاصة بدائرة المعارف، وفيها قدم محاضرتين، وعرضاً مسرحياً استعراضياً. والمهمة الأخرى، خاصة بدائرة الشؤون الاجتماعية والعمل، وفيها قدم تقريراً تفصيلياً عن مظاهر النشاط الفني بالكويت ووسائل تدعيمه والارتقاء به. وهذا التقرير احتفظ به المسؤولون في الكويت ثلاث سنوات، ومن ثم قرروا استقدام زكي طليمات مرة أخرى عام 1961؛ كي ينفذ الخطة الإنشائية، التي ذكرها في تقريره من أجل إقامة النهضة المسرحية في الكويت!
وفور وصول طليمات إلى الكويت، نشرت جريدة الرسالة يوم 4/5/1961 حواراً معه، تحت عنوان “زكي طليمات يقول: الكويت مشوق إلى التعبير عن ذاتيته”! وفي هذا الحوار أبان طليمات عن غرض استقدامه، المتمثل في تنفيذ توجيهات سعادة الشيخ صباح الأحمد رئيس دائرة الشؤون الاجتماعية – وقتذاك - في تكوين فرقة مسرحية تُقدم مسرحيات عربية باللسان الفصيح؛ من أجل إحياء أمجاد العروبة، واستخلاص العبر منها.
ظل زكي طليمات – خمسة أشهر - يخطط لتكوين هذه الفرقة، حتى صدر قرار إنشاء فرقة المسرح العربي في 10/10/1961؛ دون أن يكون لأعضاء الفرقة وجود فعلي، لذلك أعلنت الإذاعة الكويتية بياناً قصيراً، تدعو فيه الشباب الكويتي من هواة المسرح إلى التقدم للانخراط في الفرقة، فلم يتقدم إلا عدد محدود. فتوسعت دائرة الإعلان من خلال الصحف الأسبوعية ودور السينما والتليفزيون، ونتج عن ذلك تقدم مائة وخمسون شاباً من الكويت ومن العرب المقيمين في الكويت، وكان منهم عبد الحسين عبد الرضا، وعبد الوهاب سلطان، الموظفان بالقسم الفني للمطبوعات والنشر بوزارة الأنباء والإرشاد.
وفي الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس الموافق 2/11/1961 - وفي مركز رعاية الفنون الشعبية - تم تقييم القدرات التمثيلية لبعض المتقدمين، ومنهم عبد الحسين عبد الرضا، الذي نال تقدير جيد، وعبد الوهاب سلطان الذي نال تقدير متوسط من لجنة التقييم المتكونة من: زكي طليمات، ومحمد النشمي المشرف على رعاية الشباب، ومحمد همام الهاشمي الخبير الاجتماعي. وكانت اللجنة تعطي تقديراتها؛ وفقاً لتعمق المتقدم في الانفعال بما يؤديه من إلقاء وتمثيل من حيث جهارة الصوت، وتمحيص الحروف وسلامة النطق.
وهكذا تمّ قبول عبد الحسين عبد الرضا عضواً في فرقة المسرح العربي، مع صديقه عبد الوهاب سلطان، الذي لولاه ما كان أقدم عبد الحسين على هذه الخطوة! وهذه الحقيقة اعترف بها عبد الحسين في إجابته على سؤال مجلة عالم الفن عام 1983: من الذي اكتشفك؟ فأجاب قائلاً: “ الفضل كله يرجع إلى زميلي وصديقي عبد الوهاب سلطان فهو زميلي في العمل وفي الدراسة. وعملنا مع بعض مدة طويلة، وهو الذي أخذ بيدي وشجعني وانضممنا إلى فرقة المسرح العربي”.
صقر قريش
كان يوم الأحد - الموافق 18 مارس 1962 - يوماً مشهوداً في تاريخ عبد الحسين عبد الرضا؛ حيث كان ظهوره – ولأول مرة – ممثلاً مسرحياً في دور العرّاف (منارة) في مسرحية (صقر قريش) – باكورة افتتاح نشاط فرقة المسرح العربي – التي عُرضت على مسرح ثانوية الشويخ ثمانية عشر عرضاً، وهي من تأليف محمود تيمور، وإخراج وبطولة زكي طليمات مع مجموعة كبيرة من أعضاء الفرقة. والمسرحية تدور أحداثها حول الشخصية التاريخية المعروفة عبد الرحمن الأموي، المُلقب بصقر قريش؛ بوصفه قائداً حربياً وزعيماً سياسياً، استطاع أن يصنع التاريخ، ويؤسس لدولة العرب في الأندلس.
والجدير بالذكر إن القدر وحده، هو من جعل عبد الحسين يؤدي هذا الدور! فمن المعروف أن زكي طليمات، كان يعطي الدور الواحد لشخصين من أجل تدريبهما على التمثيل، ودور العراف (منارة) كان موزعاً على عدنان حسين – أساسياً - وعبد الحسين عبد الرضا – احتياطياً - وقبل عرض المسرحية بعدة أيام تغيب الأساسي عدنان، مما جعل طليمات يسند الدور إلى الاحتياطي عبد الحسين!! وللتاريخ نقول: إن دور (منارة) لم يستمر عبد الحسين في تأديته وحده، بل عاد إلى الفرقة عدنان حسين، وكان يتبادل تمثيل الدور مع عبد الحسين.
وعلى الرغم من أن بطل هذه المسرحية – التاريخية فصيحة الحوار - كان زكي طليمات صاحب دور صقر قريش إلا إن القدر – أيضاً - أظهر بطلاً كوميدياً آخر، ظهرت موهبته في موقف تمثيلي واحد؛ حيث قام – رغماً عنه – بإبدال الموقف الجاد بآخر هزل، وأبدل الحوار الفصيح بآخر عامي كويتي اللهجة!! هذا البطل هو عبد الحسين عبد الرضا، الذي حكى هذا الموقف في حواره المنشور بمجلة “عالم الفن” عام 1983، قائلاً:
“ كنت أقوم بدور – منارة – المنجم في مسرحية صقر قريش مع فرقة المسرح العربي، التي كان يشرف عليها في حينها الأستاذ زكي طليمات، والذي كان يقوم بنفس الوقت بدور بطل المسرحية. وكان الدور يتطلب مني أن تكون لي لحية طويلة، تصل إلى أواخر صدري. فاندمجت بالدور، ووضعت كمية البارود التي لم يأتِ بها المخرج إلا ليلة العرض كلها في النار المشتعلة أمامي. وكان من الطبيعي أن ينفجر البارود بشكل مفزع، حتى تُطاول لحيتي بكاملها، فصرخت من فزع المفاجأة، وانتابتني حالة من السرحان، نسيت بعدها دوري الذي كان باللغة العربية الفصحى. فأخذت أتحدث باللهجة العامية، وباقي الممثلين ملتزمين بالنص مما أدى إلى أن أخذ الجمهور يضحك من هذا الحوار الملخبط .. فدخل زكي طليمات وفوجئ بهذا الحوار الدائر فقال لبقية الممثلين بلهجته المعروفة: هو بيخرف بيقول إيه؟ .. ثم أحس إنه على الخشبة فأراد إنقاذ الموقف وإعادتي إلى نص المسرحية فسألني: مالك أيها الرجل؟؟ فرديت عليه مخيباً ظنه: مولاي لقد بق وجهي! فازداد ضحك الجمهور، الذي ظل يضحك إلى أن أُـسدلت الستارة “.

 


سيد علي إسماعيل